el bassaire

vendredi 3 janvier 2014

باب الشهادات



باب الشهادات

واحدتها شهادة مشتقة، من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وهي الإخبار بما علمه، وقال بعضهم: بلفظ أشهد أو شهدت، وكثير من الفقهاء وهو رواية عن أحمد وغيره أنه لا يشترط لفظ أشهد، قال ابن القيم: الإخبار شهادة محضة في أصح الأقوال، وهو قول الجمهور، فإنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ أشهد، بل متى قال الشاهد رأيت كيت وكيت، أو سمعت ونحو ذلك كانت شهادة منه، وليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم موضع واحد يدل على اشتراط لفظ الشهادة ولا عن رجل واحد من الصحابة، ولا قياس، ولا استنباط يقتضيه، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة ولغة العرب تنفي ذلك، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر كلام أحمد.

وذكر الأدلة ثم قال: قال شيخنا: لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ولا أقوال أحد من الصحابة، ولا يتوقف إطلاق لفظ الشهادة لغة على ذلك، وقال: إقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة، بدليل الأمة السوداء في الرضاع اهـ. والشهادة سبب موجب للحق، وحيث امتنع آداؤها، امتنع كتابتها وظاهر كلام الشيخ وغيره يحرم كتمانها ويقدح فيها ولو كان بيد إنسان شيء لا يستحقه، ولا يصل إلى مستحقه، إلا بشهادة لزمه أداؤها وتعين، ولو كان الشهود أكثر من نصاب الشهادة، وطلب أحدهم وجب عليه أداؤها في أصح قولي العلماء، وأما إذا كان المطلوب لا يتم نصاب الشهادة إلا به فقد تعينت عليه إجماعًا والأصل في الشهادة الكتاب والسنة والإجماع، وكذا الاعتبار لدعاء الحاجة إليها، لحصول التجاحد بين الناس، فوجب الرجوع إليها.

(قال تعالى: }وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا{ أي للتحمل، فعليهم الإجابة، ومذهب الجمهور أنه فرض كفاية، وفي الأداء إذا دعي للأداء فعليه الإجابة عينًا، إذا تعينت عليه، فإن الشاهد حقيقة فيمن تحمل، وقال ابن القيم: نعم التحمل والأداء فهي حق يأثم بتركه، قال الشيخ: يجب على من طلبت منه الشهادة أداؤها، بل إذا امتنع الجماعة من الشهادة أثموا كلهم، باتفاق العلماء، وقدح ذلك في دينهم وعدالتهم.

قال ابن القيم: وقياس المذهب أن الشاهد إذا كتم الشهادة بالحق ضمنه، لأنه أمكنه تخليص حق صاحبه فلم يفعل، فلزمه الضمان، كما لو أمكنه تخليصه من هلكة فلم يفعل، وطرد هذا: الحاكم إذا تبين له الحق فلم يحكم لصاحبه به، فإنه يضمنه، لأنه أتلفه عليه، بترك الحكم الواجب عليه }وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ{ أي الحق }صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ{ أي إلى محل الحق }ذَلِكُمْ أَقْسَطُ{ أي أعدل }عِنْدَ اللهِ{ لأنه أمر به وإتباع أمره أعدل من تركه }وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ{ لأن الكتابة تذكر الشهود (وأدنى) أحرى وأقرب }وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا{ تشكوا في الشهادة والمراد: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً هو أعدل عند الله، وأثبت للشاهد إذا وضع خطه، ثم رآه تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا، وهو أقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة، واستثنى تعالى فقال: }إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا{ لانتفاء المحذور في ترك الكتابة.

(وقال: }وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ{ أي أشهدوا على حقكم، سواء كان فيه أجل أو لم يكن، والجمهور أنه على الندب والإرشاد، لا على الوجوب لقوله: }فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ{ قال: }وَلَا يُضَارَّ{ أصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى، ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، أي ولا يضار }كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ{ قيل معناه: لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، أو يزيد الكاتب أو ينقص، أو يحرف ما أملي عليه، أو الشهيد بما لم يستشهد عليه، أو يكتمها.

وقيل: لا يضر بهما، بأن يدعوهما إلى الكتاب والشهادة، فيقولان إنا على حاجة، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما ثم قال: }وَإِنْ تَفْعَلُوا{ أي ما نهيتكم عنه }فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ .

 وقال: }وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ{ أي إذا دعيتم إلى إقامتها، فلا تخفوها ولا تغلوها، بل أظهروها قال ابن عباس شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمان الشهادة كذلك }وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ{ أي فاجر قلبه، وفيها من الوعيد الشديد، حتى قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة قال: }وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ{ وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك، وخص القلب لأنه موضع العلم بها.

فدلت الآية على أن أداء الشهادة فرض عين على من تحملها متى دعي إليها إن قدر بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، لما تقدم من قوله }وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ{ ثم قال تعالى: }وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ{ أي: بيان الشهادة وكتمانها }عَلِيمٌ{ فلا يخفى عليه خافية، وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعى إلى القول المخالف للكتاب والسنة، أو إلى محرم، فلا يسوغ له أداء الشهادة اتفاقًا اللهم إلا أن يظهر قولاً يريد به مصلحة عظيمة.

(وقال) تعالى: }كُونُوا{ أي أيها الذين آمنوا }قَوَّامِينَ{ أي قائمين لله }بِالْقِسْطِ{ أي بالعدل، فلا تعدلوا عنه يقينًا ولا شمالاً ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا يصرفكم عنه صارف }شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ{ أي قولوا الحق ولو على أنفسكم ولو ضرره عليك، فإن الله يجعل لمن أطاعه مخرجًا من كل أمر يضيق عليه، ثم قال: }أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ{ فلا تراع أحدًا في الشهادة، قريبًا كان أو بعيدًا، بل أدها ابتغاء وجه الله، عادلة خالية من التحريف.

(وقال) تعالى: }كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ{ أي كونوا قوامين لله بالصدق قوالين به، لا لأجل الناس، ولا للسمعة وكونوا }شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ{ أي بالعدل لا بالجور، وقال صلى الله عليه و سلم في نحلة بشير لابنه النعمان "لا تشهدني على جور" فتقبل شهادة الأب على ابنه، والابن على أبيه ويأتي، ولهم إذا انتفت التهمة }وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ{ أي لا يحملنكم }شَنَآنُ قَوْمٍ{ أي بغض قوم، وعداوة بينكم وبينهم، وخصومات وغير ذلك }عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا{ أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، بل يجب العدل في كل أحد ثم قال: }اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{ أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ثم قال: }وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{ وسيجزي كل عامل على عمله.

(وقال) تعالى: }إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ{ ضد الباطل }وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ أي بقلوبهم ما شهدت به ألسنتهم فعموم الآية يدل على أنه لا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه، والعلم إما برؤية أو سماع من مشهود عليه كعتق وطلاق وعقد، أو سماع باستفاضة فيما يتعذر علمه بدونها، كنسب وموت وملك وطلاق ونكاح ووقف ونحو ذلك؛ قال الشيخ: تصح الشهادة بالمجهول، ويقضي له بالمتيقن، وللمجهول في مواضع كثيرة أما حيث يقع الحق مجهولاً فلا ريب فيها، كما لو شهد بالوصية بمجهول، أو لمجهول، أو شهد باللقطة أو اللقيط، والمجهول نوعان: مبهم كأحد هذين ومطلق كثوب وعبد.

قال: ويشهد بالاستفاضة، ولو عن واحد تسكن نفسه إليه، قال: ويتوجه أن الشهادة بالدين لا تقبل إلا مفسرة للسبب، ولو شهد شاهدان أن زيدًا يستحق من ميراث مورثة قدرًا معينًا، أو من وقف كذا وكذا جزءًا معينًا، أو أنه يستحق منه نصيب فلان ونحو ذلك، وفكل هذا لا تقبل فيه الشهادة إلا مع بيان السبب، لأن الانتقال في الميراث والوقف حكم شرعي، يدرك باليقين تارة، وبالاجتهاد أخرى، فلا تقبل حتى يتبين سبب
الانتقال اهـ.

ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه، لاختلاف الناس في بعض الشروط، وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب مسكر أو قذف فإنه يصفه، ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها، ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف الحكم به في كل ما يشهد به فيه.

(وقال) تعالى: }وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ{ البهت والكذب ولأحمد مرفوعًا " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" فهي كبيرة من كبائر الذنوب، ولما يأتي (وعن زيد بن خالد) الجهني رضي الله عنه (مرفوعًا: ألا أخبركم بخير الشهداء) جمع شهيد، ويجمع على شهود، أي ألا أخبركم بأكمل الشهداء في رتبة الشهادة وأكثرهم ثوابًا عند الله (الذي يأتي بشهادته) يخبر بها (قبل أن يسألها) وفي رواية "قبل أن يستشهد " (رواه مسلم) فإذا كان عند شخص شهادة بحق، لا يعلمها صاحب الحق، فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها، فيخلف ورثة فيأتي إليهم، فيخبرهم بأن عنده لهم شهادة.

وقيل: المراد بها شهادة الحسبة، وهي ما لا تتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضًا ويدخل فيها ما يتعلق بحق الله، أو ما فيه شائبة منه، كالوقف والوصية العامة وغير ذلك، أو أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها، مبالغة في الإجابة فيكون في ذلك كالجواد يعطي قبل أن يسأل. قال الشيخ: والطلب العرفي أو الحالي في طلب الشهادة كاللفظي علم المشهود له أولا، وهو ظاهر الخبر، "يشهدون ولا يستشهدون" محمول على شهادة الزور، وإذا أدى الآدمي شهادة قبل الطلب، قام بالواجب، وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة.

(ولهما عن عمران بن حصين) رضي الله عنه (مرفوعًا: خير أمتي) وأفضلهم وأقلهم شرًا (قرني) لفضيلتهم في العلم
والإيمان، والأعمال الصالحة (ثم الذين يلونهم) لفضيلتهم في ذلك، وهم دون القرن الأول (ثم الذين يلونهم لأنهم دون
القرن الثاني. وفي رواية: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة، والمشهود أن القرون المفضلة ثلاثة، وإن كان الثالث قد كثرت فيه البدع، لكن العلماء متوافرون، والإسلام ظاهر (ثم
إن بعدهم قومًا) أي بعد الثلاثة أو الأربعة (يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم أمر الشهادة وعدم تحريمهم للصدق، لقلة دينهم، وضعف أماناتهم، وقد وقع اليوم في ذلك الكثيره (ويخونون ولا يؤتمنون) فدل على أن الخيانة قد تغلب على كثير منهم أو أكثرهم كما يشهد له الواقع.

(وللبخاري من حديث ابن مسعود) "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم" (تسبق شهادة أحدهم يمينه) استخفاف بالأيمان وبالشهادة (ويمينه شهادته) لضعف دينهم، وقلة مبالاتهم بالشهادة واليمين وتسرعهم إلى ذلك، وقد خف أمر الله عندهم، وأمر الشهادة واليمين وقل خوفهم من الله، ومبالاتهم بالشهادة واليمين، وإذا كان وقع في الصدر الأول، فما بالك بالناس اليوم، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه؟ فالله المستعان.

(وعن أبي بكرة مرفوعًا: ألا وقول الزور) الفجور والكذب والبهت (ألا وشهادة الزور) كررها لما فيها من قطع حقوق المسلمين، والضرر الحاصل بها عليهم (فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، متفق عليه) وقد وقع ما خافه على أمته صلى الله عليه و سلم فلا يبالي الأكثر اليوم من قول الزور، وشهادة الزور، والكذب
والفجور.

(وعن عبد الله بن عمرو) رضي الله عنهما (مرفوعًا: لا تجوز) أي لا تعتبر ولا تقبل (شهادة خائن ولا خائنة) قال أبو عبيدة تكون في حقوق الله، كما تكون في حقوق الناس، من دون اختصاص، فإذا كان خائنًا فليست له تقوى ترده عن ارتكاب محظورات الدين، التي منها الكذب، فليس عدلاً تجوز شهادته (ولا ذي غمر) بكسر فسكون الحقد والعداوة (على أخيه) أي المسلم المشهود عليه، وكذا الكافر لا يجوز أن يشهد ذو حقد عليه، إذا كانت العداوة بسبب غير الدين، فإن ذا الحقد مظنة عدم صدق خبره، لمحبته إنزال الضرر بمن يحقد عليه، وتقبل شهادة المسلم على الكافر إذا انتفى الحقد.

فدل لحديث على أنه لا تقبل شهادة عدوه على عدوه، وهو مذهب الجمهور، ولخبر "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" لأنه موضع تهمة، وقد أجمع الجمهور على تأثيرها في الأحكام الشرعية. وقال ابن القيم: منعت الشريعة من قبول شهادة العدو على عدوه، لئلا يتحذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه، بالشهادة الباطلة، وقال الشيخ: الواجب في العدو أو الصديق ونحوهما أنه إن علم عنه العدالة الحقيقية تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه قال: (ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت) وهو الذي ينفق عليه أهل البيت، وأجازها لغير من هو تابع لهم، فالخادم المنقطع إلى الخدمة، لاتقبل شهادته، للتهمة بجلب النفع إلى نفسه، أشبه العبد.

وقد حكى الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده،
 وكذا الأجير لمستأجره، والوصي للميت، والوكيل لموكله، قال الشيخ في قوم آجروا شيئًا: لا تقبل شهادة أحدهم على المستأجر، لأتهم وكلاء أو ولاة (رواه أحمد) ورجاله ثقات، ورواه أبو داود، وفي رواية لأبي داود " ولا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه " وللترمذي وغيره بسند ضعيف من حديث عائشة " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه، ولا ظنين ولا قرابة " واعتمد الشافعي خبرًا ضعيفًا، إلا أن له طرقًا يتقوى بعضها ببعض " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين " وللبيهقي " ذي الظنة والحنة ".

فدلت هذه الأحاديث ونحوها على منع شهادة العدو على عدوه، لأن العداوة تورث التهمة، وتخالف الصداقة، فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور، نفع غيره بمضرة نفسه، بالتشفي من غيره، بخلاف عداوة الدين لأنها لا تخل بالشهادة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وأنها لا تقبل شهادة ظنين أي متهم، فدل على أنها ترد بالتهمة، وقال ابن رشد: اتفقوا على أنها لا تقبل شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وكذا الأم لابنها، وابنها لها، وقال ابن القيم: القريب لقريبه لا تقبل مع التهمة، وتقبل بدونها، هذا الصحيح.

وقال أيضًا: الصحيح أنها تقبل شهادة الابن لأبيه، والأب لابنه فيما لا تهمة فيه، نص عليه أحمد، والتهمة وحدها توجب
 المنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا، فشهادة القريب لا ترد بالقرابة، وإنما ترد بتهمتها، ولا ريب في دخولهم في قوله:
}وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ{ }اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ{ كدخول الأجانب، وتناوله للجميع بتناول واحد، هذا مما لا يمكن دفعه، ولم يسثن الله ولا رسوله من ذلك لا أبًا ولا أخًا ولا قرابة، ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء، وإنما التهمة هي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا.

مما يدل على أن احتمال التهمة بين الوالد ووالده لا يمنع قبول الشهادة، أن شهادة الوارث لمورثه جائزة، وشهادة الإبنين على أبيهما بطلاق ضرتهما، فشهادة الوالد لولده وعكسه بحيث لا تهمة هناك أولى بالقبول، وهذا هو القول الذي ندين الله به، وقال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولاً، وإنما منع المتهم في قرابته أو ولائه، أي وإن كان عدلاً في الرواية، فإن الشهادة إلزام لمعين يتوقع منه العداوة، وحق المنفعة والتهمة الموجبة للرد، فاحتيط لها بالعدد والذكورية، وردت بالقرابة والعداوة، وتطرق التهم.

ومن كان معروفًا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين، البالغة إلى حد لا يؤثر معها محبة القرابة ونحوهم، فقد زالت عنه مظنة التهمة، ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم قبول شهادته، لأنها مظنة للتهمة، قال ابن رشد: اتفقوا على إسقاط التهمة في
 شهادة الأخ لأخيه، ما لم يدفع بذلك عن نفسه عارًا، كما قال مالك، وما لم يكن منقطعًا إلى أخيه يناله ببره أو صلته، ولأبي داود " ولا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها، والمراد- والله أعلم- من لم تعرف عدالته، وإلا فقد قبل في الهلال بدويًا.

وقال الشيخ: تقبل شهادة البدوي على القروي في الوصية في السفر، وهو أقوى من قول من قبل مطلقًا، أو منع مطلقًا، وقال: وإذا كان قاطنًا مع المدعيين في القرية، قبلت شهادته، لزوال هذا المعنى اهـ. وقد أجاز تعالى شهادة الكفار على المسلمين في السفر على الوصية للحاجة، واختار شيخ الإسلام قبول شهادة بعضهم على بعض، ومعلوم أن حاجة قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم، ولو لم تقبل لأدى إلى ضياع حقوقهم، والكافر قد يكون عدلاً بين قومه، صادق اللهجة عندهم، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم، إذا ارتضوه.

(وقال عمر) رضي الله عنه (إن الناس كانوا يؤخذون بالوحي) لعله في الأغلب (على عهد النبي صلى الله عليه و سلم) ينزل عليه الوحي في ذلك (وإن الوحي قد انقطع) بوفاته صلى الله عليه و سلم (وإنما نأخذكم الآن) أي بعد النبوة (بما ظهر لنا من أعمالكم) أي وما خفي من سرائركم فإلى الله.

فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته
 شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة (رواه البخاري).

وفيه دليل على قبول شهادة من لم يظهر منه ريبة، نظرًا إلى ظاهر الحال، وأنه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل، من الاستقامة من غير كشف عن حقيقة سريرته، لأن ذلك متعذر إلا بالوحي، وقد انقطع، وهذا وإن كان قول صاحب، فعمر خطب به وأقره من سمعه، فكان قول جماهير الصحابة، ولجريانه على قواعد الشرع، وظاهره لا يقبل المجهول، وشهد رجل عند عمر فقال: لست أعرفك، إئت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه. قال بأي شيء؟ قال بالعدالة. والفضل قال: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملك بالدينار والدرهم الذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: إئت بمن يعرفك اهـ.

وما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به عليه، إذا علمه بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحًا شرعيًا فيه، كما صرحوا بأنه يجرح بما سمعه أو رآه أو استفاض عنه، وقال شيخ الإسلام: وما أعلم في هذا نزاعًا بين الناس.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire