el bassaire

mercredi 3 février 2016

الـمُخْتَلِفُ مِنْ أَحَادِيثِ الطَّهَارَةِ

الـمُخْتَلِفُ مِنْ أَحَادِيثِ الطَّهَارَةِ
للشيخ إبراهيم الصبيحي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

http://al-bassair.blogspot.com


بسم الله، والحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمعلومٌ الخلافُ الوارد في الصلاة على الغَائِب، وهذه مسألة مشهورة عند أهل العلم، والذي عليه مشايخنا هو مشروعية الصلاة على الغائب إذا كانوا مِن أهل الفَضْلِ ومَن لهم حَقٌّ على المسلمين، والصلاة على الميت مشروعة، ولا خلاف فيها بين المسلمين. والنبي صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ أنه صلَّى على النَّجَاشِيِّ، وهذا أمر معلوم، إنما هل الصلاةَ عليه من أجل أنه لم يُصَلَّ عليه أو لأن له أيضًا فَضْلٌ في خِدْمَة المسلمين، وعلى كلٍّ فالمسألة خلافية.
ومِن المقرَّر عند أهل العلم أن حُكْم الحاكم يَرفع الخلافَ، وإلا لو لم نَقُل: إنه لم يرفع الخلاف ما استقرَّت الأحكام للقُضاة ولا غيرهم، فإذا رأى والِي أمرِ المسلمين رأيًا وفيه خلاف فإن على مَن يدخل في ولايته تَرْك الخلاف، والأخذ بما رآه الحاكم وإلا لحَصَلَ خلافٌ في المجتمع، هذا يَرَى كذا، وهذا يَرَى كذا، ويذهب أثر الوالي، وهذا غير صحيح، بل إن حُكْم الحاكم يَرفع الخلاف وهذا معلومٌ في القضاء - في الخصومات بين الناس- فإن ما يُقرِّره القاضي وإن كان أحدُ الخصمين يعتقد خلافَ ما حَكَمَ به القاضي فعليه أن يترك، ويأخذ بحكم القاضي رفعًا للخلاف. فالتعامل مع الولاة يختلف في التعامل في سائر الأحوال، فلو لم يَصْدُر مثلًا أمْرٌ بالصلاة لقلنا: داخل تحت مظلة الخلاف، أَمَا وقد صَدَرَ أمر فإن على المسلمين الاستجابة دفعًا للخلاف. وتعلمون أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما حَجَّ مع عثمان وكان من قبله يَقْصُرون الصلاة ولكن عثمان رضي الله عنه أَتَمَّها في مِنَى، فعَلِم عبد الله بن مسعود وهو في خَيْمته أن عثمان أتمَّ الصلاةَ فقام ابن مسعود وأتمَّها، قالوا: كيف؟ قال: الخلاف شر. فلربما رأينا أحد الإخوة يخرج من بين المصلين وينحاز ولا يصلي، فهذا يحتاج إلى أن يراجِع رأي ابن مسعود. والإمام وفقه الله نبهنا إلى صدور الأمر وقد علمت بذلك في وسائل الإعلام.
فما يحكم به الوالي أمرٌ يرفع الخلاف، والظهور بمظهر الاختلاف بين المصلين أمرٌ غير مرغوب فيه. فهذا ابن مسعود وهو يصلي بعيدًا عن عثمان وليس من ضِمن الجماعة التي تصلي خلف عثمان، ولكن لما علم أن أمير المؤمنين أتمَّ الصلاة أتمَّها، مع أنه يرى عدم مشروعية الإتمام للمسافر في الصلاة.
وطالب العلم يَتوجَّس من كلام السلف وعَمَلِهم، ما يكون مَنْدوحةَ له في جَمْعِ الشَّمْل والكلمة، وهذا من ظهور مظهر الاختلاف. والمساجد كما تعلمون مُقامَة، وللولاة إشرافٌ عليها ومن المَهامِّ تعيينُ الأئمة. والإمام المُعَيَّن صاحب سُلْطة في مسجده، وللناس أن يختاروا الأقرأ، مثل لو صلُّوا في سفر، إذا صلوا في سفر يتخيَّرون الأقرأ، لكن إذا كان إمام في مسجد مُعَيَّنٍ وحضر أحد الحُفَّاظ، فلا يحق للجماعة أن يؤخِّروا هذا الإمام ويحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ».
ثم إن الإمام في الصلاة له أحكام لوجود إمامته، فتجد أن الصلاة لا تصح لو صلَّيت وحدك أو ابتداءً، إلا بأن تُكبِّر للإحرام وتقرأ الفاتحة وتركع وتُرَتِّبها، لكنك إذا دخلتَ في جماعة مسجد ووجدتَ الإمام جالسًا أو ساجدًا تدخل معه في السجود بعد تكبيرة الإحرام، لماذا هذا التجوُّز؟ لأجل ألا تخالفَ الإمام. فالوُلاة والأئمة لهم أحكام، وهذا نلمسه في الصلاة فأنتَ تترك القيام وتجلس بمجرد تكبيرة الإحرام؛ لأن الإمام جالس ولو صلَّيت وحدك وفعلتَ هذا العمل لقلنا: الصلاة باطلة.
فعلى طلاب العلم أن يستفيدوا من أحكام الشريعة، وأن ينظروا إلى أن للولاة حق، حتى ولاية الصلاة، وقد علمتم كيف يكون الدخول مع الإمام إذا وجدتَه ساجدًا تُكبِّر وتسجد معه، بينما هذا لا يصح لو صليت ابتداءً، لماذا صَحَّ؟ لموافقة الأئمة. «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» هكذا قال صلى الله عليه وسلم. أسال الله التوفيق وأن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.
سُئلت عما قلته لكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يَفعل أفعال ليُبَيِّن معنى الأقوال، ولو أنه قال بدل الفعل قولًا لاختلَّ المراد، وذلك مثل شُرْبِه صلى الله عليه وسلم قائمًا، وقد نهى عن القيام، وبوله عليه الصلاة والسلام قائمًا، وقد نهى عن البول قائمًا. قال الأخ –وفقه الله-: ألا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُهَا». دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ القُبُورِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم بُولُوا قيامًا، أو اشربوا قيامًا، ألا يكون المعنى واحدًا؟
الجواب: لا يكون المعنى واحدًا، لأن الأمر بعد الحَظْر يدل على الإباحة، وهذه من صَوَارِفِ الأمر، الأمر يَرِدُ في الشريعة والأصل فيه الوجوب، لكنه يُصْرَف عن الوجوب في أربعة عشر وجهًا، هذا منها: ورود الأمر بعد الحَظْر، « كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُهَا» فقوله عليه الصلاة والسلام: «فَزُورُهَا» أمر، لو لم يَرِد النهي السابق لكانت الزيارة واجبة، لكن النبي نهى عن الزيارة أولًا ثم أباحها ثانيًا، قالوا: يدلُّ على أن الزيارة مباحة. لمَّا نهى صلى الله عليه وسلم عن البول قائمًا فقال: «لا تَبُولُوا قِيَامًا»، ماذا يكون حُكْم البول قائمًا؟ على قاعدة ورود الأمر بعد النهي يكون مباحا؟ إذن نستنبط من ورود الأمر وهو الأمر بالبول قائمًا بعد النهي أن يكون البول مباحًا. والشارع الحكيم لا يريد أن يكون البول مباحًا، إنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يكون البول قائمًا مكروها، وكونه مكروهًا كيف يكون دليل صَرْفِ الأمر من التحريم إلى الكراهة؟ لا يكون عن طريق القول إنما يكون عن طريق الفعل. هكذا استنبط أئمة الإسلام من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ورد بعد النهي قول حَمَلوا النهيَ الأول على أنه مباح، بدلا من أن كان محظورًا صار مباحًا، أما إذا ورد الفعل بعد النهي فإنه يُحْمَل على الكراهة، لماذا؟ لأن القول يَنْسَخُ القولَ، والفعل لا يَنْسَخُ القولَ، فلو قلنا بأن البول قائمًا مباح، لكنا ألغينا كل دلالة النهي، وهذا غير مراد، ودخلنا باب النَّسْخ، لكن لما جاء الفعل صار من باب التخصيص، وفرْقٌ بين أن يكون الحديث الأول منسوخًا وبين أن يكون مُخَصَّصًا، لماذا؟ لأن الأفعال لا تَنْسَخ الأقوال، لكن تُبَيِّن الأقوال. فجاءت سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم دائرةً ما بين الأمر والنهي، ما بين القول والفعل والتقرير والتَّرْكِ؛ لبيان الشريعة، وأهل العلم يعتنون بهذه المعاني ويأخذونها بدقة. وبتوفيق الله فَقِهوا الشريعة.
ولذلك يوصِي الكثير من أئمة الإسلام، يقولون: خذوا من حيث أخذنا، ما معنى هذه العبارة؟ هي وصية من السلف للخَلَف، معناها أنك تفهم كيف فهموا، وأئمة الإسلام يَشهد بعضُهم لبعض على هذا المنهج. وأذكر لكم عبارة قالها الإمام ابن العربي المالكي المعروف صاحب «أحكام القرآن»، و«شرح السنة» «سنن الترمذي»، يقول في مسألة تنازَع العلماء فيها: فنُسب قول لأحمد وعطاء رحمهم الله، يَرَى ابن العربي المالكي أن قول عطاء يمكن أن يُنسَب إليه، لكن القول المنسوب [لعطاء] يقول: أنا لا أرى أنه يصح نسبة القول لأحمد لماذا؟ لأنه سَبَرَ منهج الرجلين، يعني عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل، فقال: أما عطاء فيَهِمُ في الفتوى، أي لا يضبط كل مسائل فَهْمِ الحديث، أما أحمد فعلى صراط مستقيم، وهو لم يكن حنبليًّا ولكنه مالكي المذهب. فأئمة الإسلام يعرفون مسار الأئمة فطالب العلم يعرف مسار الأئمة في فَهْمِ السُّنَّة، وهذا أمر مهم.
بقي مسألة كثيرا ما تكون سببا للاختلاف في فَهْمِ السُّنَّة، وهي مسألة العمل بالمفهوم.

المفهوم يُقسِّمه العلماء إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: مفهوم الموافقة وهذا لا خِلاف فيه، نهى الله عن التأفُّف للوالديْن فالضرب أولى من باب التحريم، فهو مفهوم موافقة دلَّ النصُّ عليه، فإن الله تعالى ذَكَرَ الأدْنَى وهو التأفُّف فيكون الضرب من باب أولى في التحريم، هذا محل اتفاق بين الأئمة. محلُّ الخلاف مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة يقسِّموه إلى أربعة أقسام: مفهوم الصفة، مفهوم الشرط، مفهوم العدد، مفهوم اللَّقَب. ولا أطيل في بيان هذه المفهومات؛ لأنه قد يكون من المبتدئين في العلم مَن يشقُّ عليه فَهْم هذا الكلام، لكن أقوى المفهومات مفهوم الصِّفة، وأضعفها مفهوم اللَّقَب، قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة في هذه المفهومات: إن المفهوم حُجَّة، على تفصيلات دقيقة فيما بينهم رحمهم الله، وخالف الظاهرية والحنفية فقالوا بعدم الاحتجاج بالمفهوم. تأتينا أمثلة تطبيقية وهذا هو المهم، قد لا يتنبه طالب العلم لدلالة المفهوم ويفوته، فلا يحتجَّ بالمفهوم وهذا يكون سببًا لإضعاف رأيه. وأضرب لكم مثالاً من القرآن الكريم في قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)، قالوا: اللام لام التمليك فهي للفقراء الأحياء؛ لأن الفقير الحي هو الذي يَمْلِك، والميت لا يَملِك، فمفهوم اللفظة أنه لا تصح دفع الزكاة في سداد ديون الأموات، فالميت لا يُسدَّد دينه؛ لأن مفهوم اللَّفظة للفقراء أنها للتمليك فمفهومه أن من لا يملك لا تدفع له الزكاة ثم قال تعالى: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا فمفهوم كلمة العاملين يدل على حُكْم، ومنطوق العاملين يدل على حُكْم، المنطوق هو ما ورد في لفظ الآية، جواز دفع الزكاة للعامل عليها، وليس العامل الذي تُدفع له أُجْرة، بل العامل الذي لا تُدفع له، والوالي هو الذي يُحدِّد ما يستحق أن يأخذ. إذًا منطوق الآية دَفْع الزكاة للعاملين، فمفهوم الآية عدم جواز دفع الزكاة للعاملين على غيرها، لماذا؟ لأن الله قال: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا والعامل على غيرها من مفهوم الآية، يأخذ أو لا يأخذ؟ لا يأخذ؛ لأن الآية صريحة في مشروعية أخذ الزكاة للعامل عليها، ليس كل عامل مطلقًا يأخذ، فبناء على هذا المفهوم لا يصح دفع الزكاة للعامل في مجال الدعوة، أو تحفيظ القرآن، أو خدمة المسجد، أو إمامة الصلاة، لماذا؟ لأن المفهوم يدل على أنه لا حق لأي عامل من العُمَّال من الزكاة إلا العامل عليها، هذا ما قرَّره جمهور الأئمة، وخالف آخرون فقالوا: إن في قول الله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ، عامٌّ لكل ما هو في سبيل الله، ومُحَفِّظ القرآن في سبيل الله، وبانِي المسجد عاملٌ في البناء في سبيل الله، وغيرهم ممن يَعمل ويَخدم في سبيل الله، في عَمَلِ القُرَب التي لا مالك لها إلا الله، فعمَّموا الآية وجعلوا ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ لكل عامل يعمل في خِدْمَة الدين كالدعاة، ومعلِّم القرآن، وأئمة المساجد. إذن عندنا دلالتان: منطوق عام، ومفهوم، تعارضتا، ماذا نصنع؟ كيف نُطبِّق؟ قالوا: المفهوم يُخَصِّص العموم، فمفهوم: العاملين عليها، يُخْرِج من سبيل الله كل العاملين على غير الزكاة. ولربما سمعنا من يُفتي بجواز دَفْع الزكاة لتحفيظ القرآن، ويقول: ليس عند المانعين منه دليل، وتُجْمَع الزَكَوَات وتُدفَع للعاملين في الدعوة بحُجَّة أنه ليس فيه دليل، بينما الواقع أن الدليل في نفس الآية، لكن الذِّهْن أحيانًا قد يَغيب عنه تصوُّر الدليل، فالعاملين على الزكاة يُخْرِج العاملين على غير الزكاة، ولذلك جاء جمهور العلماء فقَصَروا في سبيل الله على الجهاد في سبيله، قَصَرُوه على الجهاد، ولهم أدلة أخرى في هذا من السنة. لكن الذي أريد أن أُبَيِّنَه لكم أن اعتبار المفهوم والاحتجاج به هو مذهب الجمهور ، وأن الحُجَّة في نفس الآية. وقد ترى ما لا يُراد في دليل، والأصل فيه أنه مُرادٌ، فإذا قلت لا يُراد، أعطنا الحُجَّة. لكن هنا جاءت الحجة على أنه مراد، من أين نأخذه من قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... الآية()، فكلمة إنما للحَصْر، أداةُ حَصْرٍ، إنما مُكَوَّنة من إثباتٍ ونَفْيٍ، (إن) للإثبات، و(ما) للنفي، واجتماع النفي والإثبات في لفظ واحد يدل على أنه للحَصْر. فقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»() فلا قبول لعمل إلا بنِيَّة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، محصورة وتولَّى الله قسمتها، فأداة الحَصْرِ في صَدْر الآية تُنَافِي أن يكون ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ عامًّا، وإلا ما ظَهَرَ معنى الحَصْرِ، كما أن إنما دَلَّت على أن المفهوم مُرادٌ؛ لأنه حَصَر للعاملين، حَصَر للفقراء، حَصَر للمساكين، إلى بقية الأنواع الثمانية.
وهذا النوع من التشريع يُسمَّى العامُّ الذي أُرِيدَ به الخُصوص؛ لأنَّ العموم أنواع، منها عامٌّ باقٍ على عمومه، وعامٌّ وَرَدَ له مخصِّص، وعامٌ جِيء به بصيغة العموم لكن يُراد به الخصوص، والعموم الوجهي. هذه أربعة أنواع من أنواع العموم، عُمومُ وَجهيْ، عمومٌ أُرِيدَ به الخصوص، عُموٌم مخصوص، عموم باقٍ لم يُخَصَّ. كلها لها أمثلة عند علماء الأصول.
إذن المفهوم تارةً يُرادُ وتارة لا يُراد، والأصل فيه أنه مُراد، وقد لا يُراد، وأذكر بعض الأمثلة.
هناك أحاديث بل وآيات قرآنية المفهومُ فيها غير مُرَادٍ، مثل آية الرَّبَائِب: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مفهومُ الآية أنَّ الرَّبِيبَةَ إذا لم تكن في الحِجْر يجوز الجَمْعُ بينها وبين أُمِّها، فقالوا: المفهوم هنا غير مُرَادٍ للآية الأخرى، وهذا المَثَلُ تكلَّم عليه أهل العلم في كُتُب تفسير الأحكام. من العموم غير المُرَاد قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم في ماء البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ»(، مفهوم الحديث أن ماء غير البحر لا يُطَهِّرْ؛ لأنه حَصَلَ التطهير بماء البحر، فمفهومُه أن أيَّ ماءٍ غير ماء البحر لا يُطَهِّر، قالوا: هنا المفهوم غير مُرادٍ بالإجماع؛ لما جاء في القرآن الكريم مِن طَهَارة سائر المياه. قالوا: حديث: «إِنَّ المُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ»( مفهومه أن الكافر نَجِسُ الذَّاتِ، تأوَّلَ أهلُ العلم بأن المُراد لا يَنْجُس نجاسةً حُكميَّة وليست عَيْنِيَّةً، حديث؛ نَهَى «أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»، قالوا: فذِكْرُ الأحجار يدلُّ على أنه لا يَنفع إلا الحِجارة، فمفهومه أن غير الحِجارة لا تُطهِّر. رُدَّ هذا من أدلة نفس الحديث: أنه نَهَى عن العَظْمِ والرَّوْثِ()، فمعناه أنه هناك أشياء مَسْكوتٌ عنها فهل نُلحِقُها بما نُهِيَ عنه؟ أو نُلحِقُها بما أُذِنَ فيه؟ بناءً على أن الأصل التطهير فأَلحَقَها الجمهور بما يُطهِّر، لورود النهي عن اثنين وبَقِي ما عداه لم يُنْهَ عنه. يَرَى ابنُ حَزْم وهو رأي شِبْه مخصوص له، وعليه قِلَّة من أهل العلم، أن الرِّبا محصورٌ في الستة: البُرُّ بالبُرِّ والشَّعِير بالشعير والتمر بالتمر والذهب والفضة. ستة، وأين الباقي؟ فلم يَرَ أن المعنى يَسرِي إلى غير الستة، وخالفه أئمة الإسلام وجمهور أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم، لماذا؟ لأن هذه الستة لها مفهوم – مع أنه لا يَرَى المفهوم – لكن مفهومها مفهومُ لَقَبٍ وهو ضعيف، فلا يصح الاحتجاج؛ ولأن الله تعالى حَرَّم الرِّبا وأباح البيع ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا( فالبيع جاء بالألف واللام، والرِّبا جاء بالألف واللام، إذن كل أنواع الربا مُحَرَّمة، وكل أنواع البيع حلال، فهل هذه الستة هي حَصْرٌ للآية أو أن الستة من باب التمثيل لا من باب التحريم، فالجمهور يَرَوْن أنه من باب التمثيل؛ لأن الأصل تحريم الرِّبا بكل أنواعه؛ لورود الألف واللام عليه، وابن حزم يَرَى أن الستة للتحديد، ويُرَدُّ عليهم بقاعدة أصولية وهي أن ذِكْر بعضِ أفراد العام في حُكْمٍ لا يخالف العامَّ يُحْمَل على التمثيل لا على التخصيص. أي أن ذِكْرَ بعض أفراد العام في حُكْمٍ لا يخالف العامَّ يُراد به التمثيل لا التخصيص، وهذه لها قواعد ومناقشات بين أهل العلم. الشاهد من هذا وجوب العناية بالمفهوم وهو تارة يُرَادُ وتارة لا يُرَادُ.
أمثلة المفهوم المُرَاد: حديث القُلَّتَيْنِ «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ»، إذن مفهومه: أن ما دون القُلَّتَيْن يَحْمِل الخَبَثَ، وهذا سنتطرَّق إليه إن شاء الله مع الحديث عن اختلاف أحاديث المياه، إذن تارة يَرِدُ دليل على أن المفهوم غير مُرَاد، وتارة يَرِد دليل على أن المفهوم مُرَاد، وتارة يبقى على الأصل، وهو أن المفهوم حُجَّة. هذه إلـمَاحَة مُوجَزة عن أهمية دلالة المفهوم، ورأيتم كيف أَثَرُها في تحديد مصارف الزكاة، ولو لم نعرف إلا بعض التطبيقات لكان في هذا نَفْعٌ؛ لأن القليل يَجلِب الكثير وتَفَتُّق الأذهان أمرٌ مطلوب لطالب العلم، إذن إِعْمَالُ المفهومِ وإدراكُه أمرٌ مُهِمٌّ.

معنا من الأحاديث المختلفة في كتاب الطهارة خمسة أحاديث ورَدَتْ في الماء متعارِضة؛ حديثُ: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ») هذا الحديث مشهور بحديث بِئْر بُضَاعَة، «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» هذا الحديث عامٌّ «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ» يشمل ماذا؟ القليلَ ويشمل الكثيرَ، الماء يشمل ما في الكأس، ويشمل الغَدِيرَ «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ» وقد جاء الحديث هذا في ماء بئر «إِنَّ المَاءَ» الألف واللام دَخَلتْ على الماء فهو عامٌّ.
حديث: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ» وفي رواية: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ» خاصٌّ أم عامٌّ؟ عامٌّ، يشمل القليلَ. إذن عندنا حديثان حديث الماء مطلقًا لا يَنْجُسْ، وحديث الماء مطلقًا يَنْجُس، «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» حديث النَّهْيِ عن البول ليس في القليل دون الكثير، ولكنه يَشمل القليلَ ويَشمل الكثيرَ، «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»( يشملَ القليلَ والكثير. إذن حديثان عامَّان متعارِضان، أحدهما أن الماء يُنَجِّسُه البولُ، والثاني لا يُنَجِّسُه شيءٌ.
حديث: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ»، والإناء يكون صغيرًا يَستخدمه الناس في شُرْبِهم، والأصل في الأواني أنها ليست كبيرة، ليست كالبِرَكِ، «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ» نَصٌ في نجاسة الماء القليل، لم يَقُل النبي صلى الله عليه وسلم: إذا وَلَغَ الكلب في الماء، لو قال: في الماء مطلقًا، لقلنا بأن الحديث عامٌّ لكنه قال: في إناء، فالأصل في ماء الأواني أن تكون قليلةً، هذا هو الأصل أن يكون ماءُ الأواني قليلاً، إذن هذا نَصٌّ في نجاسة القليل.
حديث: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا»() الأصلُ أن هذا في ماء الأواني التي تكون في البيوت، لا يَغْمِسها «فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
هذه خمسة أحاديث، حديث القُلَّتَيْن ذكرناه، حديث «المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، حديث «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ»، حديث الوُلُوغِ، حديث الاستيقاظ. هذه خمسة أحاديث مختلفة.
اختلف الأئمة في فَهْمِها.
فقال الحنفية – وهم لا يَروْن العَمَلَ بالمفهوم – قالوا: العملُ على حديث: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ» العَمَلُ عليه، وهو حديث في الصِّحَاح، ونَرُدُّ كلَّ الأحاديث إليه. قيل لهم: الماء الدائم قد يكون بَحْرًا أو بُحَيْرةً، فكيف تحدِّدون القليلَ من الكثير؟ قالوا: ننظر للحِكمة، ما هي الحكمة؟ الحكمة: أنت مَنْهِيٌّ أنْ تَبُولَ في الماء الدائم؛ لئلا تُبَاشِر نَجَاسَتَك، والحكمة ظاهرة هنا.
لماذا نَهَاكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم؟ لئلا تُبَاشِرَ النجاسة. تَبُولُ ثم تَرْفَعُ النجاسةَ على رَأسِك وعلى ظَهْرِك وتغتسل، لا، هذا غير مُرَاد، إذن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نَهَانا عن البَوْل في الماء الدائم؛ لئلا نَستخدِم النجاسة، وهذه الحكمة ظاهرةٌ يمكن أن يُعلَّل بها الحديث، إذا كانت هذه الحكمة قالوا: ننظُر هل العقل يُحِيل؟ يقول لك العقل: إن هذا الماء نَجِس لا تَستخدِمْه، وهذا الماء تستخدمه، فإذا أَحَالَ العقلُ استخدامَ النجاسة فإنه طاهر، وإذا لم يُحِل العقلُ فإنه نجس. قرِّبوا لنا، قالوا: مُمكِن أن نتصوَّر هذا *** أو تُحَرِّك طَرَفَ الماء ثم تنظر إلى المَوْج أين ينتهي؛ لأن المَوْجَ هو الذي يَحمل البولَ، رجلٌ يبول في زاوية، أليس الماء سيتحرَّك؟ في تحرُّكه يَحمِل ذَرَّاتِ البول. لهم اجتهادات رحمهم الله. فاحتاطوا لطهارة الماء، وهم أكثر الأئمة احتياطًا في هذا الباب فقد شدَّدوا في الأمر، بحيث أنك إذا بُلْتَ في مكان تظنُّ أن المَوْجَ لا يَحمل قَطَراتِ البَوْل إلى الجهة الثانية، إذا توضَّأتَ من الجِهة الثانية معناها أنك لم تُبَاشِر النجاسة.
الشافعية والحنابلة اعتمدوا على حديث القُلَّتَيْن، فقالوا: إن حديث القُلَّتَيْن يدلُّ على التفريق بين الكثير والقليل، وهم يُقارِبون الحنفيةَ من جِهَةٍ، لكن حدَّدوا الماءَ القليل الذي يَنْجُس بالقُلَّتَيْن، والقُلَّتَيْن تقريبًا مائتيْ لِتْر، هذا تقريبُ بعضِ المقاييس، قرَّبوها إلى مائتيْ لتر، أُقَرِّبُ لكم المعنى، بَرَامِيلُ الزِّبَالَة هذه المنشورة مِلْؤُهَا أو أقل قليل هما قُلَّتان، لأن البِرْمِيل الموجود المنتشر في الأحياء هذا، حتى يُقرَّب لكم، يَصِلُ أو يزيد على مائتيْ لِتْر، هذا بالتقريب المعاصر. إذا بَلَغ الماء القُلَّتَيْنِ لا يَحمل النجاسة، يعني ما يظهر فيها النجاسة، تَضِيعُ، ودونه تظهر فيه النجاسة، فاعتمدوا على حديث القُلَّتَيْنِ، وقالوا: إن له مفهومًا ومَنطوقًا، فمَنْطُوقُه أن ما دون القُلَّتَيْن يَنْجُس، ومفهومُه أن ما فَوْق القُلَّتَيْن لا يَنْجُس، ما لم يتغيَّر طَعْمُه أو لَوْنه أو ريحه؛ لأن الماء إذا تغيَّر طعمُه أو لوْنُه أو رِيحُه فهو نَجِسٌ بإجماع المسلمين، بالإجماع نَجِس، الخلاف فيما إذا لم تظهر النجاسة على الأوصاف.
إذن عندنا الحنفية اعتمدوا على حديث «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ».
الحنابلة والشافعية اعتمدوا على حديث القُلَّتَيْن.
المالكية اعتمدوا على حديث: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، فقال المالكية: مهما يَقَعُ فيه من نجاسة لا يَنْجُس إلا إذا ظَهَرَ على لَوْنه أو ريحه أو طعمه، ورَدُّوا بقية الأحاديث إليه – رَدُّوا بقية الأحاديث إلى هذا – ومِن غريبِ قوْلِهم في حديث الوُلُوغ – لأن الحديث صريح: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ» – قالوا: هذا تَعبُّدٌ وليس للنجاسة؛ لأن هذا الحديث صَرِيحٌ يُشْكِل على المالكية، وعلى مَن قال بقولهم، وهو حديث أصحُّ من حديث: «المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، لكن نقول: كل الأحاديث صحيحة، حتى لا ندخل في خلافٍ مع أئمة الأحاديث، فكل إمامٍ له تصوُّر، فالمالكية وبعض المعاصرين من الحنابلة يأخذون بحديث: «المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، هذا يُشْكِل عليهم حديث: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ»)؛ لأن الماء منه قليل ومنه كثير، وما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يَبُولَنَّ أحدكم إلا إذا غيَّر البولُ طعمَه وريحَه، ما ذَكَرَ هذا، مُجَرَّد البول يَمْنَعُك، حديث الوُلُوغ، ماذا يُصنَع به، حَمَلُوه على أنه تَعَبُّد، والأصل أنه مفهوم العِلَّة؛ لأن النبي أمر بالغَسْلِ وبالإِرَاقَةِ، فالمغسولُ الإناءُ لنجاسته، والماء المُرَاقُ نَجِسٌ؛ لأنه لا يُطَهِّره شيءٌ.
حديث «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ»، هذا فيه خلافٌ في دلالته.
الشاهد من هذا أن عندنا أحاديث خمسة، عند المالكية العُمْدَةُ حديث بِئْرِ بُضَاعَة «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ»، تُورَدُ عليهم الأحاديث الأخرى، «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ» هو العُمْدة عند مَن؟ الحنفية. حديث القُلَّتَيْن هو العُمْدَة عند مَن؟ الشافعية والحنابلة، ولذلك تجد أن حديث القُلَّتَيْن تجتمع فيه الأدلة كلها، كل الأدلة تجتمع؛ لأن «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ» في الماء الذي دون القُلَّتَيْن، «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ» أي الماء دون القُلَّتَيْن، «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ» دون القُلَّتَيْنِ، «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، وسأبين لكم وَجْه التوفيق؛ لأن هذا يُعارِض حديثَ القُلَّتَيْن، أما الأحاديث الأخرى فتَنْدَرِجُ تحت حديث القُلَّتَيْن.
أما المُعارَضة فـ«إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ» قالوا: دلَّ بمنطوقه على أن الماء لا يَنْجُس، إلا إذا تغيَّر لونُه أو طَعْمُه أو ريحُه؛ لأن الإجماع مُنْعَقِدٌ على هذا، وقالوا: حديث القُلَّتَيْن يدل على أن ما دون القُلَّتَيْن يَنْجُس، بالمفهوم لا بالمنطوق، «إذا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لا يَحْمِلُ» أي الكثير لا يَحْمِل، والقليل؟ المنطوق تعرَّض لأي شيء؟ للقليل أو الكثير؟ للكثير، المفهوم للقليل، فقال بعضهم: إذا تعارض منطوقٌ ومفهومٌ قَدَّمنا المنطوقَ على المفهوم، فيترجَّح حديث بِئْرِ بُضَاعَةً منطوقًا ومفهوما، أيُّهما يُقدَّم؟ المنطوق، هكذا قال بعضهم، وهو مُدَوَّنٌ في الكتب.
لكن الجمهور يُفَصِّلون، يقولون: المنطوق تارة يكون عامًّا، وتارة يكون خاصًّا، فالمنطوق الخاصُّ إذا عارَض المفهومَ قَدَّمنا المنطوق الخاصَّ على المفهوم، إذا كان المنطوقُ عامًّا فإن المفهوم يُخَصِّصه، والماء في «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» منطوق عامٌّ أم خاصٌّ؟ عامٌّ، يشمل القليلَ ويشمل الكثيرَ، حديث القُلَّتين خاصٌّ، المفهوم في القليل، فالمفهوم يُخَصِّص العمومَ، وعلى هذا أمثلة في الشريعة، لا يستطيع المخالِف أن يَنْفَكَّ منها، يؤكِّد هذا المعنى حديث: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا» هذا في وجوبُ الزكاة، مَن عنده ثلاث يقال: صاحب إبل، ومَن عنده أربع يقال: صاحب إبل، وهذه لغة العرب، «فِي كُلِّ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ»، قالوا: الذَّوْدُ يُطلَق من الثلاث فأكثر، صاحب الإبل ثلاث فأكثر، إذن مجموعة أحاديث تدل على أن في كل ثلاث من الإبل صدقة، جاءت أحاديث أخرى فخصَّصتْ، نريد تخصيصًا بالمفهوم، ما من صاحب إبل خمسين، مائة، فيها زكاة أم ليس فيها زكاة؟ فيها زكاة، لكن نُمثِّل بوسائل النقل، (التكاسي) أو المرسيدس التي يُحمَل بها الأثقال من بلد إلى بلد، فانية معلوفة لا ترعى، هل فيها زكاة؟ للعوامل. رجل عنده خَمسٌ من الإبل عوامل في النَّضْح - يسقِي عليها زرعه - أو عنده خمسين وينقل عليها الأمتعة، هل فيها زكاة؟ لا، لماذا؟ معلوفة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فِي الإِبِلِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ» غير السائمة؟ هل فيها صدقة؟ من أين احتَجَجْنا؟ بالمفهوم.
فانْضَبَطَ، خَلِّكَ كالإمام أحمد، ولا تكن تارة تعمل بالمفهوم، وأخرى لا تعمل، كُنْ على صراط مستقيم، إن الفقه دِينٌ في مُختلَف الأبواب، لا تقلْ مرةً: هذا المفهوم ضعيف، ومرةً تقول: هذا المفهوم حُجَّة، فتضطرِب. إذن في الإبل السائمة صَدَقةٌ، مفهومه أن غير السَّائِمة -وهي المَعْلُوفة- ليس فيها صدقة.
«إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ» مفهومه أن ما دون القلتين يَحمِل الخَبَثَ. فإذا احتججتَ بحديث السَّائِمة، فاحتجَّ بحديث القُلَّتَيْن، حتى تنضبِط على منهج مُعَيَّن، وتصبح فقيهًا في فَهْمِ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن بهذا نكون قد أدركنا أن الأحاديث في المياه خمسة.
المالكية ومن قال بقولهم من متأخِّرة الحنابلة، اعتمدوا حديثَ «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ».
الحنابلة والشافعية احتجُّوا بحديث «إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ».
الحنفية احتجُّوا بحديث «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ».
ما شاء الله، زادني الله وإياكم علمًا، هؤلاء هم أئمة الإسلام اجتهدوا في فَهْمِ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما علينا إلا أن نتفقَّه كيف تفقَّهوا.
الحنفية ردُّوا الأحاديث إلى «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ»، فقلنا بأن أَرْجَحَ الجَمْعِ ما اعتَمَدَ على حديث القُلَّتَيْن؛ لأنه لا يُخالِف «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ»، إذا كان قليلا فيَنْجُس، لا نقول: تَعَبُّدِي، فاضطرَّ المالكية إلى أن يقولوا: حديث تَعَبُّدي، نقول: لا، إنما نُهِيَ عنه. وهذا متبادَر للذِّهْن، إذا قرأتَ حديث وُلُوغ الكلب لا يظهر لك من سِيَاقِ اللغة أنه للنجاسة، قال: لا هذا تَعَبُّدِي، غير مَعقولِ المعنى، قلنا: بل معقول المعنى؛ لأنه وَرَدَ فيه إراقةُ ووَرَدَ فيه غَسْلُ الإناء، وبالتراب في زيادة؛ لأن الكلب هو كَلْبٌ، فعِنده مرض الكَلَبِ، ولا يقطعه إلا التراب، فلزيادة في النجاسة، ولزيادة في المضرَّة، أُدْخِلَ الترابُ عليه. تلاه بعد ذلك حديث: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ» في الماء الذي دون القُلَّتَيْن، ««لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ» الذي دون القُلَّتَيْن، فتَندَرِج وتجتمع في حديث القُلَّتَيْن، أما «المِاءُ طَهُورٌ» قلنا: بأنه عامٌّ يُخصِّصه المفهوم كما خَصَّصْنا بحديث: «فِي الإِبِلِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ» مفهومه أن غير السائمة لا صدقة فيها فتُخَرَّج أحاديث: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ»، «فِي كُلِّ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ»، وكل الأحاديث العامَّة تُخَصَّص بمفهوم حديث السائمة.

هذا ما أحببت بيانه لكم.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire