el bassaire

lundi 18 mars 2013

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تأليف شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن تيمية

الفصل الأول

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين . فإن رسالة الله : إما إخبار ، و إما إنشاء . فالإخبار عن نفسه وعن خلقه : مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد . والإنشاء الأمر والنهي والإباحة .
وهذا كما ذكر في أن : (( قل: هو الله أحد )) . تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد ؛ إذ هو قصص ؛ وتوحيد؛ وأمر . وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم ، : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف: من الآية157) . هو بيان لكمال رسالته ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ، هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ، ونهى عن كل منكر ؛ وأحل كل طيب وحرم كل خبيث ، ولهذا روي عنه أنه قال : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) . وقال في الحديث المتفق عليه : (( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بن داراً فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها : ويقولون : لولا موضع اللبنة ! فأنا تلك اللبنة )).

فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر ، وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث . و أما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات ، كما قال:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(النساء: من الآية160). وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث ، كما قال تعالى :(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة) (آل عمران: من الآية93).

وتحريم الخبائث يندرج في معنى : (( النهي عن المنكر )) كما أن إحلال الطيبات يندرج في : (( الأمر بالمعروف )) لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه ، وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول ؛ الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف ، وقد قال الله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة: من الآية3) . فقد أكمل الله لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام ديناً .

وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه) (آل عمران: من الآية110). وقال تعالى :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)(التوبة: من الآية71). ولهذا قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس ، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة .

فبيّن سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس : فهم أنفعهم لهم ، وأعظمهم إحساناً إليهم ، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر ، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد ، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم و أموالهم ، وهذا كمال النفع للخلق .

وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ؛ ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ، ولا جاهدوا على ذلك . بل منهم من لم يجاهد ، والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم ، كما يقاتل الصائل الظالم ؛ لا لدعوة المجاهدين و أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، كما قال موسى لقومه : (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) إلى قوله:( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:21-24) . و قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: من الآية246). فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم و أبنائهم ، ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم ؛ ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين .

ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنوا إسرائيل ؛ كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ، يوماً فقال: (( عرضت عليّ الأمم ؛ فجعل يمر النبي ومعه الرجل ؛ والنبي و معه الرجلان ؛ والنبي معه الرهط ؛ والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي ؛ فقيل: هذا موسى وقومه . ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ! ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب )) فتفّرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ؛ ولكن هؤلاء أبناؤنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ؛ ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون )) ؛ فقام عكاشة بن محصن فقال :أمنهم أنا يارسول الله ؟ قال : (( نعم ! )) فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ فقال : (( سبقك بها عكاشة )).

ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب ؛ أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى ؛ أو خلقه بباطل : لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف : من الكلم الطيب والعمل الصالح ؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به أمة فليس من المعروف ، وما لم تنه عنه فليس من المنكر. وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أن تنهى كلها عن معروف ؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).

وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم ؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة : فكيف يشترط فيما هو من توابعها ؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم . ثم إذا فرّطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه : كان التفريط منهم لا منه .

وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية ، كما دل عليه القرآن ، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك ، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته ، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم بستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )). وإذا كان كذلك ؛ فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به ؛ ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر .

 وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات و المستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة ؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب ، والله لا يحب الفساد ؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح . وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا و عملوا الصالحات ، وذم المفسدين في غير موضع ، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به ، وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم ؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (المائدة: من الآية105). والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب ، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال .

وذلك يكون تارة بالقلب ؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد . فإما القلب فيجب بكل حال ؛ إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( وذلك أدنى - أو- أضعف الإيمان )) ، وقال : (( ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) وقيل لابن مسعود : من ميت الأحياء ؟ فقال : الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً . وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان .

[بعض أغلاط الناس في مفهوم الأمر بالمعروف ]
وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في خطبته : إنكم تقرؤون هذه الآية : ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) . و إنكم تضعونها في غير موضعها ، و إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منها )).
والفريق الثاني : من يريد أن يأمر و ينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر و نظر فيما يصلح من ذلك ومالا يصلح ، وما يقدر عليه ومالا يقد ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمراً لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله )) فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده ، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة ؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي و الجهاد على ذلك ، وكان فساده أعظم من صلاحه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، وقال: (( أدوا إليهم حقوقهم ، وسلوا الله حقوقكم )). وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .

ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء – كالمعتزلة – فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : (( التوحيد )) الذي هو سلب الصفات ، (( والعدل )) الذي هو التكذيب بالقدر ، و (( المنزلة بين المنزلتين )) و (( إنفاذ الوعيد )) و (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) الذي منه قتال الأئمة . وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع .

وجماع ذلك داخل في (( القاعدة العامة )): فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، و إلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام . 

[ حكم من يجمع بين المعروف والمنكر ]
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر .
ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله .

و إن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة .

وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً .

وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ، ويحمد محمودها ويذم مذمومها ، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه ، أو فوات معروف أرجح منه .

وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية . وهذا باب واسع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبي و أمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه : حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.

و أصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر ، وإرادته لهذا ، وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه ، و إرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد قال: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: من الآية16) .

فأما حب القلب وبغضه و إرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان . و أما فعل البدن فهو بحسب قدرته ، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل ، كما قد بيناه في غير هذا الموضع ، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه و إرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله ، وهذا من نوع الهوى ، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (القصص: من الآية50)

[ أثر الهوى في الاحتساب ]

فإن أصل الهوى محبة النفس ، ويتبع ذلك بغضها ، ونفس الهوى – وهو الحب والبغض الذي في النفس – لايلام عليه ، فإن ذلك قد لايملك ،و أنها يلام على اتباعه كما قال تعالى :( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(صّ: من الآية26) و قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، وكلمة الحق في الغضب والرضا . وثلاث مهلكات: شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه )).

والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ، ووجد و إرادة ، وغير ذلك ، فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ، بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه ، و اتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات ، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ)(القصص: من الآية50) وقال تعالى : ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ)(الروم: من الآية28) إلى أن قال : ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الروم: من الآية29) وقال تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية119) ، وقال الله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77) .

وقال تعالى : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120). وقال تعالى : ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية145) وقال تعالى :( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم) (المائدة: من الآية49).

ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه و العلم بالدين لا يكون إلا بهدي الله الذي بعث به رسوله ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية119) وقال في موضع آخر :( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه) (القصص: من الآية50).

فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه ، ومقدار حبه وبغضه : هل هو موافق لأمر الله ورسوله ؟ وهو هدي الله الذي أنزله على رسوله ، بحيث يكون مأموراً بذلك الحب والبغض ، لا يكون متقدماً فيه بين يدي الله ورسوله ، فإنه قد قال: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات: من الآية1) .

ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله . ومجرد الحب والبغض هوى ، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدي من الله ولهذا قال تعالى: ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد) (صّ: من الآية26) فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله وهو السبيل إليه . 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire