el bassaire

vendredi 15 novembre 2013

أصول الفقه



أصول الفقه
د. أحمد الرشيد

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فحياكم الله، وأهلًا وسهلًا بكم في بداية هذه المحاضرة الجديدة من محاضرات مادة أصول الفقه.
سيكون مدار الحديث في هذه المحاضرة -بإذن الله عز وجل- ما يتعلق بمسائل الاجتهاد والتقليد، ونحن ذكرنا في بداية محاضرات هذه المادة أن أصول الفقه يُمكن أن يُقسَّم من ناحية موضوعية إلى أربعة أقسام:
- القسم الأول: الحكم وما يتعلق به.
- القسم الثاني: الأدلَّة وما يتعلق بها.
- القسم الثالث: دلالات الألفاظ وما يتعلق بها.
- القسم الرابع: الاجتهاد والتقليد.
وبحمد الله انتهينا من الأقسام الثلاثة الأوَل، وانتهينا من الحكم بمسائله، والأدلَّة بمسائلها، والدلالات بمسائلها، ونبدأ في هذه المحاضرة بعون الله وتوفيقه فيما يتعلق بكتاب الاجتهاد والتقليد.
هذا الكتاب من الكتب الأصوليَّة المهمة، وذلك نظرًا لأنه يتناول شخصية العالِم الذي يقوم بالنظر في الأدلَّة من الكتاب والسنة، ومن ثَمَّ يقوم باستنباط الأحكام الشَّرعيَّة ويُبيِّنها للناس، كما أن هذا الكتاب أيضًا يُبيِّن الطرف الآخر في عمليَّة استنباط الأحكام وهو المقلِّد، ومعلوم أن المقلِّد ليس قادراً على استنباط الأحكام، ولكنه في الوقت نفسه هو مطلوب منه أن يمتثل هذه الأحكام، فامتثال هذه الأحكام سيكون عبر طريق السؤال والإفتاء، والسؤال والإفتاء لهما أحكام لا بد من بيانها، ولذلك هذا الباب وإن كان في الأساس يخص المجتهد إلا أن المقلِّد أيضًا بحاجة إليه.
هذا الباب -أو هذا الكتاب- يشمل مسائل عديدة:
- منها ما يتعلق بالاجتهاد.
- ومنها ما يتعلق بالتقليد.
- ومنها ما يتعلق بالفتوى.
- ومنها ما يتعلق بتعارض الأدلَّة.
هذه أقسام أربعة كلها داخلة تحت كتاب الاجتهاد والتقليد.
وإذا أردنا أن نعبر عن هذا الكتاب بتعبير دقيق يكون صادقًا على جميع أجزائه فنقول: الاجتهاد والتقليد والفتوى والتعارض والترجيح.
نبدأ أول الأمر فيما يتعلق بكتاب الاجتهاد، وسنأخذ فيه عددًا من المسائل المهمَّة.
نبدأ أولًا بالتعريف كما هو المقرر في مناهج التدريس ومناهج البحث، فإنك لا تستطيع أن تتعلق في أي أمر من الأمور إلا بعد تعريفه.
فالاجتهاد عُرِّف في اللغة: بأنه بذل ما فيه كَلَفة ومشقَّة.
والناس في عُرفِهم إنما يصفون العمل بالاجتهاد إذا كان مقرونًا بالتعب والمشقة، أما إذا كان عملًا يسيرًا لا يترتب عليه تعب ولا مشقة فإنهم لا يصفونه بالاجتهاد، فأنت تقول: اجتهد -مثلًا- في حمل الحصاة الكبيرة، أو في حمل الآلة الكبيرة، ولكن لا تقول: اجتهد في حمل القلم، أو في حمل الورقة.
هذا المعنى اللغوي له علاقة بالمعنى الاصطلاحي، ودائمًا إذا أردنا أن نعرف المصطلحات من الناحية اللغوية سواء في الأصول أو في الفقه أو في غيرها من العلوم؛ لا بد أن نركِّز على التعريف اللغوي المناسب لما نحن فيه، وإلا من المعلوم أن اللغة واسعة، وكثيرة المعاني، ومتعددة الاستعمالات، ولكنَّا لا نأخذ منها إلا ما كان مناسبًا للمقام الذي نتحدَّث فيه.
فنقول: الاجتهاد في اللغة هو: بذل المجهود.
والمجهود في اللغة: هو ما في كَلَفة ومشقَّة وتعب وما إلى ذلك.
وأما في الاصطلاح فقد تعددت عبارات الأصوليين في تعريف الاجتهاد، ومن هذه التعريفات أن الاجتهاد هو: بذل الوسع والطاقة في طلب الحكم الشرعي.
هنا لما قلنا: بذل الوسع والطاقة؛ دلَّ على أن الاجتهاد قائم على التعب وحصول المشقة، لأن بذل الوسع والطاقة هو في الغالب نهاية الأمر، حينما يقول الإنسان: أنا استفرغت وسعي في هذا الموضوع؛ أي بذلت كل ما أستطيع أن أقوم به في هذا الموضوع، وكذلك الطاقة، فالطاقة هي نهاية الاستطاعة.
وهذا التعريف هو دالٌّ على حقيقة الاجتهاد، فإن العالم إذا أراد أن يُبين حكم مسألة من المسائل فلابد له أن يجتهد فيها، واجتهاده فيها إنما هو ببذل كل ما يستطيعه من النظر والتأمل والتعقل والتدبر والجمع فيما يتعلق بالأدلَّة، وأيضًا النظر في أقوال العلماء، وما يتبع ذلك من مآلات الأفعال، وما يتصل بتوافق هذا الحكم مع المقاصد الشَّرعيَّة ومع اللغة العربية وما إلى ذلك كما سيأتي معنا -إن شاء الله- في ثنايا هذه المحاضرة والتي بعدها.
إذن الاجتهاد ركنه الأهم والأكبر هو: بذل ما يستطيعه الإنسان.
وهذه قضية نسبية، بعض العلماء ربما يجتهد أكثر من غيره نظرًا لأن لديه قدرة أكثر من العالِم الآخر، أيضًا بعض العلماء ربما لديه من أدلة والمؤثرات في المسألة أكثر من العالِم الآخر، لكن هي قضيَّة نسبيَّة، فأنت إذا غلب على ظنك أنك قد بذلت كل ما تستطيع في هذه المسألة فإنه يصدق عليك أنك مجتهد.
إذن الاجتهاد هو بذل الوسع والطاقة في طلب الحكم الشرعي.
طبعًا الأصوليون لهم تعريفات أخرى للاجتهاد، ولكننا نكتفي بهذا التعريف، لأننا دأبنا على أن المقصود من التعريف هو تمييز الشيء في الذهن وتقريبه وتمييزه عمَّا يشبهه من الأمور.
وإذا عرفنا التعريف سيأتي معنا بعض الإشارة إلى ما يتعلق بالاجتهاد.
ما يتعلق بحكم الاجتهاد. هل الاجتهاد مطلوب أو ليس مطلوبًا؟ هل يمكن أن نقول إن الاجتهاد واجب على الجميع أو أنه تجري عليه الأحكام التكليفية الخمس؟ هل يمكن أن نقول إن حكم الاجتهاد قد يختلف باختلاف الأمور التي يجتهد فيها الإنسان؛ فقد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون محرمًا في بعض الأحيان، فما الرأي في مثل هذا؟
نعم، تفضل..
{نقول: فيه تفصيل، قد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون محرمًا}.
هل يمكن أن يكون الاجتهاد محرمًا؟
الآن الاجتهاد وظيفة العلماء، كيف يكون محرمًا؟
{إذا كان فيه نص لا يجوز فيه الاجتهاد}.
إذا كانت المسألة فيها نصوص لا يجوز فيها الاجتهاد.
{نعم}.
طيب، ننظر للأخ؛ هل يوافقك أو يخالفك، إذا كانت المسألة التي نريد أن نبحث في حكمها، إذا كان فيها نصوص؛ هل يجوز أن نجتهد فيها أو لا يجوز؟
{إذا كانت المسألة منصوصة؛ فننظر هل هذه النصوص فيها تعارض في الظاهر أو لا، إذا كان فيها تعارض في الظاهر فلابد من الاجتهاد حتى نرجح أحد الدليلين على الآخر}.
طيب، كلام جيد.
أنا سأطرح سؤالًا يتبيَّن من الجواب: الآن إذا قرأنا في كتب الفقه الآن أو في كتب التفسير أو في شروح الحديث نجد العلماء يختلفون كثيرًا أو لا؟
{نعم}.
طيب، وإذا نظرنا في أدلتهم نجد أن الفريقين كل منهما يستدل بنصوص من الكتاب والسنة، فإذا قلنا إن المسألة فيها نص لا يجوز الاجتهاد فيها؛ إذن هم فعلوا أمرًا محرمًا، العبارة مقبولة، لكن لا بد من تفصيلها.
وهنا قاعدة ذكرها العلماء وهي قاعدة مهمة جدًّا، سنكتبها ثم نشرح هذه القاعدة، وسيتبيَّن من خلال شرح القاعدة الإجابة على السؤال.
تقول القاعدة: "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص".
هذه القاعدة ذكرها العلماء وهي مقبولة عند أهل العلم، هذه القاعدة مقبولة ومعمول بها "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص"، أو بعبارة أخرى: "لا يجوز الاجتهاد في مورد النص".
هنا "النص" ما المقصود به؟ هل المقصود به النص الشرعي عمومًا؟ أو المقصود به النص الذي أخذناه في مباحث دلالات الألفاظ؟
هنا يُمكن أن يُفسَّر بهذا، ويمكن أن يُفسَّر بهذا.
إذا فُسِّر بالنص الشرعي عمومًا لا بد من بيان لهذه القاعدة، فنقول: النص قد يكون صحيحًا وقد يكون غير صحيح، عندنا عدد من الأحاديث يستدل بها العلماء والطرف الآخر لا يستدل بها لأنها أحاديث ضعيفة.
النص قد يكون صريحًا، وقد يكون غير صريح، عندنا عدد من آيات القرآن الكريم كلها ثابتة ولا إشكال فيها، ولكن دلالتها فيها إشكال، دلالتها ظنيَّة، ولذلك هنا إذا كان النص صحيحًا صريحًا فلا يجوز الاجتهاد فيه، أما إذا كان النص غير صحيح كما في بعض الأحاديث، أو كان صحيحًا ولكنه ليس بصريح فإنه يجوز الاجتهاد فيه.
ولو تأملنا صنيع أهل العلم في الفقه والتفسير والحديث وكتب الفتاوى وما إلى ذلك نجد أن صنيعهم يتفق مع هذا التفصيل الذي ذكرناه، لا نجد مسألة فيها نص صحيح صريح ومع ذلك اجتهد العلماء فيه أبدًا.
ولذلك لو جاءنا رجل واجتهد في أن المرأة تسوى بالرجل في الميراث، قال: نعم، في السابق كانت المرأة ليس لها ذمة مالية مستقلة، ولم تكن تخرج، وليس لها استقلال بنفسها، الآن أصبحت تخرج وتذهب وتسافر وتعمل، وأصبح لديها أموال، وتباشر أعمالها بنفسها، فأصبحت هي كالرجل لا فرق بينها وبين الرجل، في السابق كان من المناسب أن يكون الرجل مفضَّلًا عليها في الميراث، أما الآن فهي تقوم مثل الرجل أو ربما تكون هي أكثر حاجة إلى المال، كما هو موجود اليوم من حاجتها إلى اللباس والتجمل وما إلى ذلك.
فنقول: مثل هذا الاجتهاد لا يُمكن أن يكون مقبولًا.
لماذا؟
لأن المسألة فيها نص صحيح صريح.
نص صحيح من القرآن الكريم، فالقرآن كله ثابت صحيح وقطعي، ثم أيضًا هذه الآية لا تحتمل إلا معنًى واحدًا، فهي من قبيل النص الذي لا يقبل الاجتهاد.
فإذن هنا لا مساغ للاجتهاد في وجود النص، نقول: إذا كان -وهذه مسألة مهمة جدًّا يا إخوان- إذا كان الدليل أو النص صحيحًا صريحًا فلا يجوز الاجتهاد.
إذا كان الدليل أو النص -طبعا الدليل والنص مترادفان- صحيحًا، يعني كأن يكون من القرآن الكريم، فالقرآن كله صحيح، أو يكون من السنة الصحيحة، يعني مثلًا حديث في صحيح البخاري، أو في صحيح مسلم، أو في السنن ولكن حكم العلماء بأنه صحيح.
صريحًا: يعني في دلالته على المقصود، صريح في دلالته لا يحتمل معنًى آخر؛ هنا فلا يجوز الاجتهاد.
طيب يا إخوان، هذا الكلام الذي ذكرناه منطوق أو مفهوم؟
منطوق، نراه بأعيننا، هذا منطوق، طيب ما مفهومه المخالف؟
نحن أخذنا المنطوق والمفهوم الدرس الماضي، نطبق هذا في القواعد على ما بين أيدينا الآن، ما مفهومه المخالف؟
{مفهوم المخالفة: أن الدليل إذا كان غير صحيح وغير صريح}
ممتاز.
إذن مفهوم المخالف الأول: أن الدليل إذا كان غير صحيح وغير صريح فيجوز الاجتهاد فيه. هذه حالة.
الحالة الثانية: إذا كان الدليل صحيحًا غير صريح؛ هذا يجوز الاجتهاد فيه أيضًا.
وإذا كان الدليل غير صحيح؛ فإنه يجوز الاجتهاد فيه سواء كان صريحًا أو ليس بصريح.
هذه القاعدة إذا ضبطناها؛ فإننا نستطيع أن نبيِّن مجال الاجتهاد، فإذا سُئِلنا: ما مجال الاجتهاد في الأحكام الشَّرعيَّة؟
نقول: مجال الاجتهاد في الأحكام الشَّرعيَّة فيما لم يكن فيه نص. هذا معنى الإشكال، إذا ما كان فيه نص ما عندنا إشكال.
مثل المسائل الحادثة الآن فيما يتعلق بالعلاج، وما يتعلق بالمعاملات المالية -البيع والشراء، والإجارة، والاستصناع- صور كثيرة جدًّا حادثة اليوم ليس لها نصوص خاصة، هذه تقبل الاجتهاد أو لا تقبل؟
تقبل؛ بل يجب فيها الاجتهاد لأنه لابد من بيان حكمها، ولا يُمكن أن نبيِّن حكمها إلا عن طريق الاجتهاد.
إذن نقول: المسائل التي نريد أن نجتهد فيها:
- إما أن يكون فيها نص.
- أو ليس فيها نص.
فإن لم يكن فيها نص فالاجتهاد فيها مشروع ولا إشكال.
فإن كان فيها نص ننظر؛ إن كان هذا النص صحيحًا وصريحًا فلا يجوز، وإلا فيجوز.
هذا الكلام إذا طبقناه على صنيع أهل العلم نجد أنه يتطابق مع صنيعهم.
أما إذا أخذنا هذه القاعدة على عمومها نجد أن العلماء كثيرًا ما يجتهدون في مسائل فيها نص؛ بل الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في مسائل، وكل منهم يستدل على صحة مذهبه وقوله بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بآية من القرآن.
إذن هذه القاعدة تخالف ما فعله الصحابة؟
نقول: لا.
دائمًا يا إخوان وهذه فائدة منهجية: أن القواعد هي أحكام كليَّة تحتاج إلى شروط، تحتاج إلى تقييد بعض الأحيان، وذلك إذا أخذنا القاعدة لا نغتر بظاهرها مباشرة ونتلقفها ونعمل بها مطلقًا، لا؛ وإنما ننظر فيها ونحللها، ثم نجمع عليها القواعد الأخرى، وننظر في فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وفعل العلماء؛ هل يتطابق مع هذه القواعد أو لا يتطابق مع هذه القواعد؟
إذن مجال الاجتهاد: المسائل التي ليس فيها نصوص، أو المسائل التي فيها نصوص لكن النصوص ليست بصحيحة، أو ليست صريحة.
ممكن نقول بعبارة أخرى: إن الاجتهاد إنما يكون فيما هو ظني الثبوت أو ظني الدلالة.
ظني الثبوت: القرآن قطعي الثبوت، لكن السنة فيها أشياء ظنية الثبوت، وفيها أشياء قطعية الثبوت، قطعية الثبوت تكون خارجة، ما يجوز أن نجتهد فيها، لكن ننظر في الدلالة:
- فإذا كانت دلالتها قطعية -أيضًا- ما ننظر فيها.
- أما إذا كان دلالتها ظنية فإننا ننظر فيها.
طيب، هذا ما يتعلق بمجال الاجتهاد، وهي مسألة مهمة جدًّا لابد أن ندركها إدراكًا تامًّا.
القضية الأخرى عندنا: حكم الاجتهاد، أو الأدلَّة الدالة على مشروعية الاجتهاد.
نحن بيَّنا حكم الاجتهاد قبل قليل، ولكن قد يسأل سائل ويقول: ما دليلكم على ما تقولون؟
بعض الناس اليوم يقولون: ما ورد ذكره صريحًا في القرآن الكريم فإننا نأخذ به، وما ورد ذكره صريحًا في السنة النبوية فإنَّا نأخذ به، أما الأشياء الأخرى فالأصل فيها السَّعة والأصل فيها الإباحة بإطلاق.
فنقول: لا، هذه المسائل فيها تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولكن الاجتهاد كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفعلون وكما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل اجتهدوا في كثير من القضايا التي ليس لها ذكر صريح في القرآن ولا في السنة.
وهذا الاجتهاد هو ضرورة من ضرورات بقاء هذا الدين -كما سنبيِّنه بعد قليل.
إذن هناك أدلة كثيرة دلت على مشروعية الاجتهاد، وإذا قلنا مشروعية الاجتهاد قد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، لأن بعض الأحيان يكون الاجتهاد فرض عين على الإنسان إذا لم يوجد إلا هو من المجتهدين، وقد يكون فرض كفاية، إذا كان عدد المجتهدين كبير فإنه لا يجب على الجميع أن يجتهد في مثل هذه المسائل خاصة إذا كانت لا تتعلق به هو، وإنما جاء رجل يسأل وعندنا عدد من المجتهدين، فهنا الاجتهاد واجب عليهم من باب فرض الكفاية، فإذا قام به البعض يسقط عن الباقين.
على كل حال جاء في القرآن الكريم عدد من الأدلَّة التي تدل على مشروعية الاجتهاد:
- فلدينا الأدلَّة الدالة على التدبر: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء: 82].
- الأدلَّة الدالة على التعقل والنظر والتأمل.
- الأدلَّة الدالة على الاستنباط: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].
- الأدلَّة الدالة على الاعتبار: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2].
وما إلى ذلك.
فهذه الآيات والنصوص دالة على مشروعية الاجتهاد، لأن الاجتهاد ما هو إلا نظر وتأمل وتدبر واعتبار واستنباط، فهذه الآيات تدل على مشروعية الاجتهاد.
أيضًا من السنة جاءنا عدد من الأحاديث الدالة على مشروعية الاجتهاد، بل إن الأدلَّة من السنة ربما يصح القول بأنها أشد تصريحًا من الأدلَّة الدالة في القرآن، أدلة القرآن فيها شيء من العموم، لكن السنة فيها أدلة دالة بالخصوص على مشروعية الاجتهاد، فمن يذكر لنا شيئًا منها؟
{حديث معاوية حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن}.
معاوية أو معاذ؟
{معاذ}.
نعم أحسنت.
حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه.
تفضل..
{حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يقضي...}.
يعني سأله النبي -صلى الله عليه وسلم ماذا ستعمل إذا عرض لك أمر؟.
{فقال: بكتاب الله، ثم سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.
فسأل النبي: «إذا لم تجد؟».
فقال: أجتهد رأيي ولا آلو}.
أحسنت، هذا الدليل يعتبر نصاً في المسألة أو لا؟
{نص}.
نص في المسألة "أجتهد رأيي ولا آلو"، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقر َّ معاذًا أو لا؟
{أقره}.
الحجة في إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ، وإلا فمعاذ قوله قول صحابي، والمسألة فيها ما تعلمون.
إذن حديث معاذ -رضي الله عنه- من أصلح الأدلَّة الدالة على مشروعية الاجتهاد حينما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «بِمَ تقضي؟».
قال: "بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، ثم قال: "أجتهد رأيي ولا آلو". وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من الأدلَّة الأخرى؟
{الأدلَّة الدالة على مشروعية الاجتهاد: قوله -صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد»}.
أحسنت، «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»، النبي -صلى الله عليه وسلم- رتَّب الأجر على الاجتهاد، ونحن أخذنا في صيغ الأمر وصيغ الواجب وما إلى ذلك ترتيب الثواب على الفعل، فلما رُتِّبَ الثواب على الفعل دلنا على أن الفعل مشروع؛ لأنه لو لم يكن مشروعًا لَمَا رُتِّب عليه الثواب.
أيضًا من الأدلَّة: النبي -صلى الله عليه وسلم- فوَّض سعد بن معاذ -رضي الله عنه- في الحكم في من؟
{في الحكم في بني قريظة}.
أحسنت، في بني قريظة، فوضه أن يجتهد في المسألة، فهنا يدلنا على أن الاجتهاد مشروع عند نزول الحوادث.
أيضًا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هو اجتهد بنفسه في كثير من القضايا، وإن كانت هذه المسألة محل خلاف عند العلماء؛ هل النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد أو النبي -صلى الله عليه وسلم- فرضه نزول الوحي وإبلاغ الناس؟
لكن الوقائع الموجودة تدل على أنه -عليه الصلاة والسلام- اجتهد في بعض القضايا، مما يدل على أن الاجتهاد مشروع.
كذلك الصحابة -رضي الله عنهم- اجتهدوا في كثير من الحوادث والنوازل بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكتب الآثار والسنن والمسانيد مليئة بمثل هذا؛ بل إنك حينما تقرأ في كتب الفقه تجد كثيرًا من المسائل الخلافية يُحكى فيها قول للصحابة، هذا قول لأبي بكر، وذلك قول لعمر، وآخر لعثمان، ورابع لعليّ -رضي الله عنهم أجمعين- وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وما إلى ذلك من فقهاء الصحابة -رضي الله عنهم- مما يدل على أنهم كانوا يجتهدون في الأحكام.
وهناك دليل عقلي أو دليل من باب التلازم: وهو أن هذه الشريعة باقية إلى يوم القيامة، وأن الناس متعبَّدون بأحكامها، وهناك -خاصة في العصور الأخيرة- عدد كبير جدًّا من النوازل والحوادث، الآن لدينا نوازل وحوادث في المعاملات، وأخرى في النكاح، وفي المسائل الطبية والعلاجية، والعادات، والمطعومات والمشروبات؛ هذه المسائل إما أن يكون لها حكم أو لا يكون لها حكم، والاحتمال الثاني باطل، لأن الله -سبحانه وتعالى- كلفنا بهذه الشريعة وأمرنا بامتثالها، والامتثال إنما يكون عند وجود حكم في المسألة.
حكم المسألة إما أن يكون بالنص الخاص من الكتاب والسنة، وإما أن يكون بالاجتهاد، بحثنا في النصوص الخاصة في الكتاب والسنة ما وجدنا فيها أدلة تدل على حكم تلك المسائل، فلم يبقَ إلا الاجتهاد، مما يدل على أن الاجتهاد مشروع، وقد يكون واجبًا في كثير من الصور.
وإذا كان الاجتهاد هو السبيل لبقاء أحكام هذه الشريعة فهذا يدلنا على علو منزلة الاجتهاد، وأنه لا يصل إلى هذه المرتبة إلا من اصطفاه الله -سبحانه وتعالى-، نعم هناك شروط بإمكان أي إنسان أن يجتهد في تحصيلها، فإذا اجتهد في تحصيلها فإنه ينال هذه المرتبة، يعني الإسلام ليس كغيره من الأديان الأخرى، بعض الأديان لهم رجال دين فقط هم الذين يبينون للناس أحكام دينهم، ثم يتوارثون هذه المهنة وما إلى ذلك؛ هذا الأمر غير موجود لدينا، وإنما لدينا منصب له شروط، فمن حصَّل هذا المنصب بشروطه فيحق له أن يجتهد، سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، سواء كان من وجهاء الناس أو من غيرهم، سواء أكان من العرب أو من غير العرب، هذه الأوصاف كلها ليس لها أثر.
ولذلك إذا تأملنا في سيرة المجتهدين من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يومنا تجد فيهم أصناف متفاوتة، ويعز الله -سبحانه وتعالى- العالم بمرتبة الاجتهاد وإن كان ليس من أشراف الناس وليس من وجهائهم وليس من أغنيائهم، وكتب التراجم مليئة بمثل هذا.
هذا الكلام ينقلنا إلى مسألة مهمة جدًّا، وهي مسألة ماذا؟
مسألة شروط الاجتهاد.
يعني الآن نحن بيَّنا أن الاجتهاد مشروع، وأن ليس كلأً مباحًا لكل أحد، يعني ما يصح ولا يسوغ أن يأتي رجل من عامة الناس ثم يأخذ الأدلَّة وينظر فيها ويبين الأحكام ويفتي لنفسه ولغيره من الناس، هذا الأمر لا يجوز، وهو من القول على الله بغير علم، وقد ثبت في الأحاديث والأدلَّة الوعيد الشديد لمن فعل مثل هذا.
فقد يسأل سائل ويقول: ما شروط الاجتهاد؟ أنا أريد أن أكون مجتهدًا؛ فكيف أكون مجتهدًا؟ هل يمكن ذلك أو لا يمكن؟
نقول: هو يمكن، العلماء ذكروا شروطًا للاجتهاد، فمن حصَّلها يجوز له أن يجتهد، ومن لم يُحصِّلها فإنه لا يجوز له أن يجتهد، هذه الشروط يُمكن أن نجملها وأن نختصرها في شرط واحد، وهو: أن يكون ملمًا بجميع المؤثرات في حكم المسألة، أن يكون الرجل أو الإنسان -قد يكون المجتهد رجلاً، وقد يكون المجتهد امرأة لا إشكال في هذا- ملمًا بجميع المؤثرات في المسألة المبحوثة.
طبعًا العلماء فصلوا في شروط الاجتهاد تفصيلًا دقيقًا، وبعضهم شدَّد فيها، وبعضهم خفَّف فيها، وبعضهم توسَّط بين هذا وذاك، ولذلك سنذكر القدر المتفق عليه من هذه الشروط.
عندنا الشرط الأول هو: العلم بكتاب الله -عز وجل.
نحن لما تكلمنا عن أدلة الأحكام، لما تكلمنا عن الكتاب على وجه التخصيص قلنا إنه أساس الأدلَّة، وكما قال الشاطبي -رحمه الله: "هو كليَّة الشَّريعة".
بل إن بعض العلماء يرى أن الأدلَّة هي دليل واحد وهو كتاب الله -عز وجل- وما عداه راجع إليه، السنة راجعة للكتاب، الاستدلال بها استدلال بالكتاب، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وكذلك الإجماع والقياس وما إلى ذلك.
إذن الشرط الأول من شروط الاجتهاد: أن يكون الإنسان عالمًا بكتاب الله -عز وجل.
لا يمكن للإنسان أن يجتهد في مسألة شرعية وهو لا يعلم كتاب الله-عز وجل-؛ لأن كتاب الله-عز وجل- هو أساس الأدلَّة، وهو طريقة معرفة الحكم الشرعي في الأساس، فإذا كان جاهلًا بهذا الأساس فإنه لا يُمكنه أن يجتهد في المسألة.
طبعًا العلم بكتاب الله -عز وجل- كلام عام أو كلام خاص؟
{عام}.
كلام عام، هل العلم بكتاب الله -عز وجل- يقتضي الحفظ؟ هل يقتضي مثلًا معرفة ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، بالقراءات الشاذة والمتواترة، بالمحكم والمتشابه، بأسباب النزول وما إلى ذلك، أو لا يشترط هذا؟
طبعًا العلماء ذكروا تفصيلات كثيرة في هذا المجال، أما ما يتعلق بحفظ القرآن الكريم فلا شك أنه هو الأكمل، ولكن إذا كان الإنسان مستظهرًا للقرآن الكريم، يعلم مواضع الأدلَّة، إذا جاءت مثلًا مسألة من مسائل المواريث يعرف أين آيات المواريث، مسألة من مسائل النكاح والطلاق يعرف أين آيات النكاح والطلاق، مسألة من مسائل المعاملات يعرف أين آيات المعاملات، مسألة من مسائل الحلال والحرام في الأطعمة والمشروبات يعرف أين الأدلَّة الدالة على الأطعمة والمشروبات، وهكذا.
قال العلماء: إذا كان الإنسان بهذه الصفة فإن هذا الشرط قد تحقق في حقه، لا شك إذا كان حافظًا فهو أولى، ولكن إذا لم يحفظ هذا القرآن الكريم فلا أقل من أن يكون مستظهرًا له.
بعض العلماء أيضًا له رأي آخر في المسألة، قال: القرآن الكريم فيه آيات في الأخبار الماضية، وفيه آيات في الأمور المستقبلة، وفيه آيات تتعلق بالأحكام الشَّرعيَّة، وهو ما اصطلح على تسميته بآيات الأحكام.
وقالوا: إن الاستنباط إنما يكون من آيات الأحكام، أما آيات الأخبار السابقة وآيات مثلًا الأمور المستقبلة وما يكون في يوم القيامة من الجزاء والحساب وما إلى ذلك؛ فهذه الآيات يجب علينا أن نؤمن بها، لكن لا علاقة لها مباشرة بقضية استنباط الحكم الشرعي.
فقال بعض العلماء أنه يكتفي بآيات الأحكام، وأيضًا اختلفوا في عدِّها:
- منهم من قال هي خمسمائة آية.
- منهم من قال هي أقل أو أكثر.
وهناك علماء آخرون قالوا: لا، القرآن كله يُستنبط منه الحكم، وهذا هو الصحيح، حتى آيات القصص والأخبار عن الأمم الماضية والأمور المستقبلة فإنه يستفاد منها أحكام، وذلك لأن الحكم:
- إما أن يُستفاد من الآية بالقصد الأول، أن تكون الآية سيقت لبيان هذا الحكم.
- وإما أن يُستفاد الحكم من الآية من القصد الثاني، نعم هي لم تُسَق لبيان هذا الحكم، ولكن بوجه من وجوه التأمل يُمكن أن يُستنبط منها حكم، وواقع العلماء وما سطَّروه لنا في كُتبهم يدل على أن القرآن الكريم كله يُستفاد منه.
نجد علماء استنبطوا من آيات الأمم الماضية ما يتعلق ببعض العلماء.
مثلًا: فيما يتعلق بقراءة الفاتحة اختلف العلماء فيها بالنسبة للمأموم في الصلاة الجهرية، فمنهم من قال إن قراءة الإمام تغني عن قراءة المأموم، وبعضهم قال لا تغني، والمسألة فيها أدلة كثيرة، وهذا يدلنا على ما قررناه قبل قليل أن هناك مسائل فيها نصوص ومع ذلك اختلف العلماء فيها، لأن النصوص فيها غير صحيحة أو غير صريحة.
الشاهد من هذا: بعض العلماء قال إنه لا يجب على المأموم أن يقرأ بفاتحة الكتاب، واستدل بآية سيقت في بيان أخبار الأمم الماضية، وهي في قصة موسى -عليه السلام- حينما قال موسى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ [يونس: 88]
بعدها ماذا قال تعالى؟
قال: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: 89]، مع أن الذي دعا هو واحد، وهو موسى، قال: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾، أي موسى وهارون؛ فدلَّ على أن المؤمِّن كأنه قال ما قال الأول، فالإمام إذا قرأ الفاتحة وأمَّن المأموم فكأنما قرأ المأموم.
هنا الدليل آية من آيات الأحكام أو الدليل آية من آيات الأخبار عن الأمم الماضية؟
{من آيات الأخبار عن الأمم الماضية}.
مع ذلك استفيد منها حكم، مما يدل على أن القرآن كله يستفاد منه حكم.
هذا ما يتعلق بالشرط الأول.
الشرط الثاني: العلمُ بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم.
وكما قلنا في القرآن الكريم نقوله في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا بد أن يكون المجتهد عالمًا بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- نظرًا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن القرآن الكريم. هذه النقطة الأولى.
وبيانه للقرآن الكريم كان بمظاهر مختلفة، قد يكون من باب تخصيص العام، وقد يكون من باب تقييد المطلق، وقد يكون من باب النسخ، وأيضًا قد يكون من باب تفصيل المجمل.
أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- ربما جاء بأحكام لم تأتِ في القرآن الكريم، أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء بأحكام وافقت ما جاء في القرآن الكريم.
فإذا كان المجتهد أو العالم أو الإنسان جاهلًا بسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه سيفوته قدر كبير جدًّا من الأدلَّة التي تدل على الأحكام.
ومن المعلوم أن العلماء يستدلون في اختلافاتهم بالسنة أكثر من القرآن، لأن السنة فيها من التفصيل ومن البيان أكثر مما جاء في القرآن الكريم، نظرًا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44].
طيب، العلم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا كلام عام أو كلام دقيق ومختصر؟
{كلام عام}.
يشمل ماذا؟
{يشمل العلم بالصحيح}.
أحسنت، هذا ما ذكرناه في القرآن لأن القرآن كله صحيح، وهي أهم مسألة، المجتهد لابد أن يكون عالمًا بتصحيح الأحاديث وتضعيفها؛ لأن الحديث إذا صحَّ فالجميع يأخذه، إذا صح الحديث فهو على العين والرأس، كما يقول الأئمة، الإمام أحمد -رحمه الله-، ومالك -رحمه الله-، والشافعي -رحمه الله-، وأبو حنيفة -رحمه الله- كلهم يقولون: "إذا صح الحديث فهو على العين والرأس".
وبعضهم يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
إذا صح الحديث لا تقولوا: قال الشافعي أو قال غيره، وإنما الحديث هو مذهب الجميع.
إذن لابد أن يكون المجتهد عالمًا بتصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذا يدلنا على أهمية العلم بالحديث بالنسبة للمجتهد، لأن كثيرًا من الأحكام يُستدل لها بأحاديث ضعيفة، وبعض الأحيان تكون موضوعة.
هذا الشرط ذكره العلماء وأكدوا عليه، ولكنهم في بعض الأحيان خففوا فيه، فقالوا: إما أن يكون الإنسان عالمًا -أي مجتهدًا في الحديث- يعني عالماً بقواعد الجرح والتعديل، بقواعد التصحيح والتضعيف.
وإذا لم يكن كذلك فلا أقل من أن يكون مطَّلعًا على جميع الأحاديث المؤثرة في المسألة، ولا بد أن يكون لديه كتاب يرجع إليه، يعني مثلًا اطلع على الأحاديث ووجدها في صحيح البخاري؛ والبخاري كله صحيح؛ هنا يكفيه، وجدها في مسلم، ومسلم كله صحيح؛ فهنا يكفيه.
أو يكون له مثلًا مَن يتبعه في الحكم على الرجال، نجد بعض العلماء المجتهدين في عصرنا الحاضر حينما يأتي حديث ينظر في سنده، ثم ينظر ماذا قال فيهم ابن حجر في كتاب التهذيب أو التقريب وما إلى ذلك.
إذن لابد أن يكون عالمًا بهذا.
أيضًا ما يتعلق بالعلم بأسباب ورود الحديث، لأن سبب ورود الحديث له أثر في معرفة الحكم المذكور في الحديث، وإن كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن سبب ورود الحديث له أثر في بيان حكم المسألة.
أيضًا لابد أن يكون عالمًا بالناسخ والمنسوخ من الأحاديث، لماذا؟
لأنه ربما استدل بحديث هو صحيح لا إشكال فيه ولكنه منسوخ، كأن يستدل أحد بحديث عائشة -رضي الله عنها: "كان فيما أنزل في القرآن (عشر رضعات يُحَرِّمْنَ)"، فيقول: التحريم في الرضاع إنما هو بعشر رضعات.
ما الدليل؟
حديث عائشة، وهو حديث صحيح.
نقول: نعم حديث عائشة صحيح ولا إشكال فيه، ولكنه منسوخ.
إذن الناسخ والمنسوخ مهم جدًّا لئلا يستدل بحديث قد نُسخ حكمه وإن كان صحيحًا.
الشرط الثالث: العلمُ باللغة العربية.
وهنا نسأل: لماذا اشترطنا أن يكون عالمًا باللغة العربية؟
{لأن ما سبق بالعلم بالكتاب والعلم بالسنة لا يُمكن فهمه إلا بالعلم باللغة العربية}.
نعم أحسنت، وهو أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: 3]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أرسل بلسان قومه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عربي.
طيب، كيف نفهم القرآن وكيف نفهم السنة إذا كنا لا نفهم اللغة العربية؟
هذا لا يُمكن، وإلا سيكون فهمنا فهمًا مغلوطًا أو فهمًا ناقصًا، ولذلك قال الأصوليون: لابد للمجتهد أن يكون عالمًا باللغة العربية، وهنا العلم باللغة العربية -كما قلنا قبل قليل- كلام أيضًا كبير وعام، هل يشترط أن يكون مثل سيبويه والخليل وابن جنِّي أئمة اللغة العربية أو لا يشترط فيه؟
من الأصوليين مَن قال هذا، وإن كان هذا الأمر بما لا يمكن تحقيقه، ولكنهم قالوا: لا أقل من أن يكون عالمًا بوجوه اللغة العربية المؤثرة في فهم الدليل.
قالوا: ما هي الحدود؟ ما هي المسائل؟ ما هي الوجوه المؤثرة؟
قالوا: تختلف من مسألة إلى أخرى.
الآن مثلًا مسألة المسح على الرأس، قال تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: 6]، هنا اختلف العلماء في قدر الممسوح من الرأس هل هو الرأس كله أو بعضه؟
المسألة فيها خلاف طويل بين أهل العلم، هنا مردّ الخلاف إلى مسألة ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ هنا الباء ما المقصود بها؟ وهنا المسألة مسألة لغوية أو شرعية؟
{لغوية}.
مسألة لغوية ولكن أثرت في الحكم، وهنا رجع الخلاف الفقهي الموجود في هذه المسألة إلى الخلاف في اللغة العربية، في المعنى المقصود بهذا التركيب.
أيضًا ما يتعلق بمباحث الحقيقة والمجاز، هي في الأساس مباحث أصولية أو لغوية؟
{لغوية}.
لغوية.
أيضًا مباحث التخصيص، العام والخاص، الظاهر والمجمل، الاستثناء، الفحوى واللحن والتنبيه، وما إلى ذلك؛ هذه الأمور كلها من قبيل العلم باللغة العربية.
بعض العلماء شدَّد في هذا الشرط، قال: بل لابد أن يكون عالمًا بوجوه البلاغة أيضًا، لأن لها أثرًا واضحًا في قضية استنباط الحكم الشرعي.
مثلًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «أرخوا اللحى»، «وفروا اللحى»، «اتركوا اللحى»، هنا لدينا عدد من المفردات التي جاء في الأمر بإعفاء اللحية، هنا المسألة أيضًا راجعة للغة العربية.
العرب ماذا يعنون بقوله "وفروا"؟ ماذا يعنون بقولهم "اتركوا"؟ ماذا يعنون بقولهم "أرخوا"؟
هذه القضايا لا بد أن نفهمها كما فهمها أهل اللغة، إن كان أهل اللغة يفهمون منها مطلق الترك وإن كان أخذ الإنسان منها شيئًا؟
هذا منحى.
وإن كان بعضهم يقول: لا، معنى التوفير والإرخاء: الترك وعدم المساس؛ هذا أيضًا له منحى آخر.
إذن المسألة رجعت في حكمها إلى مسائل اللغة العربية.
ولذلك العلم باللغة العربية ربما في السابق كان لا يُشدد فيه كثيرًا، لأن الناس كانوا على اتصال بهذا العلم، وكانوا على اهتمام؛ بل نجد لدينا علماء في الفقه وفي الأصول علماء في اللغة العربية، ولو تأملنا سير أهل العلم نجد أنهم صنفوا في الفقه وفي التفسير وفي الأصول وفي اللغة العربية.
لكن مع مرور الوقت، واختلاط الناس بعضهم مع بعض، اختلاط العرب مع غير العرب، وكثرة المشاغل، وضعف العلم، وقلة الرغبة فيه، وقلة الإقبال عليه؛ أصبح هناك انفصام، وهذا الكلام مرٌّ -إن صحَّ التعبير- ولكنه واقع، أصبح انفصام الآن بين العلم الشرعي وعلم اللغة العربية، فنجد علماء لهم بروز في الفقه والأصول والتفسير والحديث، ولكن ليس لديهم بروز في اللغة العربية، وهذا إشكال كبير لا بد من حلِّه ولا بد من علاجه.
الشرط الرابع: العلم بأصول الفقه.
قال العلماء: إن من شروط المجتهد أن يكون عالمًا بأصول الفقه.
نريد منكم الآن -بارك الله فيكم- أن تبيِّنوا وجه اشتراط العلم بأصول الفقه، نحن عرفنا لماذا اشترطنا العلم بالكتاب، والعلم بالسنة، والعلم باللغة العربية؛ فلماذا اشتُرِط العلم بأصول الفقه؟
{ممكن نقول بأن اشتراط العلم بأصول الفقه لأن النصوص منها ما تكون عامَّة ومنها ما تكون خاصة، ومعرفة أصول الفقه يساعدنا لمعرفة ذلك}.
جيد، هذا جزء من الإجابة، وهو أن أصول الفقه ما هو إلا عبارة عن مجموعة من قواعد الاستنباط فيما يتعلق الآن بمسألة الأساليب الدالّة على كون الشيء واجبًا، أخذناها نحن في الأصول.
طيب، الأساليب الدالة على كون الشيء محرمًا، أخذناها أيضًا فيما يتعلق بالأصول، هذا في مباحث الحكم أو لا؟
أخذناها.
يعني مثلًا: بعض الأحيان يقول "واجب، أو فرض"، المسألة واضحة، بعض الأحيان ليس فيها شيء منها؛ بل بعض الأحيان ليس فيها شيء من الأمر، ومع ذلك الأصوليون لديهم من القواعد ما تدل على أن هذا من قبيل المأمور به، وكذلك ما يتعلق بالنهي.
أيضًا في القواعد الأصوليَّة المتعلقة بالأدلَّة المحتج بها، أنتم تعلمون الآن أن الاحتجاج ليس مقصورًا على الكتاب والسنة، لدينا الإجماع، كيف نعرف الإجماع الصحيح من غيره؟ كيف نعرف شروط الإجماع؟
إنما هو من خلال أصول الفقه.
القياس: والقياس كما يُقال: "إليه مفزع الفقهاء"، وأكثر الأدلَّة المستدل بها في الفقه هي من قبيل ماذا؟
من قبيل القياس.
طيب، القياس ما حقيقته؟ ما أركانه؟ ما شروطه؟ كيف أُثبِت أن هذا القياس صحيح؟ كيف أعترض على غيري بأن قياسه قياس فاسد؟ ما شروط العلة؟ القياس يدور على العلة؛ كيف أعرف أن هذه العلة علة صحيحة أو علة فاسدة؟
إنما هو من خلال وقاعد الأصوليين في باب الأدلَّة.
أيضًا ما يتعلق بدلالة الألفاظ -وهو ما أجبتُ عنه قبل قليل-، كيف أصف هذا الدليل بكونه عامًّا أو بكون خاصًّا؟ كيف أجمع بين الدليل العام والدليل الخاص، بين المطلق والمقيد؟
أيضًا ما يتعلق بالأمر والنهي، وأخذنا مباحث عديدة في هذا الباب.
أيضًا من أهم المسائل: إذا تعارضت الأدلَّة ماذا أفعل؟
أنا جمعت أدلة من الكتاب ومن السنة وفهمتها فهمًا جيدًا كما يفهمه أهل اللغة العربية، ولكن تبيَّن لي في نهاية المطاف أنها متعارضة؛ فماذا أفعل؟
نقول: الأصوليون ذكروا قواعد العمل عند حصول التعارض، وهي قواعد الترجيح، هل يُرجح مثلًا الأشد؟ أو يرجح الأخف؟ هل يُرجح المبقي على حكم الأصل أو الناقل عنه؟ هل يُرجح مثلًا الدليل القطعي على الدليل الظني؟ هل يُرجح الكتاب على السنة؟ وما إلى ذلك، كما سيأتي معنا -إن شاء الله- فيما بعد.
أيضًا من الشروط التي أضافها بعض أهل العلم هو: العلمُ بمقاصد الشريعة.
ومقاصد الشريعة مصطلح مشهور ومتداول ومعروف، ويمكن أن نقول: إن مقاصد الشريعة هي الأهداف العامة، أو الأسرار، أو الغايات التي تحققها الأحكام الشَّرعيَّة.
الآن مثل العدل؛ مقصد شرعي أو لا؟ رفع الحرج مقصد شرعي أو لا؟ رفع الظلم؟ تحقيق التوحيد لله -عز وجل- مقصد شرعي أو لا؟ المساواة بين الناس؟ الحفاظ على الدين والنفس والعقل والمال؟
هذه المقاصد الشَّرعيَّة الأحكام الشَّرعيَّة المختلفة تهدف إلى المحافظة عليها، وتهدف إلى تحقيقها، ولذلك اشترط العلماء العلم بمقاصد الشريعة لماذا؟
قالوا: ليكون الحكم المستنبط بعد الاجتهاد موافقًا لمقاصد الشريعة.
الآن أحكام الشريعة من حيث العموم يجب أن تسير في مسار واحد أم في مسارات مختلفة متناقضة؟
{مسار واحد}.
لابد أن تكون في مسار واحد.
إذن هذا المجتهد لا بد أن يكون عالمًا بهذا المسار، وهو كما يُقال: روح الشريعة، أو الحكم العام في الشريعة؛ فإذا أدرك العالم مقاصد الشريعة فإنه سيكون حكمه موافقًا لها.
إذن اشتُرِطَ العلم بمقاصد الشريعة لئلا يجتهد العالم في مسألة من المسائل، ويخرج إلى حكم يُخالف مقاصد الشريعة.
وسأضرب مثالًا على هذه القضية:
الآن لدينا عدد من الأنكحة المستحدثة التي لم تكن معلومة سابقًا، أو بعضها موجود ولكن لم يكن هناك إقبال عليه، الآن مثلًا عندنا النكاح بنية الطلاق، أو الأنكحة التي تشتهر في بعض البلدان مثل نكاح الأصدقاء، أو نكاح الصيف، أو ما إلى ذلك؛ هذه الأنكحة يجب علينا أن ننظر إليها نظرين:
- النظر الأول: بنظر الأدلَّة الشَّرعيَّة والشروط والأركان، هل توفرت أو لم تتوفر.
- النظر الثاني: هذا النوع من النكاح هل يُحقق المقصد الشرعي أو لا يحققه.
يعني مثلًا نأخذ النكاح بنية الطلاق: وجدنا أن المرأة راضية -طبعًا بنية الطلاق نية مضمرة عند الزوج لم يُصرِّح بها، لو صرَّح بها لكان نكاح متعة كما هو عند الرافضة، وهذا باطل بالإجماع- الولي موجود، والمرأة راضية، وهي كفء للزوج، والمهر موجود، والشاهدان موجودان، والنكاح قد أعلن.
إذن من حيث الأركان والشروط والنصوص هو جائز أو غير جائز؟
{جائز}.
لكن تعالوا ننظر النظر الآخر وهو النظر المقاصدي: المقصود من النكاح ما هو؟
المقصود من النكاح هو حصول الولد، وتكوين العلاقات والروابط بين الأسر، والتعاون على المعاش، أو على متطلبات الحياة، وما إلى ذلك؛ هذه المقاصد غير موجودة في هذا النوع من النكاح.
إذن إذا نظرنا إلى هذا النظر ودمجنا معه النظر الآخر تبيَّن لنا هذا النوع من النكاح لا يجوز.
طبعًا المسألة فيها خلاف، بعض العلماء يقول: لا، هناك مقصد من النكاح وهو قضاء الوطر -وهو الإعفاف- وهذا المقصد موجود في هذا النوع من النكاح.
نحن هنا لسنا بصدد ترجيح هذا القول على ذاك؛ وإنما بصدد بيان أثر مقاصد الشريعة في هذا النوع من أنواع الاجتهاد.
لعلنا نكمل ما يتعلق بالشروط في المحاضرة القادمة، نتوقف عند هذا الحد سائلين الله -عز وجل- أن يوفقنا جميعًا لما فيه مصلحتنا في الدنيا والآخرة، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire