أدلّة المذاهب
مع الترجيح
أوّلاً - أدلّة
المذهب
الأول
:
اسْتَدَلّ
الجمهور
ـ القائلون
بحُجِّيّة
سَدّ الذّرائع
ووجوب قَطْع الذريعة
المُوصلة
إلى الحرام ـ بأدلّة مِن الكتاب ومِن السُّنَّة
ومِن عمل الصحابة
، أَذْكُر
منها ما يلي :
الدليل الأول
:
قوْله تعالى {
وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ
يَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّوا
اللَّهَ
عَدْوَا
بِغَيْرِ
عِلْمٍ كَذَلِكَ
زَيَّنَّا
لِكُلّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ
ثُمَّ إِلَى رَبِـّهِم
مَّرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِـّئُهُم
بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُون
}
(1) ..
وجْه الدلالة
:
أنّ الله تعالى نَهَى عن سَبّ الآلهة التي تُعْبَد مِن دُونه حتّى لا يَكون دافعاً أو وسيلةً لِسَبّ الله ، وحيث إنّ سَبّ الله تعالى مُحَرَّم وممنوع فما كان سبباً له أو وسيلةً إليه كان مُحَرَّماً كذلك ، وإذا كانت ذريعة الحرام مُحَرَّمةً فدَلّ ذلك على وجوب سدّها ، وهو المطلوب (2) .
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) يُرَاجَع : أعلام الموقِّعين 3/137 وتفسير
القرطبي 2/58
وتفسير الطبري 7/309
الدليل الثاني
:
قوْله تعالى {
يَـأَيُّهَا
الَّذِينَ
ءَامَنُوا
لا تَقُولُوا
رَعِنَا
وَقُولُوا
انظُرْنَا
وَاسْمَعُوا
وَلِلْكَـفِرِينَ
عَذَابٌ
أَلِيم } (1)
..
سبب نزول الآية :
أنّ الصحابة كانوا يقولون لِلنَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
: " رَاعِنَا " على جهة الطلب والرغبة مِن المراعاة ، أي : الْتَفِتْ إلينا وكان هذا بلسان اليهود سَبّاً ، أي : اسْمَعْ لا سَمِعْتَ ، فاغْتَنَموها وقالوا :" كُنَّا نَسُبّه سِرّاً ، فالآن نَسُبّه جهراً " ، فكانوا يخاطبون بها النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم
ويَضحكون فيما بَيْنهم ، فسَمِعها سَعْد بن معاذ
ـ وكان يَعرف لُغَتَهم ـ فقال لِليهود :" عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ .. لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم
لأَضْرِبَنَّ عُنُقَه " ، فقالوا :" أَوَلَسْتُمْ تقولونها ؟! " ، فنزلَت الآية ونُهُوا عنها لِئَلاّ تَقْتَدِي بها اليهود في اللفظ وتَقصد المَعْنَى الفاسد فيه .
وجْه الدلالة
:
أنّ سَبّ النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
مُحَرَّم وممنوع ، فكذلك ما كان وسيلةً إليه أو سبباً له ، وحيث إنّ قوْل الصحابة
لِلنَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
:" رَاعِنَا " ذريعة لِقوْل اليهود لها ـ وهي
بِلُغَتِهم سَبّ
ـ فإنّ سَدّها
(1) سورة البقرة
يُصْبِح
واجباً ، ولِذا حرم على الصحابة
هذا القول ؛ سدّاً لِذريعة سَبّ النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
بِلُغَة اليهود
.
الدليل الثالث
:
قوْله تعالى {
وسْئَلْهُمْ
عَنِ الْقَرْيَةِ
الَّتِى
كَانَتْ
حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ
إِذْ يَعْدُونَ
فِى السَّبْتِ
إِذ تَأْتِيهِمْ
حِيتَانُهُمْ
يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعًا
وَيَوْمَ
لا يَسْبِتُونَ
لا تَأْتِيهِمْ
كَذَلِكَ
نَبْلُوهُم
بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُون
} ..
وجْه الدلالة
:
أنّ الله تعالى حَرَّم على اليهود صَيْد السمك يَوْم السبت ، فكانت الحيتان تأتيهم يَوْم السبت شُرَّعاً ، فسَدّوا عليها وحَبَسوها ، فكُلّما كان يَوْم الأحد اصطادوها وأَكَلوها ، وبَرَّروا فِعْلهم بأنّهم لم يَرتكِبوا محظوراً ؛ حيث إنّهم لم يصطادوها يَوْم السبت ، ولكنّهم حَبَسوها في هذا اليوم واصطادوها بَعْده ..
ولِذا كان حَبْسهم لِلحيتان يَوْم السبت وسيلةً أو ذريعةً لِلحرام ، فدَلّ ذلك على أنّ الذريعة مُعْتَبَرة وواجب قَطْعها ؛ وإلا لَمَا كانوا أهلاً لِلعذاب والعِقاب
.
الدليل الرابع
:
قوْله صلى الله عليه و سلم
{
إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ
شَتْمَ الرَّجُلِ
وَالِدَيْه
}
قالوا : " يَا رَسُولَ اللَّهِ .. وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْه ؟! " قال { نَعَمْ ؛ يَسُــبُّ
(1) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 2/58
وإحكام الفصول /690
وأعلام
وَجْه الدلالة
:
أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
جَرَّم شَتْم الوالديْن وأبان أنَّه مِن الكبائر ، فيَكون مُحَرَّماً ، وكذلك الحُكْم فيمَن تَسَبَّب في ذلك بسَبّ والدَي الغَيْر ، ولِذا كان سَبّ الوالديْن مُحَرَّماً ، وسَبّ والدَي الغَيْر ذريعة ووسيلة إلى ذلك ، فحُرِّم سَبّ والدَي الغَيْر سدّاً لِذريعة
سَبّ الوالديْن .
الدليل الخامس
:
قوْله صلى الله عليه و سلم
لِلسيدة عائشة رضي الله عنها {
لَوْلاَ
أَنَّ قَوْمَكِ
حَدِيثِي
عَهْدِهِمْ
بِكُفْرٍ
لأَسَّسْتُ
الْبَيْتَ
عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيم
} (4)
..
وجْه الدلالة
:
أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
أراد أنْ يَهْدِم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم
، ولكنّه خَشِي ارتداد أهْل مكة فامْتَنَع لِذلك ،
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الأدب : باب لا يَسُبّ الرَّجُل والديْه برقم ( 5516 ) ومُسْلِم في كتاب الإيمان : باب بيان الكبائر وأَكْبَرها برقم ( 130 ) وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 6243 ) ، كُلّهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) يُرَاجَع : ولِذا كان ارتداد أهْل مكة مَفْسَدَةً ومُحَرَّماً ، وإعادة بناء البيت ذريعة ووسيلة لِذلك ، فدَلّ ذلك على العمل بسَدّ الذّرائع ؛ وإلا لَمَا امْتَنَع النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
عن تأسيس البيت على قواعد إبراهيم
الدليل السادس
:
قوْله صلى الله عليه و سلم
{
الْحَلاَلُ
بَيِّنٌ
، وَالْحَرَامُ
بَيِّنٌ
، وَبَيْنَهُمَا
مُشْتَبِهَاتٌ
لاَ يَعْلَمُهُنَّ
كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ
، فَمَنِ اتَّقَى
الشُّبُهَاتِ
اسْتَبْرَأَ
لِدِينِهِ
وَعِرْضِهِ
، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ
وَقَعَ فِي الْحَرَامِ
، كَالرَّاعِي
يَرْعَى
حَوْلَ الْحِمَى
يُوشِكُ
أَنْ يَرْتَعَ
فِيهِ ، وَإِنَّ
لِكُلِّ
مَلِكٍ حِمَىً ، وَإِنَّ
حِمَى اللَّهِ
مَحَارِمُه
} (2)
..
وجْه الدلالة
:
أنّ الوقوع في الحرام محظور وممنوع ، وإتيان الأمور المشتبهات وسيلة وذريعة إلى الوقوع في الحرام ، ولِذا مُنِع الإقدام عليها سَدّاً لِلذريعة ومخافةَ الوقوع في الحرام (3) .
مُنَاقَشَة هذا
الدليل
:
ناقَش ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ هذا الدليل :
بأنّ الحديث حَضٌّ منه صلى الله عليه و سلم
على الورَع ونصّ جَلِيّ على أنّ ما حَوْل الحِمَى ليس
مِن الحِمَى ، وأنّ تلك المشتبهات ليست بيقين مِن الحرام ، وإذا لم تَكُنْ مِمَّا فُصِّل مِن الحرام فهي على حُكْم الحلال ، ولِذا فلا يجوز تحريمها سدّاً لِذريعة الوقوع في الحرام.
الجواب عن
هذه
المُنَاقَشَة
:
وأَرَى أنّ هذه المُنَاقَشَة
مردودة :
بأنّا سَلَّمْنَا بأنّ هذه المشتبهات ( أي الذريعة أو الوسيلة ) ليست بيقين مِن الحرام ، لكنّها تُوصل إلى الحرام قَطْعاً أو بيقين ، وما أَوْصَل إلى الحرام بيقين كان
حراماً .
الدليل السابع
:
قَتْل الجماعة بالواحد ..
اتَّفَق الصحابة رضي الله عنهم
على أنّ الجماعة تُقْتَل بالواحد ، وهو مُخالِف لِمَعْنَى القصاص وهو المساواة ، ولكنّهم أرادوا حَقْن دماء المُسْلِمين التي يحرم سَفْكها ، واعْتَبَروا اتِّفَاق الجماعة على القتل ذريعةً ووسيلةً إلى ذلك ، فأَوْجَبوا القصاص مِن الجماعة ؛ حتّى لا يَكون عدمه ذريعةً إلى قَتْل الواحد بالجماعة .
الدليل الثامن
:
توريث المُطَلَّقَة في مَرَض الموت قَضَى عثمان t بتوريث
المُطَلَّقة طلاقاً بائناً في مَرَ (1) الإحكام لابن حَزْم 6/180 بتصرف 2) سيدنا عثمان :
هو الصّحابيّ الجليل ذو النّوريْن عثمان بن عفّان بن أبي العاص
ابن أُمَيَّة القرشي الأموي t
، ثالث الخلفاء الراشدين ، وُلِد بَعْد عام الفيلالموت خشيةَ أنْ تَرِث مِن زَوْجها ، وحيث إنّ مَنْع الزوجة مِن ميراث زَوْجها مُحَرَّم وممنوع وطلاقها في مَرَض الموت ذريعة ووسيلة إلى ذلك ؛ فكان هذا الطلاق غَيْر مُعْتَبَر وسدّاً لِذريعة الوقوع في الحرام و مَن
أراد مَزِيداً مِن الأدلّة على حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع فلْيُراجِعْ " أعلام الموقِّعين " الذي يُعَدّ ـ فيما وَقَفْتُ عليه ـ أَكْثَر المَراجع الأصوليّة جَمْعاً لها حينما حَصَرَها في تسعة وتسعين دليلاً.
ثانياً - أدلّة
المذهب
الثاني
:
اسْتَدَلّ
ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ على عدم حُجِّيَّة
سَدّ الذّرائع
بأدلّة أَذْكُر
منها ما يلي :
الدليل الأول
:
قوْله تعالى {
وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ
وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُم مَّا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ
إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ
وَإِنَّ
كَثِيرًا
لَّيُضِلُّونَ
بِأَهْوَائِهِم
بِغَيْرِ
عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِين
}
(3) ..
وجْه الدلالة
:
أنّ الله تَبَارَك وتعالى فَصَّل لنا ما حَرَّم علينا
= مِن السابقين في الإسلام ، تَزَوَّج بِنْتَا رسول
وأَوْجَب
علينا اجتنابه ، والذّرائع في الأصل حلال وليست بيقين
مِن الحرام ، ولِذا كانت على حُكْم الحلال ؛ لأنّها ليست مِمَّا فُصِّل مِن الحرام (1) .
مُنَاقَشَة هذا
الدليل
:
ويُمْكِن
مُنَاقَشَة
هذا الدليل :
بأنّا سَلَّمْنَا بأنّ الذّرائع في الأصل حلال وليست بيقين مِن الحرام ؛ لكنْ لا نُسَلِّم أنّها ليست مِمَّا فُصِّل مِن الحرام ؛ فسَبّ الآلهة التي تُعْبَد مِن دُون الله مباح وجائز ، لكنّ الشَّرْع حَرَّمه حتّى لا يَكون ذريعةً لِسَبّ الله تعالى ، كما أنّ النصوص الشَّرْعيَّة ذَكَرَتْ أصول الأحكام ونَصَّتْ على بعضها ، والبعض الآخَر لم يُنَصّ عليه لكنْ يُسْتَخْرَج على ضَوْئها .
الدليل الثاني
:
قوْله تَبارَك وتعالى {
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ
إِلا الظَّنَّ
وَإِنَّ
الظَّنَّ
لا يُغْنِى
مِنَ الْحَقّ
شَيْئا } (2)
، وقوْله صلى الله عليه و سلم
{
الظَّنُّ
أَكْذَبُ
الْحَدِيث
}..
وجْه الدلالة
:
أنّ الله تَبَارَك وتعالى بَيَّن لنا أنّ الظَّنّ لا يُغْنِي
(1) يُرَاجَع الإحكام لابن حَمِن الحقّ شيئاً ، وسَدّ الذّرائع عملٌ باحتياط لم يُسْتَيْقَنْ أمْره أو بشيء خوْفَ ذريعةٍ إلى ما
لم يَكُنْ بَعْدُ ، وهذا حُكْم بالظَّنّ ، وإذا حكم بالظَّنّ فقَدْ حكم بالكذب والباطل ، فدَلّ ذلك على أنّ قَطْع الذّرائع حرام ولا يجوز
.
مُنَاقَشَة هذا
الدليل
:
وأَرَى مُنَاقَشَة
هذا الدليل مِن وجْهيْن
:
الوجه الأول
:
أنّ الظَّنّ المَنْهِيّ عنه : ما كان عن هوىً وإثْم أو في العقيدة ولا نُسَلِّم أنّ كُلّ ظنّ حرام ومَنْهِيّ عنه ؛ لأنّ الأحكام الشَّرْعيَّة غالِبها مَبْنِيّ على الظَّنّ ، ومنها سَدّ الذّرائع .
الوجه الثاني
:
لا نُسَلِّم أنّ العمل بسَدّ الذّرائع عملٌ باحتياط لم يُسْتَيْقَنْ أمْره بلْ هو سَدّ لِوسيلة تُوصل إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً .
الدليل الثالث
:
أنّ سَدّ الذّرائع فيه تحريم لِلمباح ، وحينئذٍ يَكون المباح محظوراً ، وهذا فاسِد لا يقوله إلا جاهِل أو كافِر ؛ لأنّه يَنْسِب إلى النَّبِيّ صلى الله عليه و سلم
إباحة الشيء لِلناس ونَهْيهم عنه في وقْت واحد ، وهذا مُحَال لا يَقْدِر عليه أحد ، فدَلّ ذلك على أنّ الذّرائع لا تُسَدّ.
(1) الإحكام لابن حَزْم
مُنَاقَشَة هذا
الدليل
:
وأَرَى مُنَاقَشَة
هذا الدليل مِن وجْهيْن
:
الوجه الأول
:
أنّ سَدّ الذّرائع لا يَترتب عليها تحريم أيّ مباح حتّى يَكون المباح محظوراً ، وإنّما تحريم المباح المُوصل إلى الحرام قَطْعاً أو غالباً .
الوجه الثاني
:
أنّ المُحَال هو اجتماع الإباحة والتحريم في وقْت واحد ، وهو غَيْر مُتَحَقِّق في سَدّ الذّرائع ؛ لأنّ تحريم الوسيلة لم يَصْدُرْ وقْت الإباحة ، وإنّما في حالة توصلها إلى الحرام قَطْعاً
أو غالباً ، فكأنّها إباحة مُقَيَّدة بعدم التوصل إلى الحرام .
الدليل الرابع
:
أنّ الشريعة كما حَسَمَت المَضَارّ أَثْبَتَتْ جواز التوصل إلى الأغراض وإسقاط العقوبات بالشبهات ، ولم تَحْمِلْنَا على القتل لِمَن قَتَل بالعصا الصغيرة إذا قامت بقتله بَيِّنَة هي شاهِد وامرأتان ، وغَيْر ذلك مِن الأسباب التي تُسْقِط الاستيفاء ، ولو كان القصدُ الاحتياطَ لَمَا بَنَاه الشَّرْع على الدرء والإسقاط ؛ لأنّهما ضدّان وحيث إنّ الذريعة مبنيّة على الاحتياط وهو غَيْر مُعْتَبَر فدَلّ ذلك على أنّها غَيْر مُعْتبَرَة شرعاً .
مُنَاقَشَة هذا
الدليل
:
وهذا الدليل مردود عندي :
بأنّ الذريعة المُتَيَقَّن توصلها إلى (1) الواضح 2/76 بتصرف .
الحرام
أَخَذَتْ حُكْمه ، ولِذا يُصْبِح تَرْكها واجباً وليس احتياطاً ، وتَرْك الذريعة يَكون احتياطاً إنْ كان توصلها إلى الحرام ليس غالباً وهذه عَدّها البعض
غُلُوّاً في سَدّ الذّرائع .
تعقيب وترجيح
:
بَعْد الوقوف على أدلّة مذاهب الأصوليّين
في حُجِّيَّة
سَدّ الذّرائع
أَرَى أنَّه يُمْكِن
التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ أدلّة المذهب الأول القائل بحُجِّيَّة سَدّ الذّرائع جاءت صريحةً ومباشِرةً في تحريم الوسائل التي تُفْضِي إلى الحرام : كالنهي عن سَبّ آلهة المُشْرِكين منعاً لِسَبّ الذّات العليّة .
2- أنّ أدلّة المذهب الثاني التي انْفَرَد بها ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ في عدم الأخذ بسَدّ الذّرائع وأنّها ليست حُجَّةً جاءت بعيدةً عن محلّ الاستدلال وغَيْر مباشرة .
وإنّي لأَعْجَب كيْف يطالِبنا ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ بنَصّ أو إجماع على حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع ـ ولِذا فإنّه لم يَعْتَرِفْ بأدلّة الجمهور وعارَضها ـ ثُمّ يأتي بأدلّة ليس فيها نَصّ ولا إجماع يشير مِن قريب أو بعيد إلى عدم حُجِّيَّة سَدّ الذّرائع !
3- أنّ أدلّة المذهب الأول قَدْ سَلِمَتْ جميعها مِن المُنَاقَشَة (1) يُرَاجَع البحر المحو الاعتراض ، ولم تَسْلَمْ أدلّة المذهب الثاني مِن ذلك .
4- ومِمَّا
تَقَدَّم
يَكون الراجح عندي :
ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول القائلون بأنّ الذّرائع حُجَّة وأنَّه يجب قَطْعها فيما يُوصل إلى الحرام .
5- أنّي أُرَجِّح عدم اعتبار سَدّ الذّرائع دليلاً مستقِلاًّ كما ذَهَب الشافعية والحنفية ؛ لأنّها تابعة في ذلك لِمقدِّمة المحظور والحرام ، فتُسَدّ وتُحَرَّم قياساً على مقدِّمة الواجب ، حيث لم يَقُلْ أحد أنّها
دليل .
6- كما أُرَجِّح وجوب سَدّ الذّرائع في كُلّ ذريعة تُفْضِي إلى الحرام قَطْعاً ، أمَّا إذا لم تَكُنْ كذلك فيَخْتَلِف حُكْم كُلّ حالة بحسب نسبة إفضائها إلى الحرام : فإنْ غلب الظَّنّ على أنّها تُوصل إلى الحرام كان سَدّها وقَطْعها هو الأَوْلى ، وإنْ غلب الظَّنّ على أنّها لا تُوصل إلى الحرام كان عدم قَطْعها وسَدّها هو الأَوْلى .
7- كما أُرَجِّح ـ أيضاً ـ عدم التوسع في سَدّ الذّرائع ؛ حتّى لا نُضَيِّق واسعاً ولا نُغْلِق أبواباً كثيرةً مِن الحلال .
وفي ذلك يقول أبو زهرة رحمه الله تعالى :" وإنّ الأخذ بالذّرائع لا تَصِحّ المبالَغة فيه ؛ فإنّ المُغْرِق فيه قَدْ يَمْتَنِع عن أمْر مباح أو مندوب أو واجب خشيةَ الوقوع في ظُلْم : كامتناع بعض
العادلين عن تَوَلِّي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف خشيةَ التهمة مِن الناس أو خشيةً على أنْفُسهم مِن أنْ يَقَعوا في ظُلْم ، ولأنّه لُوحِظ أنّ بعض الناس قَدْ يَمْتَنِع عن أمور كثيرة خشيةَ الوقوع في الحرام " ا.هـ .
العادلين عن تَوَلِّي أموال اليتامى أو أموال الأوقاف خشيةَ التهمة مِن الناس أو خشيةً على أنْفُسهم مِن أنْ يَقَعوا في ظُلْم ، ولأنّه لُوحِظ أنّ بعض الناس قَدْ يَمْتَنِع عن أمور كثيرة خشيةَ الوقوع في الحرام " ا.هـ .
فَتْح
الذّرائع
اتَّفَق العلماء على أنّ الذريعة التي تُفْضِي إلى الحرام قَطْعاً مُحَرَّمة ويجب سدّها ، ولكن هناك حالات تَكون وسيلةً لِلمُحَرَّم لكنّها
غَيْر مُحَرَّمة ، وهو ما يُسَمَّى بـ" فَتْح الذّرائع " ..
وشَرْط هذا الاستثناء
:
أنْ تُفْضِي هذه الوسيلة إلى مَصْلَحَة راجحة ..
ومِن
هذه
الحالات
ما
يلي
:
الحالة الأولى
:
دَفْع مالٍ لافتداء أَسْرَى المُسْلِمين مِن عَدُوّهم ؛ فأصْل دَفْع مالٍ لِلمحارب حرام ؛ لأنّه تَقْويَة لهم وإضعاف لِلْمُسْلِمين لكنْ في دَفْعه مصلحة تَلْحَق المُسْلِمين في إطلاق سراح الأسرى وتقوية لِشَوْكة المُسْلِمين وقُوّتهم ، وهذا مِن قَبِيل فَتْح الذّرائع لا سَدّها .
الحالة الثانية
:
دَفْع مالٍ لِدولة محاربة حتّى نأمَن شَرّها وأذاها عندما لم يَكُنْ لِلمُسْلِمين قوّة يَرُدّون بها كيْدها .
الحالة الثالثة
:
دَفْع مالٍ لِدَفْع الظالم أو مَن يَقْطَعون الطريق
ويَمْنَعون
الوصول إلى البيت الحرام ؛ فقَدْ أجاز ذلك بعض المالكية وبعض الحنابلة