el bassaire

samedi 26 octobre 2013

متن تفسير سورتي الكهف ومريم من تفسير ابن كثير

سورة الكهف
وهي مكية
ذكر ما ورد في فضلها والعشر الاَيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة, فجعلت تنفر, فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرأ فلان, فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن) أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به, وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا هشام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد, عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به, ولفظ الترمذي (من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف) وقال: حسن صحيح.
(طريق أخرى) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا شعبة عن قتادة, سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال) فيحتمل أن سالماً سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء. وقال أحمد: حدثنا حسين, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني, عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها, كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه, ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء والأرض) انفرد به أحمد ولم يخرجوه, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم, عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين) وهذا الحديث في رفعه نظر, وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى الإمام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. هكذا وقع موقوفاً, وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد الخدري وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل, حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا هشيم, حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد, عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم, ثم قال البيهقي: ورواه يحيى بن كثير عن شعبة عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف كما نزلت, كانت له نوراً يوم القيامة) وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني, عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعاً: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة, فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة, وإن خرج الدجال عصم منه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا * قَيّماً لّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مّن لّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً * مّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لاَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً 
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها, فإنه المحمود على كل حال, وله الحمد في الأولى والاَخرة, ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه, فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ, بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحاً بيناً جلياً نذيراً للكافرين, بشيراً للمؤمنين, ولهذا قال: ﴿ولم يجعل له عوجا﴾ أي لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا ميلاً, بل جعله معتدلاً مستقيماً ولهذا قال: ﴿قيما﴾ أي مستقيما ﴿لينذر بأساً شديداً من لدنه﴾ أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأساً شديداً عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى ﴿من لدنه﴾ أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد, ولا يوثق وثاقه أحد ﴿ويبشر المؤمنين﴾ أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح ﴿أن لهم أجراً حسنا﴾ أي مثوبة عند الله جميلة ﴿ماكثين فيه﴾ في ثوابهم عند الله, وهو الجنة خالدين فيه ﴿أبدا﴾ دائماً لا زوال له ولا انقضاء.
وقوله: ﴿وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا﴾ قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب في قولهم نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله ﴿مالهم به من علم﴾ أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه ﴿ولا لاَبائهم﴾ أي لأسلافهم ﴿كبرت كلمة﴾ نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه كلمةً. وقيل: على التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة, كما تقول: أكرم بزيد رجلاً, قاله بعض البصريين, وقرأ ذلك بعض قراء مكة: كبرت كلمة, كما يقال عظم قولك وكبر شأنك, والمعنى على قراءة الجمهور أظهر, فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم, ولهذا قال: ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم﴾ أي ليس لها مستند سوى قولهم, ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم, ولهذا قال: ﴿إن يقولون إلا كذبا﴾ وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة, فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة, فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله, فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء, فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصفوا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا, قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن, فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل, وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم, فإنهم قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه, وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه, وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم, فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد, قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها, فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا, فسألوه عما أمروهم به, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم غدا عما سألتم عنه) ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً, واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها, لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة, ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف, فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف, وقول الله عز وجل ﴿ويسألونك عن الروح ؟ قل الروح﴾الاَية.
﴿ فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ عَلَىَ آثَارِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً 
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى: ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ وقال: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ وقال: ﴿لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين﴾ باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم, ولهذا قال: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث﴾ يعني القرآن ﴿أسفا﴾ يقول: لا تهلك نفسك أسفاً. قال قتادة: قاتل نفسك غضباً وحزناً عليهم, وقال مجاهد: جزعاً, والمعنى متقارب, أي لا تأسف عليهم, بل أبلغهم رسالة الله, فمن اهتدى فلنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات, ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة, وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار, فقال: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا﴾ قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون, فاتقوا الدنيا, واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء), ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها, فقال تعالى: ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا﴾ أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار, فنجعل كل شيء عليها هالكاً صعيداً جرزاً لا ينبت ولا ينتفع به.
كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا﴾ يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد: صعيداً جرزاً بلقعاً, وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات, وقال ابن زيد: الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء, ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون﴾ وقال محمد بن إسحاق: ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا﴾ يعني الأرض وأن ما عليها لفان وبائد, وأن المرجع لإلى الله, فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.
﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَىَ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىَ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً 
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار, ثم بسطها بعد ذلك فقال: ﴿أم حسبت﴾ يعني يا محمد ﴿أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا﴾ أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الاَيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى, وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف, كما قال ابن جريج عن مجاهد ﴿أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا﴾ يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس ﴿أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا﴾ يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم, وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم, وأما الكهف فهو الغار في الجبل, وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون, وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو واد قريب من أيلة, وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار في الوادي, والرقيم اسم الوادي, وقال مجاهد: الرقيم كان بنيانهم, ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم: كان يزعم كعب أنها القرية, وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف, وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس, وقال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس, واسم الكهف حيزم, والكلب حمران. وقال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً والأواه والرقيم. وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم ؟ كتاب أم بنيان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرقيم الكتاب. وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف, ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم الكتاب, ثم قرأ: كتاب مرقوم. وهذا هو الظاهر من الاَية, وهو اختيار ابن جرير, قال: الرقيم فعيل بمعنى مرقوم, كما يقال للمقتول قتيل, وللمجروح جريح, والله أعلم. وقوله: ﴿إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا﴾ يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم, فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم ﴿ربنا آتنا من لدنك رحمة﴾ أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا ﴿وهيء لنا من أمرنا رشدا﴾ أي وقدر لنا من أمرنا هذا رشداً أي اجعل عاقبتنا رشداً, كما جاء في الحديث (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً﴾ وفي المسند من حديث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها, وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الاَخرة).
وقوله: ﴿فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا﴾ أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة, ﴿ثم بعثناهم﴾ أي من رقدتهم تلك, وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله, ولهذا قال: ﴿ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين﴾ أي المختلفين فيهم ﴿أحصى لما لبثوا أمدا﴾ قيل: عدداً, وقيل: غاية, فإنّ الأمد الغاية, كقوله:
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
﴿ نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـَهاً لّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَـَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقاً 
من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها, فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب, وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل, ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً, وأما المشايخ من قريش, فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً, وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق, فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم, فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية, وشهدوا أنه لا إله إلا هو ﴿وزدناهم هدى﴾ استدل بهذه الاَية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص, ولهذا قال تعالى: ﴿وزدناهم هدى﴾ كما قال: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾ وقال ﴿فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون﴾ وقال: ﴿ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم﴾ إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على ذلك. وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم, فالله أعلم, والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية, فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم, وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء, وعن خبر ذي القرنين, وعن الروح, فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم على دين النصرانية, والله أعلم.
وقوله ﴿وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض﴾ يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة, فإنه ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم, وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد, وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت, ويذبحون لها, وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس,. وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه, فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك, وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم, ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم, عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السموات والأرض, فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية, فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم, جلس تحت ظل شجرة فجاء الاَخر فجلس إليها عنده, وجاء الاَخر فجلس إليهما, وجاء الاَخر فجلس إليهم, وجاء الاَخر وجاء الاَخر, ولا يعرف واحد منهم الاَخر, وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.
كما جاء في الحديث الذين رواه البخاري تعليقاً من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة, فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والناس يقولون: الجنسية علة الضم, والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم, ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء, فليظهر كل واحد منكم بأمره, فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل, وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما, وقال الاَخر: وأنا والله وقع لي كذلك, وقال الاَخر كذلك, حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة, فصاروا يداً واحدة, وإخوان صدق, فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه, فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه, فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل, ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها﴾ ولن لنفي التأبيد أي لا يقع منا هذا أبداً, لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً, ولهذا قال عنهم: ﴿لقد قلنا إذاً شططا﴾ أي باطلاً وبهتاناً ﴿هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين﴾ أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا﴾ يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك, فيقال إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم, وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم, وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه, وكان هذا من لطف الله بهم, فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة, وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه, كما جاء في الحديث (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها, لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع, فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم, واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله: ﴿وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله﴾ أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله, ففارقوهم أيضاً بأبدانكم, ﴿فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته﴾ أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ﴿ويهيىء لكم من أمركم﴾ الذي أنتم فيه ﴿مرفقا﴾ أي أمراً ترتفقون به, فعند ذلك خرجوا هِراباً إلى الكهف فأووا إليه, ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك, فيقال أنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم, وصاحبه الصديق حين لجآ إلى غار ثور, وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه, وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا, فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟) وقد قال تعالى: ﴿إلا تنصروه فقد نصره اللهإذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكنيته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم﴾ فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف, وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه, فقالوا: ماكنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم, فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك, وفي هذا نظر, والله أعلم, فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً, كما قال تعالى:
﴿ وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَت تّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مّرْشِداً 
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال, لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ﴿ذات اليمين﴾ أي يتقلص الفيء يمنة, كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ﴿تزاور﴾ أي تميل, وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان, ولهذا قال: ﴿وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال﴾ أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه, وهو من ناحية المشرق, فدل على صحة ما قلناه, وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب, وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب, ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب, ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً, ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال, ولم تزل فيه إلى الغروب, فتعين ما ذكرناه, ولله الحمد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم تتركهم, وقد أخبر الله تعالى بذلك, وأراد منا فهمه وتدبره, ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض, إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي, وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً, فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى. وقيل: ببلاد الروم. وقيل: ببلاد البلقاء, والله أعلم بأي بلاد الله هو, ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه, فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته, ولم يعلمنا بمكانه, فقال: ﴿وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم﴾ قال مالك عن زيد بن أسلم: تميل ﴿ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه﴾ أي في متسع منه داخلاً بحيث لا تصبيهم, إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم, قاله ابن عباس ﴿ذلك من آيات الله﴾ حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم, ولهذا قال تعالى: ﴿ذلك من آيات الله﴾, ثم قال: ﴿من يهد الله فهو المهتد﴾ الاَية, أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم, فإنه من هداه الله اهتدى, ومن أضله فلا هادي له.
﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً 
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم, لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى, فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها, ولهذا قال تعالى: ﴿وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود﴾ وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً, ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد, كما قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وقوله: تعالى: ﴿ونقلبهم وذات اليمين ذات الشمال﴾ قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. قوله ﴿وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد﴾ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء, وقال ابن عباس: بالباب. وقيل: بالصعيد وهو التراب, والصحيح أنه بالفناء وهو الباب, ومنه قوله تعالى: ﴿إنها عليهم مؤصدة﴾ أي مطبقة مغلقة, ويقال: وصيد وأصيد, ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب, قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب, وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم, وكان جلوسه خارج الباب, لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب, كما ورد في الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر, كما ورد به الحديث الحسن, وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال, وهذا فائدة صحبة الأخبار, فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم, وهو الأشبه, وقيل: كلب طباخ الملك, وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه, فالله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي: حدثنا صدقة بن عمر الغساني, حدثنا عباد المنقري, سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير, واسم هدهد سليمان عليه السلام عنقز, واسم كلب أصحاب الكهف قطمير, واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت, وهبط آدم عليه السلام بالهند, وحواء بجدة, وإبليس بدست بيسان, والحية بأصفهان, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران, واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها, بل هي مما ينهى عنه, فإن مستندها رجم بالغيب.
وقوله تعالى: ﴿لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا﴾ أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر, لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس, حتى يبلغ الكتاب أجله, وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم, لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة.
﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـَذِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيّهَآ أَزْكَىَ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطّفْ وَلاَ يُشْعِرَنّ بِكُمْ أَحَداً * إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوَاْ إِذاً أَبَداً 
يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين, ولهذا تساءلوا بينهم ﴿كم لبثتم﴾ أي كم رقدتم ؟ ﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار, واستيقاظهم كان في آخر نهار, ولهذا استدركوا فقالوا: ﴿أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم﴾ أي الله أعلم بأمركم, وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم, فالله أعلم, ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك, وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب, فقالوا: ﴿فابعثوا أحدكم بورقكم﴾ أي فضتكم هذه, وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها, فتصدقوا منها وبقي منها, فلهذا قالوا: ﴿فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة﴾ أي مدينتكم التي خرجتم منها, والألف واللام للعهد ﴿فلينظر أيها أزكى طعاما﴾ أي أطيب طعاماً. كقوله: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا﴾ وقوله: ﴿قد أفلح من تزكى﴾ ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره, وقيل: أكثر طعاماً, ومنه زكا الزرع إذا كثر, قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب
والصحيح الأول, لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً. وقوله ﴿وليتلطف﴾ أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه, يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه ﴿ولا يشعرن﴾ أي ولا يعلمن ﴿بكم أحداً * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم﴾ أي إن علموا بمكانكم ﴿يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم﴾ يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم, فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها, أو يموتوا, وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الاَخرة, ولهذا قال: ﴿ولن تفلحوا إذاً أبدا﴾.
﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوَاْ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَأَنّ السّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رّبّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىَ أَمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مّسْجِداً 
يقول تعالى: ﴿وكذلك أعثرنا عليهم﴾ أي أطلعنا عليهم الناس ﴿ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها﴾ ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأجساد, فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك, وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه, تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة, وذكروا أن اسمها دقسوس, وهو يظن أنه قريب العهد بها, وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة, وتغيرت البلاد ومن عليها, كما قال الشاعر:
أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله
فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها, ولا يعرف أحداً من أهلها: لا خواصها ولا عوامها, فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم, ويقول: والله ما بي شيء من ذلك, وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي, ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام, فدفع إليه ما معه من النفقة, وسأله أن يبيعه بها طعاماً, فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها, فدفعها إلى جاره, وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً, فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة, لعله وجدها من كنز وممن أنت ؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة, وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس, فنسبوه إلى الجنون, فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره, وهو متحير في حاله وما هو فيه, فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف ـ ملك البلد وأهلها ـ حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل, فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه, وأخفى الله عليهم خبرهم, ويقال بل دخلوا عليهم ورأوهم, وسلم عليهم الملك واعتنقهم, وكان مسلماً فيما قيل, واسمه تيدوسيس, ففرحوا به وآنسوه بالكلام, ثم ودعوه وسلموا عليه, وعادوا إلى مضاجعهم, وتوفاهم الله عز وجل, فالله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة, فمروا بكهف في بلاد الروم, فرأوا فيه عظاماً فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف, فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلثمائة سنة, ورواه ابن جرير, وقوله: ﴿وكذلك أعثرنا عليهم﴾ أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم, أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان ﴿ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم﴾ أي في أمر القيامة, فمن مثبت لها ومن منكر, فجعل اللهظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم ﴿فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم﴾ أي سدوا عليهم باب كهفهم, وذروهم على حالهم ﴿قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا﴾ حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (أحدهما) أنهم المسلمون منهم. (والثاني) أهل الشرك منهم, فالله أعلم, والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ, ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما فعلوا, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق, أمر أن يخفى عن الناس, وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده, فيها شيء من الملاحم وغيرها.
﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رّبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِم مّا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً 
يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف, فحكى ثلاثة أقوال, فدل على أنه لا قائل برابع, ولما ضعف القولين الأولين بقوله: ﴿رجماً بالغيب﴾ أي قولاً بلا علم, كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه, فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: ﴿وثامنهم كلبهم﴾ فدل على صحته, وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: ﴿قل ربي أعلم بعدتهم﴾ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى, إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم, لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.
وقوله: ﴿ما يعلمهم إلا قليل﴾ أي من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل, كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عز وجل ويقول عدتهم سبعة, فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله, وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم, ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش, هكذا وقع في هذه الرواية, ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق أو من بينه وبينه, فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة, وهو ظاهر الاَية, وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران, وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته, والله أعلم, فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب, وقد قال تعالى: ﴿فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا﴾ أي سهلاً هيناً, فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة ﴿ولا تستفت فيهم منهم أحدا﴾ أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب, أي من غير استناد إلى كلام معصوم, وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه, فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.
﴿ وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىَ أَن يَهْدِيَنِ رَبّي لأقْرَبَ مِنْ هَـَذَا رَشَداً 
هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل, علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية: تسعين امرأة, وفي رواية: مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله, فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك: قل إن شاء الله, فلم يقل, فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والذي نفسي بيده, لو قال إن شاء الله لم يحنث, وكان دركاً لحاجته) وفي رواية (ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين) وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الاَية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف غداً أجيبكم) فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً, وقد ذكرناه بطوله في أول السورة, فأغنى عن إعادته.
وقوله: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ قيل معناه إذا نسيت الاستثناء, عند ذكرك له, قاله أبو العالية والحسن البصري, وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة, وكان يقول: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ ذلك, قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد ؟ فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا, ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة, أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء لله وذكر ولو بعد سنة, فالسنة له أن يقول ذلك, ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث, قاله ابن جرير رحمه الله, ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة, وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح, وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه, والله أعلم.) وقال عكرمة ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ إذا غضبت وهذا تفسير باللازم. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحارث الجبلي, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله ﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله * واذكر ربك إذا نسيت﴾ أن تقول إن شاء الله, وروى الطبراني أيضاً عن ابن عباس في قوله: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ الاستثناء فاستثن إذا ذكرت, وقال: هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه, ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين, ويحتمل في الاَية وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى, لأن النسيان منشؤه الشيطان, كما قال فتى موسى: ﴿وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره﴾ وذكر الله تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان, فذكر الله تعالى سبب للذكر, ولهذا قال: ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ وقوله: ﴿وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا﴾ أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه, فاسأل الله تعالى فيه, وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك, وقيل في تفسيره غير ذلك, والله أعلم.
﴿ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً * قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً 
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان, وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية, وهي الثلثمائة سنة بالشمسية, فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين, فلهذا قال: بعد ثلثمائة وازدادوا تسعاً. وقوله: ﴿قل الله أعلم بما لبثوا﴾ أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء, بل قل في مثل هذا ﴿الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض﴾ أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه, وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: ﴿ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين﴾ الاَية, هذا قول أهل الكتاب, وقد ردّه الله تعالى بقوله: ﴿قل الله أعلم بما لبثوا﴾ قال: وفي قراءة عبد الله وقالوا: ﴿ولبثوا﴾, يعني أنه قاله الناس, وهكذا قال كما قال قتادة مطرف بن عبد الله, وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر, فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنة من غير تسع, يعنون بالشمسية, ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: وازدادوا تسعاً, والظاهر من الاَية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم, وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله, ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة, ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور, فلا يحتج بها, والله أعلم.
وقوله: ﴿أبصر به وأسمع﴾ أي أنه لبصير بهم سميع لهم, قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح, كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه, وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود, وأسمعه لكل مسموع, لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله: ﴿أبصر به وأسمع﴾ فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقال ابن زيد ﴿أبصر به وأسمع﴾ يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً. وقوله: ﴿ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا﴾ أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر, الذي لا معقب لحكمه, وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير, تعالى وتقدس.
﴿ وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً 
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس ﴿لا مبدل لكلماته﴾ أي لا مغير لها ولا محرّف ولا مزيل. وقوله: ﴿ولن تجد من دونه ملتحدا﴾ عن مجاهد ملتحداً قال: ملجأ. وعن قتادة: ولياً ولا مولى. قال ابن جرير: يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك, فإنه لا ملجأ لك من الله, كما قال تعالى: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس﴾ وقال: ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ أي سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.
وقوله: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾ أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً, من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء, أو أقوياء أو ضعفاء,يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم, وحده, ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه, كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود, وليفرد أولئك بمجلس على حدة, فنهاه الله عن ذلك فقال: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾ الاَية, وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء, فقال ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾ الاَية, وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال, ورجلان نسيت اسميهما, فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشاء الله أن يقع, فحدث نفسه, فأنزل الله عز وجل ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾ انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قص, فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب). وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم: حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس, وكان قاص العامة بالكوفة, يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب) قال شعبة: فقلت أي مجلس ؟ قال: كان قاصاً.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد, حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس, ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل, دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً﴾ فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس, فبلغت ستة وتسعين ألفاً وههنا من يقول أربعة من ولد إسماعيل, والله ما قال إلا ثمانية, دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر, عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم), هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت, عن علي بن الأقمر, عن الأغر مرسلاً. وحدثنا يحيى بن المعلى عن المنصور, حدثنا محمد بن الصلت, حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر, عن الأغر أبي مسلم, عن أبي هريرة وأبي سعيد, قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحجّ, أو سورة الكهف, فسكت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم).
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, حدثنا ميمون المرئي, حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات) تفرد به أحمد رحمه الله. وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد, عن أبي حازم, عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾ الاَية, فخرج يتلمسهم, فوجد قوماً يذكرون الله تعالى, منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد, فلما رآهم جلس معهم وقال: (الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم) عبد الرحمن هذا, ذكره أبو بكر ابن أبي داود في الصحابة. وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله ﴿ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا﴾ قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم, يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة, ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا, ﴿وكان أمره فرطا﴾ أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع, ولا تكن مطيعاً ولا محباً لطريقته, ولا تغبطه بما هو فيه, كما قال: ﴿ولاتمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى﴾.
﴿ وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً 
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ هذا من باب التهديد والوعيد الشديد, ولهذا قال: ﴿إنا أعتدنا﴾ أي أرصدنا ﴿للظالمين﴾ وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ﴿ناراً أحاط بهم سرادقها﴾ أي سورها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لسرادق النار أربعة جدر, كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة) وأخرجه الترمذي في صفة النار, وابن جرير في تفسيره, من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: ﴿أحاط بهم سرادقها﴾ قال: حائط من نار. قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية, حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى, عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم) قال: فقيل له كيف ذلك ؟ فتلا هذه الاَية, أو قرأ هذه الاَية ﴿ناراً أحاط بهم سرادقها﴾ثم قال (والله لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة) وقوله ﴿وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه﴾ الاَية, قال ابن عباس: المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت, وقال مجاهد: هو كالدم والقيح. وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره. وقال آخرون: هو كل شيء أذيب. وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود, فلما انماع وأزبد, قال: هذا أشبه شيء بالمهل. وقال الضحاك: ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود, وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الاَخر, فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها, فهو أسود منتن غليظ حار, ولهذا قال: ﴿يشوي الوجوه﴾ أي من حره, إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء كالمهل ـ قال ـ كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه) وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث, عن دراج به, ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين, وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا, قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب, عن ابن لهيعة, عن دراج, والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد: عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بسر, عن أبي أمامة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ويسقى من ماء صديد يتجرعه﴾, قال: (يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه, يقول الله تعالى: ﴿وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب). وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا, فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها, فاجتثت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم, لعرف جلود وجوههم فيها, ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون, فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره, فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود, ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة ﴿بئس الشراب﴾ أي بئس هذا الشراب, كما قال في الاَية الأخرى ﴿وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم﴾ وقال تعالى: ﴿وتسقى من عين آنية﴾ أي حارة, كما قال تعالى: ﴿وبين حميم آن﴾ ﴿وساءت مرتفقا﴾ أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق, كما قال في الاَية الاَخرى ﴿إنها ساءت مستقراً ومقاما﴾.
﴿ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً 
لما ذكر تعالى حال الأشقياء, ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن, والعدن: الإقامة, ﴿تجري من تحتهم الأنهار﴾ أي من تحت غرفهم ومنازلهم, قال فرعون ﴿وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾ الاَية, ﴿ويحلون﴾ أي من الحلية ﴿فيهامن أساور من ذهب﴾ وقال في المكان الاَخر ﴿ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير﴾ وفصله ههنا, فقال ﴿ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق﴾ فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها. وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: ﴿متكئين فيها على الأرائك﴾ الاتكاء قيل الاضطجاع, وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد ههنا, ومنه الحديث الصحيح (أما أنا فلا آكل متكئاً﴾, فيه القولان: والأرائك جمع أريكة, وهي السرير تحت الحجلة, والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناة, والله أعلم. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة ﴿على الأرائك﴾ قال: هي الحجال, قال معمر وقال غيره: السرر في الحجال.
وقوله: ﴿نعم الثواب وحسنتت مرتفقا﴾ أي نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم وحسنت مرتفقاً, أي حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار ﴿بئس الشراب وساءت مرتفقا﴾ وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: ﴿إنها ساءت مستقراً ومقاما﴾, ثم ذكر صفات المؤمنين, فقال ﴿أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاما﴾.
﴿ وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً وَفَجّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـَذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىَ رَبّي لأجِدَنّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً 
يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين, وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم, فضرب لهم مثلاً برجلين جعل الله لأحدهما جنتين, أي بستانتين من أعناب, محفوفتين بالنخيل, المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزورع, وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة, ولهذا قال: ﴿كلتا الجنتين آتت أكلها﴾ أي أخرجت ثمرها, ﴿ولم تظلم منه شيئا﴾ أي ولم تنقص منه شيئاً, ﴿وفجرنا خلالهما نهرا﴾ أي والأنهار متفرقة فيهما ههنا وههنا, ﴿وكان له ثمر﴾ قيل: المراد به المال, روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: الثمار, وهو أظهر ههنا ويؤيده القراءة الأخرى ﴿وكان له ثمر﴾ بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب. وقرأ آخرون ثمر بفتح الثاء والميم, فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره, أي يجادله, ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس ﴿أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا﴾ أي أكثر خدماً وحشماً وولداً, قال قتادة: تلك والله أمنية الفاجر, كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: ﴿ودخل جنته وهو ظالم لنفسه﴾ أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد ﴿قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا﴾ وذلك اغتراراً منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار, والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها, ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف, ذلك لقلة عقله, وضعف يقينه بالله, وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها, وكفره بالاَخرة, ولهذا قال: ﴿وما أظن الساعة قائمة﴾ أي كائنة ﴿ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا﴾ أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي, ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا, كما قال في الاَية الأخرى ﴿ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى﴾ وقال ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا﴾ أي في الدار الاَخرة تألى على الله عز وجل. وكان سبب نزولها في العاص بن وائل, كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله, وبه الثقة وعليه التكلان.
﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لّكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسَىَ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مّن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مّنَ السّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً 
يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن, واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار ﴿أكفرت بالذي خلقك من تراب﴾ الاَية, وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه, وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم, ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين, كما قال تعالى: ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ الاَية, أي كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية, كل أحد يعلمها من نفسه, فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً, ثم وجد وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات, لأنه بمثابته, فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه, وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء, ولهذا قال المؤمن ﴿لكنا هو الله ربي﴾ أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية, ﴿ولا أشرك بربي أحدا﴾ أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: ﴿ولولا إذ دخلت جنتك ما شاء الله, لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولدا﴾ هذا تحضيض وحث على ذلك, أي هلا إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها, حمدت الله ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك, وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله, ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده, فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله, وهذا مأخوذ من هذه الاَية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع, أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا جراح بن مخلد, حدثنا عمر بن يونس, حدثنا عيسى بن عون, حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد, فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله, فيرى فيه آفة دون الموت) وكان يتأول هذه الاَية ﴿ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله﴾ قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة وحجاج, حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا قوة إلا بالله) تفرد به أحمد. وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله) وقال الإمام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى, حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش ؟) قال: قلت نعم فداك أبي وأمي. قال: (أن تقول لا قوة إلا بالله) قال أبو بلج: وأحسب أنه قال فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم) قال فقلت لعمرو: قال أبو بلج: قال عمرو: قلت لأبي هريرة لا حول ولا قوة إلا بالله, فقال: لا إنها في سورة الكهف ﴿ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله﴾.
وقوله: ﴿فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك﴾ أي في الدار الاَخرة ﴿ويرسل عليها﴾ أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى ﴿حسباناً من السماء﴾ قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومالك عن الزهري: أي عذاباً من السماء, والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها, ولهذا قال: ﴿فتصبح صعيداً زلقا﴾ أي بلقاً تراباً أملس لا يثبت فيه قدم, وقال ابن عباس: كالجرز الذي لا ينبت شيئاً وقوله: ﴿أو يصبح ماؤها غورا﴾ أي غائراً في الأرض, وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض, فالغائر يطلب أسفلها, كما قال تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يتأتيكم بماء معين﴾ أي جار وسائح, وقال ههنا: ﴿أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلبا﴾ والغور مصدر بمعنى غائر, وهو أبلغ منه, كما قال الشاعر:
تظل جياده نوحاً عليه تقلده أعنتها صفوف
بمعنى نائحات عليه.
﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً 
يقول تعالى: ﴿وأحيط بثمره﴾ بأمواله أو بثماره على القول الاَخر, والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وأَلْهَته عن الله عز وجل ﴿فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها﴾ وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها ﴿ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً * ولم تكن له فئة﴾ أي عشيرة أو ولد, كما افتخر بهم واستعز ﴿ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً * هنالك الولاية لله الحق﴾ اختلف القراء ههنا فمنهم من يقف على قوله: ﴿وما كان منتصراً هنالك﴾ أي في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله, فلا منقذ له منه, ويبتدىء بقوله: ﴿الولاية لله الحق﴾ ومنهم من يقف على ﴿وما كان منتصرا﴾ يبتدىء بقوله: ﴿هنالك الولاية لله الحق﴾ ثم اختلفوا في قراءة الولاية, فمنهم من فتح الواو من الولاية, فيكون المعنى هنالك الموالاة لله, أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب, كقوله: ﴿فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين﴾ وكقوله إخباراً عن فرعون: ﴿حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلاَن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾ ومنهم من كسر الواو من الولاية, أي هنالك الحكم لله الحق, ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية, كقوله تعالى: ﴿الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيرا﴾ ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عز وجل, كقوله ﴿ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق﴾ الاَية, ولهذا قال تعالى: ﴿هو خير ثوابا﴾ أي جزاء ﴿وخير عقبا﴾ أي الأعمال التي تكون لله عز وجل, ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مّثَلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً 
يقول تعالى: ﴿واضرب﴾ يا محمد للناس ﴿مثل الحياة الدنيا﴾ في زوالها وفنائها وانقضائها ﴿كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض﴾ أي ما فيها من الحب, فشب وحسن, وعلاه الزهر والنور والنضرة, ثم بعد هذا كله ﴿أصبح هشيما﴾ يابساً ﴿تذروه الرياح﴾ أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال, ﴿وكان الله على كل شيء مقتددرا﴾ أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال, وكثيراً ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل, كما قال تعالى في سورة يونس ﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام﴾ الاَية, وقال في الزمر: ﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به رزعاً مختلفاً ألوانه﴾ الاَية, وقال في سورة الحديد ﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهووزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته﴾ الاَية, وفي الحديث الصحيح (الدنيا خضرة حلوة) وقوله ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ كقوله: ﴿زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب﴾ الاَية, وقال تعالى: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم﴾ أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم, والجمع لهم, والشفقة المفرطة عليهم, ولهذا قال: ﴿والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا﴾.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات الصلوات الخمس. وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: الباقيات الصالحات سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن الباقيات الصالحات ما هي ؟ فقال: هي لا إله إلا الله, وسبحان الله, والحمد لله, والله أكبر,ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, رواه الإمام أحمد, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري, حدثنا حيوة, حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه, فجاءه المؤذن, فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مد, فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا, ثم قال: (من توضأ وضوئي هذا, ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح: ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر, ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر, ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب, ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته, ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء, وهي الحسنات يذهبن السيئات) قالوا هذه الحسنات, فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال لا إله إلا الله, وسبحان الله, والحمد لله والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, تفرد به.
وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: الباقيات الصالحات: سبحان الله والحمد لله,ولا إله إلا الله, والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله, وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات, فقلت: الصلاة والصيام, فقال لم تصب, فقلت الزكاة والحج, فقال: لم تصب, ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله,ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع بن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات. قال: لا إله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, قال ابن جريج وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: الباقيات الصالحات: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: ﴿والباقيات الصالحات﴾ قال: لا إله إلا الله, والله أكبر, والحمد لله, وسبحان الله, هن الباقيات الصالحات, قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار, عن أبي نصر التمار عن عبد العزيز بن مسلم, عن محمد بن عجلان سعيد المقبري عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, هن الباقيات الصالحات) قال: وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استكثروا من الباقيات الصالحات) قيل: وما هن يا رسول الله قال(الملة) قيل: وما هي يا رسول الله ؟ قال (التكبير, والتهليل, والتسبيح, والحمد لله, ولا حول ولا قوة إلا بالله) وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به.
قال ابن وهب: أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة, فقال: قل له القني عند زاوية القبر, فإن لي إليك حاجة, قال: فالتقيا فسلم أحدهما على الاَخر, ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات ؟ فقال: لا إله إلا الله والله أكبر, وسبحان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, فقال له سالم: متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ قال: ما زلت أجعلها, قال: فراجعه مرتين أو ثلاثاً فلم ينزع, قال: فأثبت ؟ قال سالم: أجل فأثبت, فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام, فقال: يا جبريل من هذا الذي معك ؟ فقال: محمد, فرحب بي وسهل, ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة, فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة, فقلت: وما غراس الجنة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله).
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام, حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير, قال: خرجعلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء, فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء, ثم قال: (أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون, فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم, فليس مني ولست منه, ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم, فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, هن الباقيات الصالحات).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبان, حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام, عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده ـ وقال ـ بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقناً بهن دخل الجنة: يؤمن بالله واليوم الاَخر, وبالجنة والنار, وبالبعث بعد الموت, وبالحساب).
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية, قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر, فنزل منزلاً فقال لغلامه: ائتنا بالشفرة نعبث بها, فأنكرت عليه, فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه, فلاتحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك, وأسألك قلباً سليماً, وأسألك لساناً صادقاً, وأسألك من خير ما تعلم, وأعوذ بك من شر ما تعلم, وأستغفرك لما تعلم, إنك أنت علام الغيوب) ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد بنحوه.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية, حدثنا محمد بن سعد العوفي, حدثني أبي, حدثنا عمي الحسين عن يونس بن نفيع الجدلي, عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف, فخرجت من أهلي من السراة غدوة, فأتيت منى عند العصر, فتصاعدت في الجبل: ثم هبطت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فأسلمت وعلمني ﴿قل هو الله أحد﴾ و ﴿إذا زلزلت﴾ وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, وقال: (هن الباقيات الصالحات) وبهذا الإسناد (من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه, ثم قال سبحان الله مائة مرة, والحمد لله مائة مرة, والله أكبر مائة مرة, ولا إله إلا الله مائة مرة, غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿والباقيات الصالحات﴾ قال: هي ذكر الله قول لا إله إلا الله, والله أكبر وسبحان الله, والحمد لله, وتبارك الله, ولاحول ولاقوة إلا بالله, وأستغفر الله, وصلى الله على رسول الله, والصيام, والصلاة, والحج, والصدقة, والعتق, والجهاد, والصلة, وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض. وقال العوفي عن ابن عباس: هي الكلام الطيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها, واختاره ابن جرير رحمه الله.
﴿ وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُواْ عَلَىَ رَبّكَ صَفّاً لّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لّن نّجْعَلَ لَكُمْ مّوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهَـَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً 
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام, كما قال تعالى: ﴿يوم تمور السماء موراً * وتسير الجبال سيرا﴾ أي تذهب من أماكنها وتزول, كما قال تعالى: ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب﴾ وقال تعالى: ﴿وتكون الجبال كالعهن المنفوش﴾ وقال: ﴿ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً* فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا﴾ يذكر تعالى أنه تذهب الجبال, وتتساوى المهاد, وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً, أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً, أي لا وادي ولا جبل, ولهذا قال تعالى: ﴿وترى الأرض بارزة﴾ أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد, ولا مكان يواري أحداً, بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة ﴿وترى الأرض بارزة﴾ لا خَمَر فيها ولا غيابة قال قتادة: لا بناء ولا شجر.
وقوله: ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾ وأي وجمعناهم الأولين منهم والاَخرين, فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً, كما قال: ﴿قل إن الأولين والاَخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم﴾ وقال: ﴿ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود﴾. وقوله: ﴿وعرضوا على ربك صفا﴾ يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً, كما قال تعالى: ﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا﴾ ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً, كما قال: ﴿وجاء ربك والملك صفاً صفا﴾ وقوله: ﴿لقد جئتمونا فُرَادى كما خلقناكم أول مرة﴾ هذا تقريع للمنكرين للمعاد, وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد, ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: ﴿بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا﴾ أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم, ولا أن هذا كائن.
وقوله: ﴿ووضع الكتاب﴾ أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير, والفتيل والقطمير, والصغير والكبير, ﴿فترى المجرمين مشفقين مما فيه﴾ أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ﴿ويقولون يا ويلتنا﴾ أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا ﴿ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر, إلا أحصاها, أي ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الاَية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين, نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجمعوا من وجد عوداً فليأت به, ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به) قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا, فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة, فإنها محصاة عليه).
وقوله: ﴿ووجدوا ما عملوا حاضرا﴾ أي من خير وشر, كما قال تعالى: ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا﴾ الاَية, وقال تعالى: ﴿ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر﴾ وقال تعالى: ﴿يوم تبلى السرائر﴾ أي تظهر المخبآت والضمائر. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به) أخرجاه في الصحيحين, وفي لفظ (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته, يقال هذه غدرة فلان بن فلان).
وقوله: ﴿ولا يظلم ربك أحدا﴾ أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً, ولا يظلم أحداً من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم, ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله, ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي, ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين, وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم, قال تعالى: ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها﴾ الاَية, وقال ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ـ إلى قوله ـ حاسبين﴾ والاَيات في هذا كثيرة وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم, فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً, فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام, فإذا عبد الله بن أنيس, فقلت للبواب: قل له جابر على الباب, فقال: ابن عبد الله ؟ قلت نعم, فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته, فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص, فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه, فقال سمعت رسول الله يقول: (يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرلاً بهم) قلت, وما بهما ؟ قال: ليس معهم شيء, ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك, أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه, ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة (قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهما ؟ قال: (بالحسنات والسيئات).
وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة) رواه عبد الله بن الإمام أحمد, وله شواهد من وجوه أخر, وقد ذكرناها عند قوله تعالى: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا﴾ وعند قوله تعالى: ﴿إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون﴾.
﴿ وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً 
يقول تعالى منبهاً بني آدم على عدواة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم, ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه, وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطافه رزقه وغذاه, ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله, فقال تعالى: ﴿وإذ قلنا للملائكة﴾ أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة ﴿اسجدوا لاَدم﴾ أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم, كما قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾. وقوله: ﴿فسجدوا إلا إبليس كان من الجن﴾ أي خانه أصله, فإنه خلق من مارج من نار, وأصل خلق الملائكة من نور, كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلقت الملائكة من نور, وخلق إبليس من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم), فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه, وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك, فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة, ونبه تعالى ههنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار, كما قال: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط, وإنه لأصل الجن, كما أن آدم عليه السلام أصل البشر, رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وقال الضحاك عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن, خلقوا من نار السموم من بين الملائكة, وكان اسمه الحارث, وكان خازناً من خزان الجنة, وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي, قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار, وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الضحاك أيضاً عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة, وكان خازناً على الجنان, وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض, وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفاً على أهل السماء, فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله, واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لاَدم ﴿فاستكبر وكان من الكافرين﴾.
قال ابن عباس قوله: ﴿كان من الجن﴾ أي من خزان الجنان, كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري وكوفي. وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: هو من خزان الجنة, وكان يدبر أمر السماء الدنيا, رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به. وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا, وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل, وكان من سكان الأرض, وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً, فذلك دعاه إلى الكبر, وكان من حي يسمون جناً.
وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر, أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن, وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض, فعصى, فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً, لعنه الله ممسوخاً, قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه, وإذا كانت في معصية فارجه, وعن سعيد بن جبير أنه قال: كان من الجنانين الذين يعملون في الجنة, وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف, وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها, والله أعلم بحال كثير منها, ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا, وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان, وقد وضع فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين, كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث, وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره, وموضوعه ومتروكه ومكذوبه, وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال, كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه, فرضي الله عنهم وأرضاهم, وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل.
وقوله: ﴿ففسق عن أمر ربه﴾ أي فخرج عن طاعة الله, فإن الفسق هو الخروج, يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها, وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت منه للعيث والفساد, ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه ﴿أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني﴾ الاَية, أي بدلاً عني, ولهذا قال: ﴿بئس للظالمين بدلا﴾ وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس ﴿وامتازوا اليوم أيها المجرمون ـ إلى قوله ـ أفلم تكونوا تعقلون﴾.
﴿ مّآ أَشْهَدتّهُمْ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً 
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً, ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض, ولا كانوا إذ ذاك موجودين, يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير, كما قال: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير* ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ الاَية, ولهذا قال: ﴿وما كنت متخذ المضلين عضدا﴾ قال مالك: أعواناً.
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً 
يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً ﴿نادوا شركائي الذين زعمتم﴾ أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه قال تعالى: ﴿ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون﴾ وقوله: ﴿فدعوهم فلم يستجيبوا لهم﴾ كما قال: ﴿وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم﴾ الاَية, وقال: ﴿ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له﴾ الاَيتين, وقال تعالى: ﴿واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا﴾ وقوله: ﴿وجعلنا بينهم موبقا﴾ قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكاً, وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة: موبقاً وادياً في جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز, حدثنا عبد الصمد, حدثنا يزيد بن درهم, سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: ﴿وجعلنا بينهم موبقا﴾ قال: واد في جهنم من قيح ودم, وقال الحسن البصري: موبقاً عداوة, والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك, ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره, والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا, وأنه يفرق بينهم وبينها في الاَخرة, فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الاَخر, بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن جعل الضمير في قوله بينهم عائداً إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به, فهو كقوله تعالى: ﴿ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون﴾ وقال ﴿يومئذ يصدعون﴾, وقال تعالى: ﴿وامتازوا اليوم أيها المجرمون﴾, وقال تعالى: ﴿ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم ـ إلى قوله ـ وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾.
وقوله: ﴿ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا﴾ أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك ﴿فإذا رأى المجرمون النار﴾ تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها, ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم, فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز. وقوله: ﴿ولم يجدوا عنها مصرفا﴾ أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة). وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة, كما لم يعمل في الدنيا, وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire