el bassaire

vendredi 3 janvier 2014

باب الأيمان



باب الأيمان

جمع يمين وضعت في الأصل لتوكيد المحلوف عليه، وهي القسم والإيلاء والحلف، واتفق أهل العلم على أن من حلف على يمين لزمه الوفاء بذلك، إذا كان طاعة، وقال الشيخ: الحالف لا بد له من شيئين، من كراهة الشرط، وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفًا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم يكن، قال: والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين، وإن قال: لا أكلم زيدًا فيمين وعهد لا نذر، فالأيمان تضمنته مع النذر، وهي أن يلتزم به قربة فيلزمه الوفاء، وهي عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه.

وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه، فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها، إن كان العقد لازمًا، وإن لم يكن لازمًأ خير، وهذه أيمان بنص القرآن، ولم يتعرض لها ما يحل عقدتها إجماعًا وما يقصد به الحظ أو المنع أو التصديق أو التكذيب، بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه، سواء كان بصيغة القسم أو الجزاء فهو يمين، عند جميع الخلق، و الأصل في الأيمان الكتاب والسنة والإجماع.

 (قال تعالى: }لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ{ أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة، فإن اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به، وروي أنه قول الرجل: لا والله بلى والله من غير قصد في الكلام، وقيل في الهزل، وقيل في المعصية، وقيل على غلبة الظن، وقيل في النسيان، وقيل هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك والمقصود أنه اليمين من غير قصد ولا عقد.

}وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ{ أي يعاقبكم ويلزمكم }بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ{ أي بما صممتم عليه منها، وقصدتموها وتعمدتموها، وفي قراءة "عاقدتم" بالألف، وفي قراءة بالتشديد، أي وكدتم (وعقدتم) أصله عقد أحدهما يده بيد الآخر }فَكَفَّارَتُهُ{ أي ما تعمدتموه }إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ{ إلى قوله }فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ{ قال ابن القيم: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارته ويأتي.

(وقال) تعالى: }وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ{ أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين، وكسب القلب العقد والنية، وقال ابن عباس: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، وهذه الآية كالتي قبلها وهي قوله: }وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ{ ولا تنعقد اليمين إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته كقول: والذي نفسي بيده والله والرحمن، وعزة الله وعظمته ولعمر الله: يمين وكذا أمانة الله.

وأما قول الرجل: لعمرك جرى علي رسم اللغة، وذكر صورة القسم لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط، لأنه أقوى من سائر المؤكدات، وأسلم من التأكيد بالقسم بالله، لوجوب البر به، وليس الغرض اليمين الشرعي، فصورة القسم على الوجه المذكور لا بأس به، ولهذا شاع بين المسلمين، وقال عليه الصلاة والسلام: "أفلح وأبيه".

(وقال تعالى: }فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ{ فأقسم تعالى بربوبيته الكاملة الشاملة وخص السماء والأرض وهما من أكبر مخلوقاته ولا نزاع في أن القسم برب السماء والأرض، وكذا برب كل شيء ونحو ذلك، جائز ويمين منعقدة.

وقال تعالى: }وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ{ أي قسمًا غليظًا وذكر تعالى القسم باسمه الشريف في مواضع، وقال تعالى: }تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *{ سؤال توبيخ، من إثباتهم الشريك، وجعلهم له نصيبًا مما رزقهم الله وقال تعالى: }تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ{ وغير ذلك.

وقال تعالى: }قُلْ بَلَى{ تبعثون }وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ{ فأمره تعالى بالإقسام به على تصديق ما خبر به في ثلاثة مواضع من كتابه، ويستحب الحلف على الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثلاثين موضعًا.

وقال تعالى: }وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ{ أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها، وذلك بأن يدعى أحدكم، إلى صلة رحمه أو بر، فيقول: حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر، قال تعالى: }أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ{ .

قال ابن عباس: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وفي الصحيحين " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وقال لعبد الرحمن بن سمرة "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" .

فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما سيأتي، قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يجعل اسم الله عز وجل عرضة للأيمان يمنع من بر أو صلة، وإن كان قد حلف فالأولى، أن يحنث إذا حلف على ترك البر، ويكفر، وقال تعالى: }وَلَا يَأْتَلِ{ أي لا يحلف من الألية وهي القسم }أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ{ أي الطول والصدقة والإحسان }وَالسَّعَةِ{ أي الجدة }أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى{ أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين، نزلت في الصديق حلف أن لا  ينفع مسطح بن أثاثه بعدما قال في عائشة.

وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ{ أي يستبدلون }بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ{ الكاذبة }ثَمَنًا قَلِيلًا{ أي شيئًا قليلا من حطام الدنيا }أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *{ .

وقال تعالى: }وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ{ وهو ادعاء الإسلام }وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ أن الحلف عليه كذب، عنى بها المنافقين الذين تولوا قومًا غضب الله عليهم، أخبر أنهم كاذبون في
حلفهم.

(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يحلف) أي بلفظ (لا ومقلب القلوب، رواه البخاري) فلا رد ونفي للكلام السابق، ومقلب القلوب هو المقسم به، والمراد تقليب أحوالها، وصرفها من رأي إلى رأي، وذكر الألفاظ التي كان صلى الله عليه و سلم كثيرًا ما يقسم بها، وفي رواية "لا ومصرف القلوب" "والذي نفسي بيده" "والذي نفس محمد بيده" "ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده" وفيها دليل على جواز الإقسام بها، وانعقاد اليمين.

(ولهما عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: لما خلق الله الجنة) وزخرفت وأرسل جبريل إليها فقال: انظر إلى ما أعددت لأهلها فيها (قال جبرائيل: لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها) لما رأى من النعيم ولذاتها، وذلك قبل أن تحف بالمكاره، والنار بالشهوات، وفيه جواز الحلف بعزة الله، وانعقاد اليمين به، وحكى الله عن إبليس أنه (قال: }فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{ وفي الصحيحين في الذي بين الجنة والنار فيقول: رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسأل غيرها، وفي الخبر عن أيوب: بل وعزتك وأقره النبي صلى الله عليه و سلم.

(وعن قتيلة) بنت صيفي الأنصاري صحابية مهاجرة، قالت: (أمرهم صلى الله عليه و سلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة) فلا يقولوا والكعبة كما ذكر ذلك عنهم من أنهم يقولون والكعبة (رواه أحمد) والنسائي وذلك أن اليهودي قال: إنكم تنددون تقولون والكعبة، فأمرهم بما لا تنديد فيه ولا شرك، فدل على جواز الحلف برب الكعبة، وانعقاد اليمين به.

(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: إن لله تسعة وتسعين اسمًا) عدها بعض الرواة (من أحصاها دخل الجنة) ففيه فضيلة حفظها، وجواز القسم بها (متفق عليه) وفي لفظ "من حفظها" وليس الحديث حصرًا لأسماء الله، لحديث "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".


 قال الوزير: اتفقوا على أن اليمين بالله منعقدة بجميع أسماء الله الحسنى، كالرحمن والرحيم والحي وغيرها، وبجميع صفات ذات الله كعزة الله وجلاله.
والمراد فيما إذا حنث فيها، تجب فيها الكفارة، قال ابن عبد البر وغيره، لا خلاف في ذلك إلا عمن لا يعتد بقوله.
(ولهما عن عمر" رضي الله عنه (مرفوعًا: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وذلك أنه صلى الله عليه و سلم سمعه يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه و العظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده: "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" أي فلا يحلف إلا بالله أو أسمائه أو صفاته، وهذا باتفاق أهل العلم، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على عدم جواز الحلف بغير الله، والجمهور على أن الحلف بغير الله لا ينعقد، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه.
(وللنسائي) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد» و (لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) وفي لفظ "ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" فدل الحديث- وكذا غيره- على تحريم الحلف بغير الله، ويأتي "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام، أو من الدين أو بأنه يهودي ونحو ذلك.
وقال ابن القيم: اتفق الناس أنه إن قال: إن فعلت كذا فهو
 يهودي أنه لا يكفر إن قصد اليمين، ولأبي داود وغيره: "إن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا".
(وعن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا: من حلف بغير الله بنبي أو ولي أو غيرهما (فقد كفر أو أشرك) وفي رواية: "فقد كفر" وفي رواية "فقد أشرك" ويحتمل أن يكون شكًا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو (حسنه الترمذي) ورواه أبو داود وغيره، وصححه الحاكم.
وقد يكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما يكون من الشرك الأصغر، ما لم يسو بينه وبينه أو يكون المحلوف به عند الحالف أعظم من الخالق جل وعلا، فهو أكبر ناقل عن الملة، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر وقال تعالى: }إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ{ .
(وعن ابن عمر) رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه و سلم قال في زيد بن حارثة) رضي الله عنه حين أمر ابنه (وأيم الله إنه لخليق بالإمارة) أي لجدير بها يستحق أن يكون أميرًا، وقال في قصة سليمان "وايم الذي نفس محمد بيده" الحديث، وحديث "وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد" إلخ، قيل أصلها يمين الله، وقيل عوض عن واو القسم، وقيل كقول بالله، أو أحلف بالله، وحكي غير ذلك، ومذهب المالكية والحنفية والأصح عن أحمد أنها يمين تنعقد، وعند الشافعية إن نوى اليمين.

 (وقال أسيد) بن حضير رضي الله عنه (لسعد) بن عبادة لما استعذر النبي صلى الله عليه و سلم من عبد الله بن أبي (لعمر الله لنقتلنه) فتثاور الحيان، والحديثان (متفق عليهما) وذلك فيما قص الله علينا من قصة أهل الإفك، وتبرئة عائشة رضي الله عنها، فمن قال: لعمر الله فكأنه قال: أحلف ببقاء الله، واللام للتوكيد، أي: ما أقسم، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
(وقال العباس) بن عبد المطلب رضي الله عنه (للنبي صلى الله عليه و سلم أقسمت عليك) وذلك في هجرة صفوان، وقد انطلق به العباس إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليبايعه على الهجرة، فامتنع فقال العباس: أقسمت عليك (لتبايعنه) فبسط رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فقال: "هات أبر قسم عمي ولا أهجره" (رواه أحمد) وابن ماجه، فدل على أن قول الرجل: أقسمت عليك: يمين؛ وهو مذهب الكوفيين والمشهور عن أحمد.
ويحرم الحلف بالله على الكذب، وأعظم منه الحلف بغير الله، وإن كان صادقًا، وقال ابن مسعود وغيره: لأن أحلف بالله كاذبًا، أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقًا؛ قال الشيخ: لأن حسنة التوحيد، أعظم من حسنة الصدق؛ وسبب الكذب أسهل من سبب الشرك.
(ولأبي داود عن بريدة) رضي الله عنه (مرفوعًا من حلف بالأمانة) لكونها مخلوقة (فليس منا) ففيه الوعيد الشديد على من
 حلف بالأمانة، حيث تبرأ منه النبي
صلى الله عليه و سلم، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة، والوديعة والأمان وغير ذلك، وإذا قال الحالف: وأمانة الله كعهد الله، فيمين وتقدم.
وإن حلف بالنبي صلى الله عليه و سلم لم تنعقد يمينه، وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحد القولين لأحمد لما تقدم من قوله: "من حلف بغير الله فقد كفر" وقوله "لا تحلفوا إلا بالله" وغيرهما، وأما الحلف بالعتاق والطلاق، فقال الشيخ في موضع: لا يكره لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئًا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك، كما أنكروا على من حلف بالكعبة.
وقال ابن القيم في قوله: }وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ{ الآية: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات، والحلف بأحب القربات المالية إلى الله، وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا مخالف لهم من بقيتهم، وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق، كما ثبت ذلك عن علي، ولا مخالف له منهم، فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه، حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيقنًا على خلافه، فإن الأمة لا تجتمع على خطأ ألبتة.

 (وتقدم) في باب التأويل في الحلف (يمينك) أي إنما تنعقد يمينك (على ما يصدقك به صاحبك) أي واقع عليه، والحديث رواه مسلم، وفي رواية: "اليمين على نية المستحلف" بكسر اللام، والمراد المستحلف المظلوم، أي اليمين حصلت على نية المستحلف، وهو طالب اليمين، فالنظر في اليمين إلى نية طالب الحق واعتقاده، فالتأويل على خلاف قصد طالب اليمين لا يدفع إثم اليمين الكاذبة، فالاعتبار بقصد المحلف، سواء كان هو الحاكم أو الغريم، وأن يكون المحلف بفتح اللام ظالمًا.
أما لو كان مظلومًا، والمحلف بكسر اللام كاذب فالاعتبار بنية الحالف، وكذا إذا حلف بغير استحلاف، وورّى فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء، أو حلفه غير القاضي، كما حكاه النووي وغيره، فاليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه، قال والتورية وإن كان لا يحنث بها، فلا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع عليه.
وحكى القاضي الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله، وأما إذا كان لغيره حق عليه، فلا خلاف أنه يحكم بيمينه سواء
حلف متبرعًا، أو باستحلاف، ولعل مستند الإجماع على
أن الحالف له نيته في غير استحلاف القاضي ونحوه – خبر حنظلة، حيث حلف للعدو أن وائلاً أخوه، فقال النبي
صلى الله عليه و سلم "كنت أبرهم وأصدقهم".
وقال الشيخ وغيره: لا يجوز التعريض لغير ظالم وهو قول جماعة، ولأنه تدليس كتدليس المبيع، ونص أحمد على أنه لا يجوز التعريض مع اليمين.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (لأن يستلج) أي يتمادى (أحدكم في يمينه) فيلج فيها ولم يكفرها زاعمًا أنه صادق (آثم له عند الله) أي أعظم إثمًا (من أن يؤدي الكفارة) وتقدم أنه قال: "ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني" فدل الحديث على أن أداء الكفارة، خير من التمادي فيما زعمه الذي يأثم
من أجله.
(وفي السنن عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: من حلف على يمين) أي مطلقًا (فقال إن شاء الله، فلا حنث عليه) لأن الاستثناء بمشيئة الله، والتقيد به يمنع الحنث في اليمين، ورواه أحمد وغيره، وله طرق وللخمسة نحوه من حديث أبي هريرة، ولأبي داود "ولأغزون قريشًا" ثم قال: "إن شاء الله" وفي الثالثة، ثم سكت، ثم قال: "إن شاء الله" ولم يحنث من قصد تعليق
الفعل على مشيئة الله وإرادته، بخلاف من قاله تبركًا أو سبق لسانه بلا قصد، والحديث وما في معناه دليل على
 أن من قال في يمينه إن شاء الله، لم يحنث فإن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين، وهو مذهب الجمهور.
وقال ابن العربي: أجمع المسلمون على أن قول: إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين، بشرط كونه متصلاً، قال: ولو جاز منفصلاً كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء الله متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضر سكتة النفس، وقوله: ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله" ظاهره السكوت اختيارًا، فيدل على جوازه ما لم يطل الفصل، ولا فرق بين الحلف بالله أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة يمنع الانعقاد، وهو مذهب الجمهور، ومذهبهم أيضًا أن الاستثناء لا بد أن يكون باللفظ، فلا يكفي بالنية دون اللفظ.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أنه) يعني رسول الله (حلف) وورد بألفاظ (لن أعود) أي مرة أخرى (إلى شرب العسل) وذلك لما قال له بعض نسائه: أكلت مغافير، قال: "بل شربت عسلا" (فنزلت: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ{ من شرب العسل }تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ{ وصحح غير واحد أنها نزلت في شرب العسل لا تحريم مارية.
(إلى قوله: }قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ{ قال القاضي عن عامة العلماء: عليه كفارة يمين بنفس التحريم (متفق عليه)
 وقال أبو حنيفة إن تناوله، وذكر بعض أهل العلم عن مالك والشافعي وغيرهما أنه إذا قال هذا الطعام أو الشراب حرام علي أو هذا الثوب أو كلام زيد ونحو ذلك لا شيء فيه فالله أعلم.
فصل في الكفارة
أي في كفارة اليمين، وفيها تخيير وترتيب، فالتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب فيها بين ذلك وبين الصيام، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع (قال تعالى: }فَكَفَّارَتُهُ{ ) أي: كفارة ما عقدتم الإيمان إذا حنتثم }إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ{ يعني محاويج من الفقراء من ولا يجد ما يكفيه، بشرط أن يعطيها لمسلم حر محتاج }مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ{ أي من خير أو أمثل قوت عيالكم.
قال أحمد: مد من بر أو مدان من غيره، سواء كان المطعم واحدًا أو عددًا، وسواء أطعم البعض برًا والبعض شعيرًا أو تمرًا أو زبيبًا أو غيرها مما يطعم أهله.
(أو كسوتهم) قال مالك وأحمد وغيرهما: ما يصح أن يصلي فيه، فكل من لزمته كفارة يمين فهو فيها مخير، إن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، وإن شاء أعتق رقبة، قال تعالى: }أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ{ إذا اختار العتق، فيجب إعتاق رقبة مؤمنة، وكذا جميع الكفارات، كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان. وهو قول الجمهور، لأن الله قيدها في القتل بالإيمان، والموجب متحد، وإن اختلف السبب وجاء معاوية
 ابن الحكم بجارية فقال لها رسول الله
صلى الله عليه و سلم "أين الله" قالت في المساء، قال: "من أنا" قالت: رسول الله، قال "أعتقها فإنها مؤمنة".
ويشترط أن تكون سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررًا بينًا وتقدم.
وهذه الخصال الثلاث في كفارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وإنما بدأ تعالى بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال، فقال تعالى: }فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ{ أي إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، وجب عليه صوم ثلاثة أيام، والعجز أن لا يفضل له عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية ما يطعم أو يكسو أو يعتق، فإنه يصوم ثلاثة أيام.
والجمهور على أنها متتابعات فإن في قراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وإن لم يثبت أنها قرآن فلا أقل من أن يكون خبر واحد، أو تفسيرًا من الصحابة، وله حكم الرفع، واتفقوا على أنه إذا لم يجد شيئًا مما تقدم انتقل إلى صيام ثلاثة أيام (ذلك) أي الذي ذكر تبارك وتعالى من الحكم }كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ{ أي هذه كفارة اليمين الشرعية، إذا حنثتم،
 فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث
}وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ{ أي لا تحلفوا، أو إذا حلفتم فلا تحنثوا، وإذا حنثتم فلا تتركوها بغير تكفير.
والمراد حفظ اليمين عن الحنث إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب، أو فعل مكروه، فإن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر، كما تقدم، وكما سيأتي }كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ{ يوضحها }لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{.
قال ابن القيم: إذا حلف ليفعلن كذا، فهو حظ منه لنفسه، وليس إيجابًا، ولكن عقد اليمين ليفعلن فأباح الله له حل ما عقده بالكفارة، وسماها تحلة، وليست رافعة لإثم الحنث.
(وعن عبد الله بن سمرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه) وفي لفظ "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" ولمسلم من حديث عدي " إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه، وله من حديث أبي هريرة نحوه، ولهما من حديث أبي موسى " لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وفي لفظ "إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" ولأبي داود وغيره "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير".

وهذه الأحاديث وما في معناها دالة على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي، إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه، فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام، فيمينه طاعة، والتمادي واجب، والحنث معصية، والعكس بالعكس، وعلى فعل مستحب، فالتمادي مستحب، والحنث مكروه، وعلى ترك مندوب فالعكس.
وقال الوزير: اتفقوا على أن الكفارة تجب عند الحنث في اليمين على أي وجه كان، من كونه طاعة أو معصية أو مباحًا وأجمعوا على أن اليمين المكفرة المنعقدة هي أن يحلف بالله على أمر في المستقبل أن يفعله ولا يفعله، وإذا حنث وجبت عليه الكفارة، وقال أبو حنيفة ومالك في اليمين الغموس: لا تكفر لأنها أعظم من أن تكفر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختاره الشيخ.
واليمين الغموس هي الحلف بالله على أمر ماض متعمد، الكذب فيه، ولفظ "ثم ائت الذي هو خير" يدل على وجوب تقديم الكفارة، والجمهور على الاستحباب وإجزائها قبل الحنث، إلا الصوم فبعده، وقال القاضي عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث.
وذكر بعضهم لها ثلاث حالات، أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا ثانيها بعد الحلف والحنث، فتجزئ اتفاقًا وثالثها بعد الحلف وقبل الحنث، والجمهور على الاستحباب كما تقدم،
 والأحاديث دلت على وجوب الكفارة مع إتيان الذي هو خير.
(ولهما عن البراء) بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا) يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم (بسبع) بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس (وذكر إبرار القسم) أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك، بارًا ثم قال: "ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام" وأمره بإبرار القسم ظاهره الوجوب، واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام، قرينة صارفة عن الوجوب وقصة رؤيا أبي بكر، وقوله: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت، قال: "لا تقسم" يشهد لذلك.
فصل في النذور
النذور جمع نذر وهو لغة التزام خير أو شر وشرعًا التزام المكلف شيئًا لم يكن عليه، منجزًا كان أو معلقًا قال الشيخ: ولا يشترط فيه لفظ معين، بل كل ما تضمن التزامه قربة فهو نذر، إذ النذر أن يلتزم لله شيئًا ولا يلزم الشيء إلا إذا كان قربة، والفرق بينه وبين اليمين أن الناذر التزم لله، والحالف التزم بالله، وإذا التزم لله بالله فهو نذر ويمين اهـ.
فالنذر يعقده العبد على نفسه يؤكد به ما ألزمها به من الأمور، لله، وهو تعظيم للخالق ولأسمائه ولحقه، وأن تكون العقود به، وله، وهذا غاية التعظيم فلا يعقد بغير اسمه ولغير التقرب إليه، فإن حلف فباسمه تعظيمًا وتبجيلاً وتوحيدًا وإجلالاً.

 وإن نذر فله توحيدًا وطاعة ومحبة وعبودية.
(قال تعالى: }يُوفُونَ بِالنَّذْرِ{ أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.
وللطبراني عن قتادة: كانوا ينذروا طاعات من الصلاة والصيام وسائر ما افترض الله عليهم، ويقويه ما ذكر في سبب نزول الآية.
(وقال) تعالى: }وَمَا أَنْفَقْتُمْ{ أي أيها المؤمنون حضهم الله تعالى على الإنفاق من طيبات ما كسبوا }مِنْ نَفَقَةٍ{ أي فيما فرض الله عليكم أو تبرعتم به في سائر الطاعات }أَوْ نَذَرْتُمْ{ أي أوجبتم على أنفسكم }مِنْ نَذْرٍ{ في طاعة الله فوفيتم به }فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ{ فيحفظه لكم حتى يجازيكم به، فإنه تعالى عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن إخباره مجازاته على ذلك أوفر الجزءا، للعاملين لذلك ابتغاء وجهه، ورجاء موعده.
(وقال) تعالى }وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ{ أي ليوفوا نذر الحج والهدي، وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج، وقال بعضهم: المراد منه الوفاء بما نذر على ظاهره، على نحو ما تقدم وغيره.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه) أي يجب عليه الوفاء بذلك النذر، فإن كان واجبًا كأن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب بقدر ما وقته أو مستحبًا من العبادات البدني أو المالية انقلب بالنذر واجبًا، وتقيد بما قيده به لقوله "فليطعه" فصرح بالوفاء به، إذا كان في طاعة، وذكر غير واحد الاتفاق على وجوب الوفاء به (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) أي لا يوفي بنذره لأنه معصية (رواه البخاري) ولم يذكر كفارة، وفي حديث عمر عند ابن ماجه "لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الله" وقال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية.
(وله) أي وللبخاري في صحيحه (عن عمران) بن حصين رضي الله عنه (في خبر القرون) أي في الخبر الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه و سلم «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (ثم يجيء قوم) أي بعد تلك القرون (ينذرون ولا يوفون) أي لا يوفون ما نذروه من الطاعات الواجبة أو المستحبة، وأما نذر اللجاج والغضب فيخير بين فعله أو كفارة اليمين، وأما المكروه كالطلاق فيستحب أن يكفر ولا يفعله، وأما نذر المعصية فيحرم كما تقدم.
(ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا نهى عن النذر) تأكيدًا لأمره، وتحذيرًا عن التهاون به، وليس معنى النهي عنه أن يكون مأثمًا، فقد حث الشارع عليه، وأمر بالوفاء به،
 ونقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء به، لقوله " من نذر أن يطيع الله فليطعه.
(وقال إنه لا يأتي بخير) قيل معناه أن عقباه لا تحمد، وقد يتعذر الوفاء به، وأنه لا يكون سببًا لخير لم يقدر، فيكون مباحًا، وقيل مكروه لكونه لم يقصد به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا بما التزم، وقيل لأنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال، كما هو ظاهر قوله.
(وإنما يستخرج به من البخيل) أي إنما يستخرج المنذور ونحوه من البخيل، بواسطة النذر، وأما غير البخيل فإنه يعطي باختياره بلا واسطة نذر، بخلاف البخيل، فإنه لا يعطي إلا إذا وجب عليه الإعطاء فثبت بهذا وجوب استخراجه به من ماله، ولأبي داود وغيره " النذر لا يأتي لابن آدم بشيء، ولكن يلقيه القدر فيعطي على النذر ما لا يعطي على غيره" وأما النذر بالصلاة والصيام والحج ونحو ذلك من الطاعات، فلا مدخل للنهي عنه للآية.
قال الشيخ: وما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد عليه الله أو بايع عليه الإمام أو تحالف عليه فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فيكون واجبًا من وجهين، ويكون تركه موجبًا لترك
 الواجب بالشرع، والواجب بالنذر، هذا هو التحقيق، ونص عليه أحمد، وقاله طائفة من العلماء.
(وتقدم) أي في باب الاعتكاف (قول عمر) رضي الله عنه (للنبي صلى الله عليه و سلم إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام) وذلك أنه نذر في الجاهلية (فقال: أوف بنذرك) فدل على صحة النذر، وعلى وجوب الوفاء بنذر الطاعة، وإن وقع في حال الكفر، ولكن لا يخلو إما أن يكون مما يفتقر إلى نية كالصلاة والاعتكاف، فلا سبيل إلى الوفاء به إلا بعد إسلام الناذر، فصحته إلزامه به بعد إسلامه، ولخبر، «لا نذر ِإلا ما ابتغي به وجه الله» أو لا يفتقر النذر إلى نية كصدقة بدراهم، فيلزمه الوفاء به، ولو قبل إسلامه لصحته منه.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (بينما النبي صلى الله عليه و سلم يخطب) ذات يوم (إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل) رجل من قريش، قيل اسمه قشير ذكر ابن الأثير أنه من الصحابة (نذر أن يقوم في الشمس أي قائمًا (ولا يستظل) أي لا يقوم في ظلال (ولا يتكلم) أي يلزم الصمت (وأن يصوم) لعله ذلك اليوم (فقال) النبي صلى الله عليه و سلم «مروه فليجلس أو ليستظل» أي يجلس في الظل «وليتكلم وليتم صومه» لأن الصوم عبادة (رواه البخاري).
فدل الحديث على أن كل ما يتأذى به الإنسان مما لم يرد
 بمشروعيته كتاب ولا سنة، كالقيام في الشمس لأنه ليس من طاعة الله فلا ينعقد النذر به، فإنه
صلى الله عليه و سلم أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم، دون غيره، وهو أنه علم أنه لا يشق
عليه.
وفيه دليل على أنه لا كفارة على من نذر معصية، ولا على من نذر ما لا طاعة فيه، قال مالك: لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره بكفارة، وحديث «لا نذر في معصية الله» لم يذكر العدول فيه كفارة، وذكر الوزير أنه مذهب الثلاثة، واختاره شيخ الإسلام.
(ولهما عن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية) وفي لفظ: إلى الكعبة (فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتمش ولتركب) ولمسلم: حافية غير مختمرة وفيه أنه شكا إليه ضعفها، فقال النبي صلى الله عليه و سلم «إن الله غني عن نذر أختك» رواه أحمد (وللخمسة) عنه: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا» وهو مشيها حافية (مرها فلتختمر) فلا تكشف وجهها (ولتركب) ولا تمشي حافية (ولتصم ثلاثة أيام) كفارة لنذرها، ولأحمد "ولتهد بدنة" ولأبي داود "هديًا" ولأحمد وابي داود "ولتكفر عن يمينها" وقال البخاري: لا يصح الهدي، ولم يجيء في الأحاديث الصحيحة كفارة لما ليس بطاعة.
فمن نذر المشي إلى بيت الله أو موضع من الحرم لزمه أن
 يمشي في حج أو عمرة، فإن ترك المشي وركب لعذر أو غيره لزمه كفارة يمين، وقال الشيخ: أما لغير عذر فالمتوجه لزوم الإعادة، كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع، أو يتخرج لزوم الكفارة والدم، والأقوى أنه لا يلزمه مع البدل عن عين الفعل كفارة، لأن البدل قائم مقام المبدل.
(وعنه) أي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه (مرفوعًا: كفارة النذر) أي فهو يمين كفارته (كفارة يمين. رواه مسلم) وزاد فيه الترمذي "إذا لم يسمه" وصححه. قال الشيخ: وأحاديث عقبة وابن عباس تدل على أن النذر يمين، وذكر النووي عن جماعة من فقهاء الحديث أنهم حملوا هذا الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة اليمين، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كان النذر مشروطًا بشيء، فإنه يجب بحصول ذلك الشيء، وقال بعض أهل العلم، اختص الحديث بالنذر الذي لم يسم حملاً للمطلق على المقيد.
وأما النذور المسماة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها، سواء كانت متعلقة بالبدن أو المال، وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا تنعقد وإن كانت مباحة مقدورة ففيها الكفارة، وقال الشيخ:
وما ليس بطاعة كمشيه حافيًا أو حاسرًا فلا يفعله، بل عليه كفارة يمين، وذكره الأصحاب قولاً واحدًا إذ لا بدل له وقال: في موضع؛ إذا حلف بمباح أو معصية لا شيء عليه، كنذرهما، فإن ما لم يلزم بنذره لا يلزم به شيء إذا حلف به، فإن من يقول لا يلزم الناذر شيء، لا يلزم الحالف بالأولى.
وقول الشخص، لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوًا لأجاهدن، ولو علمت أي العمل أحب إلى الله لعملته فهو نذر معلق بشرط، كقوله تعالى: }لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ{ قال ابن القيم: والملتزم الطاعة لله لا يخرج عن أربعة أقسام، إما أن يكون بيمين مجردة أو بيمين مؤكدة كقوله (ومنهم من عاهد الله) الآية فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله }فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ{ وهو أولى باللزوم من أن يقول: لله علي كذا، وقال: فرق بين من التزم الله، ومن التزم بالله، فالأول ليس فيه إلا الوفاء، والثاني يخير بين الوفاء والكفارة.
(وعن بريدة) رضي الله عنه (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفي بنذرك) أذن لها أن تفعل ما نذرته (صححه الترمذي) لأنه ليس من قبيل اللهو واللعب، بل نوعًا من أنواع البر لقصد الصحيح، وهو إظهار المسرة بمقدمه صلى الله عليه و سلم مصحوبًا بالسلامة مظفرًا على الأعداء، وإذا أبيح لأجل إعلان النكاح، فلأن يكون لإعلاء كلمة الله وإعزاز الداعي إلى الحق أولى.

 فدل الحديث على صحة النذر بالمباح، ويشهد له نفي النذر في المعصية فيبقى ما عداه ثابتًا، ويمكن كما قال البيهقي أن من قسم المباح ما قد يصير القصد منه مندوبًا وأن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه و سلم سالمًا، معنى مقصود يحصل به الثواب.
وقال الشيخ: لا بد لكل ناذر من فعل المنذور أو ما يقوم مقامه، أو الكفارة وكذا الحالف.
(وعن ثابت) بن الضحاك رضي الله عنه (مرفوعًا: لا نذر في معصية الله) وللبخاري من حديث عائشة: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ولا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء، ولا فيما لا يملك العبد، رواه أبو داود) ودل الحديث على أن من نذر ما لا يملك لا ينفذ نذره، وكذلك لا ينفذ نذر المعصية، كما تقدم، والجمهور على أنه لا تجب فيه الكفارة، ولا نزاع في تحريمه، وإن قال: إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك، وقصد اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشًا وهو مذهب الجمهور.
وإن نذر لغير الله كالأصنام فبمنزلة أن يحلف بغير الله، لا وفاء عليه، ولا كفارة، وكلاهما شرك، فعليه أن يستغفر الله، ويقول ما أمر به من حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله، قال الشيخ: ومن أسرج بئرًا أو مقبرة أو جبلاً أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان، لم يجز ولا يجوز

 الوفاء به إجماعًا، ويصرف في المصالح، ما لم يعلم ربه، ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع، ومن نذر قنديلاً يوقد للنبي
صلى الله عليه و سلم صرفت قيمته لجيرانه صلى الله عليه و سلم وهو أفضل من الختمة.
(ولأحمد عن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده رضي الله عنه (مرفوعًا: لا نذر إلا ما ابتغى به وجه الله) فلا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، كما تقدم (وفي قصة كعب) بن مالك رضي الله عنه، وكان من الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فأراد كعب أن يتصدق بجميع أمواله شكرًا لله، على قبول توبته، فإنه قال: يا رسول الله (إن من توبتي) أي من تمامها أو من نفس توبتي (أن انخلع من مالي) أي أعرى منه كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه وتجرد منه (صدقة لله ورسوله) أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ما يملك، شكرًا لله على ما أنعم به عليه، وليس بظاهر في صدور النذر منه.
(فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمسك عليك بعض مالك) ولم يجز له الجميع وقال: (فهو خير لك، متفق عليه) فدل الحديث على أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع ماله، أن يمسك بعضه، ولا يلزم أنه لو نجزه لم ينفذ، وقيل: يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويًا على ذلك، يعلم من نفسه الصبر لم يمنع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن لم يكن كذلك فلا، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه و سلم: «لا صداقة إلا عن ظهر غني» ونحوه.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire