el bassaire

vendredi 3 janvier 2014

فصل في آداب القاضي

فصل في آداب القاضي

أي أخلاق القاضي التي يجب أو يسن له أن يتخلق بها، ويحفظ بها نفسه عن الميل، والأدب بفتح الدال، يقال أدب بكسرها، إذا صار أديبًا في خلق أو علم، ويقال الأدب الظرف وحسن التناول.

(قال تعالى: }وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ{ ) من شرعه المطهر }فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ{ أول الآيات }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ{ قال ابن كثير: نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله، ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل }مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا{ اهـ والآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

فهذه الآية الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وهو الكتاب والسنة، ولما قيل لحذيفة نزلت في بني إسرائيل، قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك، وعن ابن عباس نحوه، وإن كان ليس ككفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وحكى البغوي عن العلماء هذا إذا رد حكم الله عيانًا عمدًا، فأما من خفي عليه، أو أخطأ في تأويل فلا اهـ.

 والتحقيق أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر مطلقًا كما سماه الله، فإما أن يكون كفر عمل، وإما كفر اعتقاد، ناقل عن الملة قال شيخنا: وهو أنواع: إما أن يجحد أحقية حكم الله ورسوله، أو يعتقد أن حكم غير الرسول أحسن من حكمه، أو أنه مثله، أو اعتقد جواز الحكم بما يخالفه، أو مضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادًا ومراجع وغيرها ([1])، وأما كفر العمل الذي قال ابن عباس وغيره: كفر دون كفر، فهو الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، واعترافه بالخطأ.

وقال تعالى: }وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ نزلت أيضًا في أهل الكتاب لما لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض؛ قال الشيخ محمد ابن عبد الوهاب: إن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن إنه لنا، وقال تعالى: }وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ الخارجون عن طاعة ربهم المائلون إلى الباطل، التاركون للحق.

(وقال) تعالى }وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ{ أي استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم، من قول العرب شرت الدابة وشورتها، إذا استخرجت جريها، أمره تعالى بمشاورتهم تطييبًا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر وأحد الحديبية واستشار عليًا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها وغير ذلك، ولابن مردويه سئل عن العزم فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم وقال: المستشار مؤتمن، وإذا استشار أحدكم أخاه فليشر
عليه.

وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه و سلم فدلت الآية وفعله صلى الله عليه و سلم على سنية مشاورة ولي الأمر، وكذا القاضي ذا الرأي، وأهل العلم فيما يشكل، وسؤالهم إذا حدثت حادثة، ليذكروا رأيهم وأجوبتهم وأدلتهم، وإن اتضح للقاضي الحكم حكم وإلا أخره حتى يتضح له الحق.

(وعن أبي بكرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: لا يحكم بين اثنين وهو غضبان) لأن الحكم حالة الغضب يحصل بسببه من التغير ما يختل به النظر، بل الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، بل يحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد، وحيث أنه لا يستوفي الحكم على الوجه منع منه (متفق عليه) وهذا مذهب  فقهاء الأمصار وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر.

وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة، لكونه مظنة لتشويش الفكر، فقد يفضي إلى الخطأ، وليس بمطرد مع كل غضب، مع كل إنسان، أما إن أفضى إلى عدم تمييز الحق من الباطل، فلا خلاف في تحريمه، وإن لم يفض إلى هذا الحد فأقل أحواله الكراهة، وخصه بعضهم بما إذا لم يكن لله، لأن الغضب لله يؤمن معه التعدي، وإن خالف الحاكم فحكم في حال الغضب، فمذهب الجمهور صحة حكمه، وإن وافق الحق لأنه صلى الله عليه و سلم قضى للزبير بعد أن أغضبه الخصم، وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر.

(وعن) عبد الله (بن الزبير) رضي الله عنهما (قال: قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم) فدل على وجوب تسويته بينهما في مجلسه، إذا ترافعا إليه رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وفي إسناده مقال و (صححه الحاكم) وروي عن علي رضي الله عنه أنه جلس إلى جنب شريح في خصومة له مع يهودي، وقال: لو كان خصمي مسلمًا جلست معه بين يديك؛ وفيه أيضًا مشروعية الجلوس بين يدي القاضي، إعزازًا للحكم الشرعي، وقال ابن رشد أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس اهـ.

وإن كانت التسوية بين الخصمين ممكنة، بأن يقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله أو أحدهما في جانب المجلس والآخر في الجانب الآخر جاز، وفيه مشروعية التسوية بين الخصمين لأنهما لما أمرا بالقعود جميعًا على تلك الصفة، كان الاستواء في الموقف لازمًا لهما، وفي قصة على تخصيص بالمساواة بين المسلمين، دون المسلم والكافر.

(وعن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه) ولحظه ودخولهما عليه (وإشارته) فلا يخص أحدهما دون الآخر (ولا يرفع صوته على أحد الخصمين) ليكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر (رواه الدارقطني) وأبو يعلي (وفيه ضعف) فإن في إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف، ويشهد له ما تقدم.

وقال ابن القيم: نهى صلى الله عليه و سلم عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه، لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه بها، ولا يتنكر للخصوم، لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم، وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم، خشية معرة التنكر، ولا سيما لأحدهم دون الآخر، فإن ذلك الداء العضال.

 (وعن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (مرفوعًا: إذا جلس إليك الخصمان) أي للحكم بينهما وفي لفظ "إذا تقاضي إليك رجلان" (فلا تقض بينهما) إذا سمعت من أحدهما (حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) وفي لفظ "فسوف تدري كيف تقضي) رواه أحمد وأبو داود و (حسنه الترمذي) وصححه الحاكم، وله طرق عن البزار وغيره.

وفيه دليل على أنه يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من الخصمين، واستفصال ما لديه، وإحاطته بجميعه، لجواز أن يكون مع خصمه حجة يدفع بها بينة، فإن قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلاً، فلا يلزم قبوله بل يتوجه عليه نقضه، ويعيده على وجه الصحة، أو يعيده حاكم آخر، وفيه دليل على أن الحاكم لا يقضي على غائب، وذلك لأنه إذا منع أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران، حتى يسمع كلام الآخر، فقد دل على أنه في الغائب الذي لم يحضر ولم يسمع قوله أولى بالمنع، وإن امتنع أحد الخصمين عن الإجابة لخصمة جاز القضاء عليه، لتمرده، ولكن بعد التثبت المسوغ للحكم كما في الغائب.
(وعن أم سلمة) رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: إنما أنا بشر) أي مشارك، للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها صلى الله عليه و سلم (وإنكم تختصمون إلي) فكل يدلي بحجته (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي أفطن للحجة، وأعرف بها من غيره، أو أبلغ في إيراد الكلام، وأحسن كما في رواية (فأقضي له بنحو مما أسمع) أي من الدعوى والإجابة والبينة أو اليمين، وقد تكون باطلة في نفس الأمر (فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا) أي قضيت له بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه، فلا يأخذه (فإنما أقطع له
قطعة من النار) أي فهو عليه حرام، يئول به إلى النار (متفق عليه).

وذلك بحيث تكون حجته باطلة في نفس الأمر فيقتطع من مال أخيه قطعة من النار، باعتبار ما يئول إليه، وهذا تمثيل منه صلى الله عليه و سلم يفهم منه شدة التعذيب على ما يتعاطاه بكذبه وفجوره في دعواه على أخيه المسلم، واقتطاع ماله بذلك، وفي الحديث دليل على عظم إثم من خاصم في باطل، حتى ا ستحق به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه، وأن من احتال الأمر باطل بوجه من وجوه الحيل، حتى يصير حقًا في الظاهر ويحكم له به، أنه لا يحل له تناول في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم له به.

وفيه دليل أيضًا مع ما تقدم على أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم، بل يؤجر على اجتهاده كما في الصحيح "وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" قال الحافظ وفيه أن من ادعى مالاً ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه، وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم، وحكى الشافعي لإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ويعلم من الحديث أيضًا كما قال ابن القيم أن ما علمه الحاكم في زمن ولايته ومكانها، وما علمه في غيرها، لا يحكم به، وهل هو إلا محل التهمة.

ولو فتح هذا الباب – ولا سيما لقضاة الزمان – لوجد كل قاض له عدو: السبيل إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، ولا سيما إذا كانت العداوة خفية، لا يمكن عدوه إثباتها وحتى ولو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه لوجب منع قضاة الزمان من ذلك، وقد ثبت عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس ومعاوية المنع من ذلك، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف.

(ولمسلم) والترمذي وصححه (أنه) يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم (قال: للحضرمي) وهو ربيعة بن عيدان (ألك بينة؟) وذلك أنه كان بينه وبين رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الشاعر الصحابي، خصومة في أرض، قال الحضرمي: غلبني على أرض كانت لأبي، وقال الكندي: هي أرضي في يدي، أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي: «ألك بينة على دعواك على ما في يده؟» (قال: لا، قال: فلك يمينه) قال: الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس لك إلا ذلك" ففيه أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة، ولا يلزمه التكفيل، ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس، وفيه: فانطلق ليحلف، فقال: «لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًأ ليلقين الله وهو عنه معرض».

وأما التهمة فلأبي داود أنه صلى الله عليه و سلم حبس في تهمة، طلبًا لإظهار الحق بالاعتراف، قال ابن القيم: والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعي عليه الذي يسوغ إحضاره، وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم، حتى يفصل بينهما، وقد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل، فيكون المطلوب محبوسًا من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه، وهذا حبس بدون التهمة، ففيه التهمة أولى، فإن الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل الخصم، أو وكيله عليه وملازمته له.

قال: فإذا جاز حبس المجهول، فحبس المتهم بالفجور والسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك أولى، قال الشيخ: وما علمت أحدًا من الأئمة يقول إن المدعي عليه يحبس وذكر كثيرًا من الدعاوي ثم قال: في جميع هذه الدعاوي يحلف، ويخلى سبيله بلا حبس ولا غيره، ومن زعم أنه مذهب لأحد من الأئمة وأنه على إطلاقه وعمومه هو الشرع، فقد غلط غلطًا فاحشًا مخالفًا للنصوص وإجماع الأمة وبمثل هذا الغلط تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم، ومصلحة الأمة، وتعدوا حدود الله، والشرع لم يسوغ تكذيب صادق، ولا إبطال إمارة، وعلامة شاهدة بالحق.

(ولهما قال) يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما رواه الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «شاهداك» فالأشعث هو المدعي فعليه البينة (أو يمينه) لأن خصمه أنكر دعواه، وتقدم "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" قال: (ليس لك إلا ذلك) فقلت إذا يحلف ولا يبالي، فقال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو فيها فاجر لقي الله وهو علي غضبان".

وتقدم أن ابن عمر باع غلامًا بثمانمائة درهم بالبراءة، فقال الذي ابتاعه، به داء لم يسم، فقضى عثمان باليمين على ابن عمر، فأبى فحكم عليه بالنكول، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة، وهو المشهور عن أحمد؛ واستلف المقداد سبعة آلاف درهم، وأتاه بأربعة، فقال عثمان: سبعة، فقال المقداد لعمر: ليحلف أنها كما يقول، وليأخذها فقال عمر: أنصفك وكان شريح إذا قضي باليمين على رجل فردها على الطالب، فلم يحلف لم يعطه شيئًا ولم يستحلف الآخر، وعبد الله بن عتبة إذا قضي على رجل باليمين فردها على المدعي، فأبى لم يجعل له شيئًا، وقال أبو عبيد: رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة، قال تعالى }أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ{ وفي القسامة ردها على المدعي عليه فهذا هو الأصل في رد اليمين، قال ابن القيم: وهذا مذهب الشافعي ومالك وصوبه الإمام أحمد.

وقال شيخ الإسلام: ليس المنقول عن الصحابة في النكول ورد اليمين بمختلف بل هذا له موضع، وهذا له موضع، فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به، فرد المدعي عليه اليمين فإنه إن حلف استحق، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعي عليه، وهذا كحكومة عثمان والمقداد فإن المدعي هنا يمكنه معرفة ذلك والعلم به، فإذا لم يحلف لم يحكم له إلا ببينة أو إقرار، وأما إن كان المدعي لا يعلم ذلك، والمدعى عليه هو المتفرد بمعرفته، فإنه إذا نكل عن اليمين حكم عليه بالنكول، ولم ترد على المدعي كابن عمر.

(وكتب عمر) بن الخطاب أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين المحدث الملهم كتابه المشهور الذي قال فيه أبو إسحاق: هو أجل كتاب، فإنه بين آداب القضاة، وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد، واستنباط القياس، وقال الشيخ: رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى، تداولها الفقهاء، وبنوا عليها، واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، وكلامه من أجمع الكلام وأكمله، فإنه محدث ملهم، كل كلمة من كلامه تجمع علمًا كثيرًا. وقال ابن القيم: هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه، وروي أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقال صلى الله عليه و سلم «إن يكن في أمتي محدثون فعمر».

وقال حذيفة: هو أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأعرفنا بالله، والله لهو أبين من طريق الساعين، وقال ابن مسعود: لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح عليهم، وقال الشعبي: من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء، فليأخذ بقول عمر، وقال ابن المسيب: لا أعلم أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم من عمر، وهذا كتابه (إلى أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري، وكان صلى الله عليه و سلم استعمله على بعض اليمن.

قال عمر رضي الله عنه: أما بعد فـ (إن القضاء فريضة محكمة) أحكمها الله في كتابه (وسنة متبعة) سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قال صلى الله عليه و سلم «العلم ثلاثة، آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة» (فافهم إذا أدلي إليك) أي أدلى إليك الخصوم، وتنبه لما يقولونه، وافهم نفس الواقع، مما توصل به من الكلام الذي تحكم به بين الخصوم، واستنبط حقيقته بالقرائن والأمارات والعلامات، وافهم أحوال الناس وميز بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، وافهم حكم الله الذي تحكم به فيه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم وطابق بين هذا وهذا.

وأعط الواقع حكمه من الواجب، ولا تجعل الواجب مخالفًا للواقع بل توصل بمعرفة الواقع، والتفقه فيه إلى معرفة حكمة الله ورسوله، كما توصل نبي الله سليمان إلى معرفة عين الأم بشق الولد ونحو ذلك، ولم يزل الحذاق يستخرجون الحقوق بالأمارات، والفراسة، والفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الحق والباطل؛ والمحق والمبطل ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الله عز وجل، قال رضي الله عنه (فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له) إلى قلبك لتفهمه.

وقال ابن القيم: مراد عمر تحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق، والقوة على تنفيذه قال عمر (آس الناس في مجلسك) وقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم، قال عمر (و) آس الناس (في وجهك) وعليه أن يعدل بينهم في لفظه وإشارته (و) آس بينهم في (قضائك) وقد أمر الله بالحكم بالقسط وهو العدل، وبالحق، ومتى عدل الحاكم بين الخصمين فهو عنوان عدله، ومتى خص أحد الخصمين بمجلس أو قيام أو بشاشة أو نحو ذلك، كان عنوان ظلمه وجوره.

(حتى لا يطمع شريف في حيفك) أي في ميلك معه لشرفه، والحيف الجور والظلم (ولا ييأس ضعيف من عدلك) حيث إنه لا يميل بك الهوى، فتجور عليه في الحكم (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) البينة هي لكل ما يبين الحق و يدل عليه، ويأتي مرفوعًا. قال ابن القيم: فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به، من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقًا قد ظهر دليله، ولا يقف ظهوره على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به، مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن جحده ودفعه كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد، في صورة من على رأسه عمامة، وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه.

وذكر النكول واليمين والشاهد الواحد، وفي الزنا بالحبل، وفي الخمر بالرائحة والقيء، وفي السرقة بوجود المسروق، وأن البينة في كلام الله، وكلام رسوله وكلام الصحابة أعم منها في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين وأن الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها، وأن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب.

قال: والحكم قسمان، إثبات وإلزام، وكلاهما له طرق متعددة، أحدها الحكم باليد المجردة، التي لا تفتقر إلى يمين والإنكار المجرد، وباليد مع يمين صاحبها، إذا سئل إحلافه، وبالنكول وحده، أو به مع رد اليمين، أو بشاهد وامرأتين، أو بشهادة امرأتين ويمين المدعي، أو امرأتين فقط، وبثلاثة واربعة وبالصبيان المميزين، والفساق والكفار في صور، وبالإقرار وبالتواتر وبالإستفاضة، وبأخبار الآحاد، والخط، وبالعلامات الظاهرة، والقرعة والقافة وذكر نحو خمسة وعشرين طريقًا.

قال عمر رضي الله عنه (والصلح جائز بين المسلمين) وليس بحكم لازم يقضي به، إن لم يرض به الخصم وقوله: بين المسلمين: خرج مخرج الغالب (إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالاً) وهذا لفظ حديث مرفوع تقدم صححه الترمذي وغيره، وندب تعالى عن الصلح في غير موضع من كتابه، وقال عمر: ردوا الخصوم حتى يطصلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن، وقال: ردوا الخصوم، ولعلهم أن يصطلحوا فإنه آثر للصدق، وأقل للخيانة، وقال: ردوا الخصوم إذا كان بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن.

وأخبر صلى الله عليه و سلم أن الصلح أفضل من درجة الصائم القائم، قال ابن القيم: والحقوق نوعان حق لله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكاة والكفارات ونحوها، وإنما الصلح بين العبدوربه في إقامتها، لا في إهمالها، وحقوق الآدميين هي التي تقبل الصلح، والإسقاط والمعاوضة عليها، والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله كما قال تعالى: }فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ{ والصلح الجائر، هو: الظلم بعينه قال وكثير من الظلمة والمصلحين يصلح بين القادر الظالم، والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر الظالم، ويصلح بين الغريمين على دون الطفيف على حق أحدهما، والصلح الذي يحل الحرام ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال، وإحلال بضع حرام، أو إرقاق حر أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل أو أكل ربا أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد وما أشبه ذلك.

والصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله ورضى الخصمين يكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، كما أصلح النبي صلى الله عليه و سلم بين كعب وغريمه وأرشد الخصمين اللذين كانوا بينهم مواريث، بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ونحو ذلك قال رضي الله عنه: (ومن ادعى حقًا غائبًا) فاضرب له أمدًا ينتهي إليه (أو ادعى (بينة) غائبة (فاضرب له أمدًا ينتهي إليه) فإن المدعي قد تكون له حجة أو بينة غائبة فلو عجل عليه بالحكم بطل حقه.

فإذا سأل أمدًا تحضر فيه حجته أجيب إليه، ويكون الأمد بحسب الحاجة (فإن بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك) أي ما ادعاه من الحق، ومضى الأمد (استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلي للعمى) فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم لم يضرب له أمدًا، بل يفصل الحكومة فإن ضرب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل، فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم، قال: (ولا يمنعك قضاء قضيته في اليوم) أي القريب لا فيما بعد (فراجعت فيه رأيك) معتقدك (فهديت فيه  لرشدك) والرشد الاستقامة على طريق الحق، ضد الغي (أن تراجع فيه الحق) يعني الصواب من الشرع.

(فإن الحق قديم) سابق على الباطل (لا يبطله شيء) من الآراء وغيرها، فإذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته (ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) فإن الحق أولى بالإيثار، لأنه قديم سابق، ولو كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه قديم سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول.

وعمر رضي الله عنه قضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأمها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم فأخذ رضي الله عنه في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول، من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، قال ابن القيم: فجرى أئمة الإسلام على هذين الأصلين.

قال رضي الله عنه (والمسلمون عدول بعضهم على بعض) قال تعالى: }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا{ أي عدلاً خيارًا }لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ{ فالمسلمون عدول، بعضهم على بعض بالإجماع إلا من قام به مانع الشهادة، كما قال أمير المؤمنين (إلا مجربًا عليه شهادة زور) فلا يوثق بعد ذلك بشهادته، وقالت عائشة: ما جر على أحد كذبًا فرجع إليه، حتى يعرف منه توبة، وقال صلى الله عليه و سلم «لا تزال قدمًا شاهد الزور حتى يقذف به في النار» وهي من الكبائر.

(أو مجلودًا في حد) فلا تقبل شهادته، وهذا لا نزاع فيه، لأن الله تعالى نهى عن قبول شهادته قال: }وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا{ فتقبل عند الجمهور، قال عمر: (أو ظنينًا) أي متهمًا والشهادة ترد بالتهمة (في ولاء) كشهادة السيد لعتيقه بمال، أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله، أو منقطعًا إليه يناله نفعه، ولا ترد بالولاء قال: (أو قرابة) كشهادة القريب لقريبه، فلا تقبل مع التهمة.

وتقبل بدونها، لعموم الآيات، وعدم الاستثناء في الآيات والأخبار، وخبر "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ظنين في ولاء، أو قرابة ولا مجلود" قال ابن القيم: وهو الصحيح حيث لا تهمة فالتهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيرته، ومن تعنيه مودته ومحبته، أعطم من تهمته في أبيه وابنه، والواقع شاهد بذلك، وكثير من الناس يحابي صديقه وعشيرته وذا وده  أعظم مما يحابي أباه وابنه وقال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه إذا كانوا عدولاً لم يقل الله حين قال: }مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ{ إلا والدًا وولدًا وأخًا، قال ابن القيم: هذا لفظه، وليس في ذلك عنه روايتان، بل إنما منع من شهادة المتهم في قرابته وولائه، وقال إسحاق بن راهويه، لم تزل قضاة الإسلام على هذا اهـ.

فالتهمة هي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها، بل توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد التهمة حيث لا قرابة والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة، وكون الشاهد مرضيًا وعلق عدم قبولها بالفسق.

قال رضي الله عنه (فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر) وقال في خطبته: من أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، وقال: إن الوحي قد انقطع ولا نؤاخذكم إلا بما ظهر لنا، ومراده من ظهر لنا من علانيته خير قبلنا شهادته، ووكلنا سريرته، إلى الله، وقال: لا نقبل إلا العدول فأحكام الدنيا على الظواهر والسرائر تبع لها.

قال: (وستر عليهم الحدود) أي وستر على المسلمين المحارم، وهي حدود الله، والحد يراد به الذنب، ويراده به العقوبات قال: (إلا بالبينات) الأدلة والشواهد، فقد صح عنه الحد في الزنا، بالحبل قال: (والأيمان) والمراد بها أيمان الزوج في اللعان، وأيمان أولياء القتيل في القسامة قال ابن القيم: وهي قائمة مقام البينة قال: (ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك) كرر الفهم لمسيس الحاجة إليه قال إياس بن معاوية: إنما القضاء فهم، وقال تعالى: }فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ{ وهو الذي اختص به إياس وشريح وأمثالهما، مع مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم.

والمراد الفهم في الواقع، والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، قال ابن القيم: وهو الذي فات كثيرًا من الحكام، فأضاعوا كثيرًا من الحقوق، ثم قال: (مما ورد عليك) من القضايا وفي رواية " الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك" (مما ليس في قرآن ولا سنة) وفي لفظ "في كتاب ولا سنة) حثه على الأصل الثالث للأحكام وهو القياس وهو أن يلحق ما لم يعلم حكمه من الكتاب والسنة بما علم حكمه، لمشابهة بينهما في السبب الذي من أجله شرع الحكم فقال رضي الله عنه (ثم قايس الأمور عند ذلك) وقال لشريح: اجتهد رأيك، وفي خبر معاذ: اجتهد رأي ولا آلوا.

وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يومنا وهلم جرًا استعلموا المقاييس في الفقه، وفي جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس، لأنه التشبيه بالأمور، والتمثيل عليها، قال الشيخ: القياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين،
 فالأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس.

وهو العدل الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه و سلم وهو الميزان الذي أنزل به الكتاب، وهو أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شرع الحكم في الأصل.

وقال ابن القيم: الأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة، قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، وقد وردت في القرآن، فمن قياس العلة (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) وقياس الدلالة هو الجمع بين الأصل والفرع، بدليل العلة وملزومها ومنه }تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً{ الآية، وقياس الشبه حكاه عن المبطلين، وقال أحمد: القياس: الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فإذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت.

قال: (واعرف الأمثال) أي الأشباه والنظراء من القضايا الواردة عليك، وفي لفظ "ثم أعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك" أي على ما ورد في الكتاب والسنة، والأحكام الشرعية مشتملة على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بالنظير، واعتبار الشيء بمثله، والله تعالى قد فطر عباده عليه، وعلى العقل والميزان، ومن قياس الشبه ما وقع في القرآن من الأمثال فإنها تشبيه شيء بشيء، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر، وهي كثيرة، وقال تعالى: }وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ{  والرسول صلى الله عليه و سلم ضرب الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها، ولا مراء في أنس النفس بضرب الأمثال.

قال: (ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله) مما أمر به، وفي لفظ "وأعمد على أقربها إلى الله" أي إلى شرع الله وحكمه "والله يحب المقسطين" ويحب العدل، ويكره الظلم والجور، ثم قال: (وأشبهها بالحق) أي ثم أعمد في قضاياك إلى أشبهها بالحق ضد الباطل (وإياك) والغضب (والقلق) الانزعاج، ويروى بالغين المعجمة (والضجر) وعدم الصبر على تنفيذ الحق، فحذره عما يحول بينه وبين معرفة الحق، فالغضب غول العقل، يغتاله كما يغتاله الخمر، وتقدم النهي عنه، وهو نوع من القلق، فهو يغلق على صاحبه حسن التصور.

(والتأذي بالناس) أي وإياك والتأذي بالناس، وفي لفظ "والتأذي بالخصوم " أمره أولاً بالمساواة بين الخصوم، ثم حضه على الصبر، وفيه الأجر الجزيل قال: وإياك (والتنكر من الخصوم) لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم، ولا سيما لأحدهم دون الآخر كما تقدم (فإن القضاء في مواطن الحق) حظه على تنفيذ الحق، والصبر عليه لأنه (مما يوجب الله به الأجر) الجزيل كما في الحديث "ورجل قضى بالحق" إلخ (ويحسن به الذكر) فيوصف بالعدل، ويثنى عليه، حثه على الصبر أولاً لما في التحلي به، والاحتساب والجهاد في إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه، من الأجر الجزيل عند الله، وحسن الذكر، ولسان الصدق.

(فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه) قال تعالى: }كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ{ فمن فعل ذلك (كفاه الله ما بينه وبين الناس) وفي الحديث "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس" والمخلص في العمل قد يجعل الله له ثواب إخلاصه: المحبة والمهابة في قلوب الناس، مع ما يدخره له في الآخرة (ومن تزين بما ليس فيه، شانة الله) أي بين الناس، لأنه شان باطنه عند الله، فعامله بنقيض قصده.

(فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا) له وموافقًا شرعه وقال تعالى: }لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{ أخلصه وأصوبه، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة (فما ظنك بثواب عند الله) يجزيك به على عملك إذا كان خالصًا وذلك الثواب يكون (في عاجل رزقه) إما للقلب وإما للبدن أولهما فإن الله تعالى يجزيك من خير الدنيا (و) كذا (خزائن رحمته) يكون مدخرًا لك في الآخرة، وليس ما يحصل في الدنيا جزاء توفيه بل يكمل له أجره في الآخرة، قال تعالى: }لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ{ فمن أخلص لله في أعماله في القضاء بين الناس أو غيره، نال الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة.

(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما وغيره (قال: لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الراشي) وهو من يعطي الذي يعينه على الباطل، وإن كان على حق مجمع عليه جاز (والمرتشي) الآخذ الرشوة في الحكم، وهو من حديث أبي هريرة فاستحقا اللعن جميعًا، لتوصل الراشي بماله إلى الباطل، والمرتشي للحكم بغير الحق (رواه الخمسة، وصححه الترمذي) وابن حبان وغيرهما، وزاد أحمد "والرائش" وهو الذي يمشي بينهما يعني السفير بين الدافع والآخذ وإن لم يأخذ على سفارته أجرًا فإن أخذ فهو أبلغ.

والرشوة حرام بإجماع المسلمين، سواء كانت للقاضي، أو للعامل على الصدقة، أو لغيرهما، وقد قال تعالى: }وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ { .

وقال الشيخ: أجمع المسلمون على أن الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، وما يأخذه القضاة من الأموال أربعة أقسام، رشوة وهي حرام بالإجماع، وهدية فإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين أحد خصومة عنده، فهي حرام على الحاكم والمهدي، وأما الأجرة فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق، لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، وإن كان لا جراية له فقيل بالجواز لأنه إنما يعطى لكونه يعمل عملاً لا لأجل كونه حاكمًا ولا يستحق لأجل كونه حاكمًا بالاتفاق، فأجرة العمل أجرة مثله.

ومن ادعى أن بعض الحكام أخذ منه شيئًا فقال الشيخ: إن كان الرجل معروفًا بالصدق، فله على الحاكم اليمين، وإن كان غيره من الصادقين قد قال مثل قوله، فينبغي عزل الحاكم، وإن كان الحاكم معروفًا بالأمانة، والرجل فاجر، لم يلتفت إلى قوله، وإن كان كل منهما متهمًا، فله تحليفه، ولا يعزر.

(وعن جابر) رضي الله عنه (مرفوعًا: كيف تقدس أمة) أي كيف تطهر أمة (لا يؤخذ من شريفهم) أي لا يؤخذ الحق من شريف تلك الأمة وكريمهم وفي لفظ: " من شديدهم" (لضعيفهم) الذي تستضعفه تلك الأمة وتتجبر عليه لضعفه وفقره (رواه ابن حبان) وابن خزيمة وابن ماجه، وله شواهد كثيرة، والمراد أنها لا تطهر أمة من الذنوب، لا ينتصف لضعيفها من قويها فيما يلزم من الحق له، فإنه يجب نصر الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي، وفي الحديث: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا".

(وعن عمرو بن مرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين) سلطانًا كان أو أميرًا أو قاضيًا أو غيرهم ممن ولي (فاحتجب عن حاجتهم) وفقيرهم وفي حديث معاذ عند أحمد "فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة" (احتجب الله دون حاجته) يوم القيامة (رواه أبو داود) ورواه الترمذي ولفظه.

 "ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، وإلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" والحديث وما في معناه دليل على أنه يجب على من ولي من أمور المسلمين قضاء أو غيره أن لا يحتجب عنهم، وأن يسهل الحجاب ليصل إليه ذو الحاجة من فقير وغيره.

(وكتب صلى الله عليه و سلم إلى كسرى) عظيم فارس "سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله (و) كتب إلى (قيصر) عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الله، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، وبينكم، أن لا نعبد إلا الله إلخ (و) كتب إلى (النجاشي) ملك الحبشة وهو غير
أصحمة.

(و) كتب (إلى ملوك الأطراف) فكتب إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وإلى المنذر بن ساوي العبدي، ملك البحرين، وإلى جيفر الجلندري، وعمار صاحبي عمان، وإلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وغيرهم.

(و) كتب إلى (ولاته وسعاته وغيرهم) مما يطول عدهم وتقوم بها الحجة، ولم يكن يشافه رسولاً بكتابه، ولا جرى هذا في مدة حياته، بل يدفع الكتاب مختومًا، ويأمر بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم بالضرورة لأهل العلم بسيره وأيامه، وفي الصحيح "ما حق امرئ، مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولو لم يجز الاعتماد على الخط، لم يكن لكتابة وصيته فائدة، فدلت كتبه صلى الله عليه و سلم المستفيضة وكتب الخلفاء والأمراء والقضاة والعمال وغيرهم بعضهم إلى بعض على قبول كتاب القاضي إلى القاضي، لدعاء الحاجة إليه، وأجمعت عليه الأمة في الجملة.

وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإنه لو لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة حتى قال الشيخ: الأمراء الذين يستدينون ما يحتاجون إليه، ويكتب الأمير خطه لصاحبه، أو يقيده وكيله أو نائبه في دفتره، أو يقرض دراهم وكل ذلك بغير حجج ولا إشهاد، ثم يموت فكل ما وجد بخط الأمير أو أقر به كاتبه أو وكيله في ذلك، فيجب العمل بذلك لأن خطه كلفظه، وإقرار وكيله فيما وكل فيه مقبول، فلا تحتاج أصحاب لحقوق إلى بينة، لأن في ذلك ظلمًا للأموات، وخروجًا عن العدل المعروف.

وقال الوزير: اتفقوا على أن كتاب القاضي إلى القاضي من مصر إلى مصر، في الحقوق التي هي المال أو ما كان المقصود منه المال، جائز مقبول واتفقوا على أنه في الحدود والقصاص، والنكاح والطلاق والخلع غير مقبول، إلا مالكًا، وقال الشيخ: يقبل في الحدود والقصاص، وهو مذهب مالك وأبي ثور والشافعي، أيضًا في القصاص، والمحكوم إذا كان عينًا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب، وأما إن كان دينًا أو عينًا في بلد أخرى، فهنا يقف على الكتاب.

وإذا كان المحكوم غائبًا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عندهن من شهادة الشهود، حتى يكون الحكم في بلد التسليم، ولو أوجب لكان متوجهًا وقال: وإخبار الحاكم أنه ثبت عنده بمنزلة إخباره أنه حكم به، أما إن قال: شهد عندي فلان أو أقر عندي فلان، فهو بمنزلة الشاهد سواء، فإنه في الأول تضمن قوله: ثبت عندي الدعوة والشهادة والعدالة أو الإقرار، وهذا من خصائص الحكم، بخلاف شهد عندي، أو أقر عندي، فإنما يقتضي الدعوى اهـ.

ويقبل كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه المكتوب إليه، وإن كان كل منهما في بلد واحد، لا فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر، فأكثر، ويجوز إلى قاض معين وإلى من يصل إليه من قضاة المسلمين من غير تعيين، واشترط بعضهم الإشهاد عليه، وقال ابن القيم وغيره: لم يزل الخلفاء والقضاة وغيرهم يعتمدون كتب بعضهم إلى بعض، ولا يشهدون حاملها على ما فيها، ولا يقرأونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن قال: والقصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف وتيقن، كان كنسبة اللفظ إليه.
وقد جعل الله في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره، كتمييز صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها أن هذا فيه خط فلان، وقال: ومن عرف خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالضرب، وإنكار مضمونه، وقال الشيخ: العمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف اهـ، ويلزم الحاكم أن يكتب للمدعي عليه إذا ثبتت براءته محضرًا بذلك، إن تضرر بتركه، وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق.


([1]) وذلك لما انجر كلامه على القوانين الملعونة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire