el bassaire

mercredi 30 octobre 2013

مادة فقه النكاح



مادة فقه النكاح
د. عبد الحكيم العجلان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها الإخوة طلاب العلم وطالبات العلم، أيها الإخوة الذين حضروا معنا في هذا المكان، أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولم تزل هذه المجالس تتوالى، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعل تواليها توالٍ للخير علينا وعليكم وعلى المسلمين أجمعين، وأن يجعلها بركة لنا في علمنا وعملنا وحياتنا وأخرانا، إن ربنا جواد كريم.
لم يبقَ إلا القليل من هذه المجموعة وهذه الدورة التي استغرقنا فيها جملة من المسائل والأبواب، وأتينا على مراجعة لبعض ما يتعلق بأحكام فقه الأسرة.
كما تعودنا -أيها الإخوة- أن تكن لنا في استهلالة الدرس وصية لطالب العلم لا ينفك عن الحاجة إليها، أما وقد كانت هذه آخر هذه الحِلَق في هذه الدورة -بإذن الله جل وعلا- فإنه مما يُناسب الحال أن نذكر بأن العلم إنما هو للمراجعة والمذاكرة، فلا ينبغي لطالب العلمأن تأتي عليه مسائل فيأخذها ثم لا يعبأ بها، أو يسمعها ثم لا يعود إليها، وإن من كانت هذه حاله فإنه لا يوشك ألا يحصل علمه وألا يصل إلى غاية، وألا يُوفق إلى شيءٍ يكون ساندًا به -بإذن الله جل وعلا- للعلم والعمل.
وإذا أردتم بيان ذلك بالدليل والمثال؛ فإن أعظم دليل على ذلك هو كتاب الله -جل وعلا- أما رأيتم في كتاب الله في مواطن كثيرة تُعاد بعض القصص ويُكرر ذكرها، ويُؤكَّد على الكلام عليها؟
للدلالة على أن العلم ليس بالابتداء والإنشاء فحسب؛ بل العلم بالابتداء وبالإعادة وبالتكرار وبالنظر في الأمر من هذه الجهة ومن تلك، ثم التأكيد على أن يكون الإنسان قد أتى على كل ما يتعلق بذلك الموطن، وفقه ما يتعلق بتلك المسائل.
ولأجل هذا كان كتاب الله -جل وعلا- أصلًا لنا في هذا الباب وطريقًا لنا في هذا الميدان والسبيل في أن العلم إنما هو بالمذاكرة والمراجعة وعدم النسيان له.
وإذا أردنا بيان ذلك أيضًا من السنة: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء ذلك في صفته أنه «كان يُعيد الحديث ثلاثًا»، يعني للتأكيد عليه، وحتى يُفهم على وجهه ويُبان له حقه.
لو أردنا أن ننظر -أيها الإخوة- إلى سيرة السلف على اختلاف مذاهبهم وأماكنهم وأزمنتهم؛ فإنك لا تجد عالمًا إلا وله ورد في العلم يراجعه ويستذكره، كتابًا كلما انتهى إلى آخره ابتدأ من أوله، وهذا له أمثلة كثيرة وأحاديث ليست بالبعيدة كل يعرفها.
ولو نظرت إلى شتى العلوم أو شتى مناحي الحياة فإنها لا تنفك عن الإعادة والاستذكار والنظر والمراجعة.
العلم ليس بالكثرة وليس بالحداثة والجدَّة، وإنما العلم بالتفقه والنظر والتأكد، وإتيان الأمور على تمامها وكمالها.
وإذا نظرت في كتب الفقهاء فإنك ستجد أن هذه المسألة التي ذكرها هذا الفقيه ذكرها أو أعادها ذلك الفقهي، ثم أعادها الذي يليه، ثم أعادها الثالث، ثم أعادها الخامس؛ ليتلقى المتأخر عن المتقدم، حتى أنك إذا وصلت إلى عصرنا هذا تجد أن هذه المسألة لربما أعيدت عند الفقهاء عشرين أو ثلاثين أو أربعين مرة، كل يأتي عليها إما مؤكدًا لما ذكر، أو مستدركًا، أو مدققًا فيها وزائدًا عليها تفريعا من الفروع، إلى غير ذلك من طرائق الفقهاء في التأليف والتصنيف والإعادة والتذكير.
فلأجل هذا ينبغي لكم -أيها الإخوة- أن تعلموا أن هذا العلم الذي درستموه، وهذه المسائل التي تلقيتموها إنما هي أمانة في قلوبكم، فعوها وراجعوها واستذكروها، والحمد لله الذي جعل الآن طرائق كثيرة لإعادة العلم من الرجوع إلى بعض الكتب، ومثل هذه الحلق مسجلة يمكن مراجعتها عن طريق مواقعها في الإنترنت ونحو ذلك، فلم يكن للإنسان عذر أو إشكال أو بعد أو صعوبة في مراجعة العلم واستذكاره.
ثم أيضًا إن من المسائل التي ألقيناها أو ذكرناها ما يكون ذكرنا لها اقتضابًا أو ذكرنا لها ناقصًا فيحتاج إلى تأكيد، ويحتاج إلى زيادة، ويحتاج إلى تكميل، وبعضها التبست عليك فتحتاج إلى أن تسأل بعض من عندك من أهل العلم أو أن تراجعه فيها إلى غير ذلك من الأشياء التي يحصل بها كمال العلم وتمامه.
المهم -أيها الإخوة- لتعلموا أنكم قد أخذتم من إرث نبينا -صلى الله عليه وسلم- فاحفظوه، واعلموا أن الإخلاص لابد أن يكون قائدًا لكم فتذكروه ليجتمع لكم التحصيل والإخلاص فتفوزوا -بإذن الله جل وعلا- بالخير في الدنيا والآخرة.
أسأل الله ألا تكونوا إلا ممن اصطفاهم الله -جل وعلا- تمحيصًا وإخلاصًا وصدقًا واجتهادًا، وألا يجعل حظ محدثكم من ذلك هو وصيتكم فحسب، فلنكن بإذن الله وتوفيقه وإعانته وتسديده على هذا الطريق جميعًا مخلصين لله -سبحانه وتعالى- مريدين لما عنده جل في علاه.
ولعلنا نرجع -بإذن الله جل وعلا- إلى ما نحن بصدده من الكلام على المسائل الفقهية التي معنا في هذا المقام -بإذن الله.
ونحن وعدناكم في المجلس الماضي أن حديثنا عن كتاب الرَّضاع.
والرَّضاع من رضَعَ يرتضع رضاعة، أو ارتضع يرتضع ارتضاعًا؛ كله بمعنًى واحد، ومصادر إما للثلاثي أو الرباعي من الأفعال.
وهو في الاصطلاح معلوم، وهو: إرضاع من لبن ثاب عن حمل لصبي دون الحولين -كما يعبر بذلك الفقهاء رحمهم الله تعالى.
والرَّضاع معتبر في الشرع، له أصل صحيح في الدلالة على أنه يحصل به المحرميَّة وتنتقل به الحرمة وتتعلق به أحكام تخصه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة -رضي الله عنها- قال: «يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النسب»، وذلك إذا تمَّت الشروط واكتملت.
وأيضًا لما دخل أبو القعيس على عائشة -رضي الله عنها- وكأنها خافت ألا يكون محرمًا لها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنه عمك من الرَّضاع»، فقرر ذلك لها وأثبت أن حصول المحرميَّة بينهما، فهذه الأحاديث من السنة الصحيحة تدل على هذا المعنى، والإجماع منعقد على ذلك في الجملة.
وقولنا "في الجملة" يعني أن الفقهاء على اختلاف مذاهبهم يتفقون على هذا الأصل وإن كانوا يختلفون في فروع بعض هذه المسائل هل تكون داخلة في الرَّضاع أو لا، وهل يتحقق بها الرَّضاع أم لا؟
إذن هذا ما يتعلق بالكلام على الرَّضاع، والحقيقة الكلام على الرَّضاع من المسائل التي يكثر فيها الكلام، ويكون تراجع الناس فيها كثيرًا، والاختلاف في ذلك ليس بالقليل.
ولأجل هذا تزيد الحاجة إلى أن نعي بعض هذه الأحكام أو نراجع هذه المسائل لتكون نافعة -بإذن الله سبحانه وتعالى.
إذا أردنا أن نعرف ما الرَّضاعة المحرِّمة؛ عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن الرَّضاع يتحصل بشرطين:
أولهما: أن تكون الرَّضاعة في العامين الأولين أو في سنِّ الرَّضاع.
ودليل ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما الرَّضاعة من المجاعة»، وفي الحديث الآخر: «إنما الرَّضاع ما فتق الأمعاء وكان في الحولين»، فدل هذا على أن محل الرَّضاع إنما يكون في الحولين، فلو أن شخصًا ارتضع وهو في الثالثة من عمره أو في الرابعة أو في الخامسة أو بعد ذلك فإنها لا تنفعه.
يُشكل على هذا قصة سالم مولى أبي حذيفة حينما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يدخل عليهم، فسأل أبو حذيفة النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: «أرضعيه تحرمي عليه».
قال أهل العلم: إن هذا خاص بسالم.
والدليل على ذلك أنه لما ذُكر ذلك لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قلن: "نخشى أن تكون تلك رخصة لسالم".
فكأن جميع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سوى عائشة كنَّ يذهبن إلى أن ذلك خاص بسالم.
ولأجل هذا كثرت الفتاوى -لا نقول: كثرت الفتاوى؛ حتى أيضًا لا نُكبِّر الأمر ونجعله في غير موضعه- لكن باعتبار الإعلام والتسويق للأشياء الشاذة والأقوال الغريبة سمعنا مَن يتكلم بهذه المسألة ويقول كأنها أصل صحيح، وكأنها شيء متفق عليه من أن المرأة إذا أرضعت شخصًا حرُمَت عليه، فقام سوق ذلك عند بعض مَن لا ينظر في الأحكام على وجهٍ صحيحٍ.
إذن هذا هو الشرط الأول: أن يكون في الحولين.
والشرط الثاني: أن تكون الرَّضعات ماذا؟ {أن تكون الرَّضعات متتالية}.
كيف متتالية؟ يعني في يوم أو يومين؟
{لا، يعني ما يكون فيها انقطاع}.
عندك شيء تعين أخاك؟
{أن يكون في الحولين، وان يكون خمس رضعات}.
أن تكون الرَّضعات خمس، أنت كنت قلتها لكنك انتقلت إلى غيرها.
الحقيقة أن تكون خمس رضعات، ووهذا هو أصح أقوال أهل العلم أنه لابد من خمس رضعات، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تحرم المصَّة ولا المصَّتان»، وفي رواية «ولا الإملاجة ولا الإملاجتان»، فبعضهم قال: إذن الثلاث تكفي.
لكن نقول: أن هذا دلالة من النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدم الاكتفاء باثنتين، لكن بمفهومه دل على الثلاث لما جاء حديث عائشة وهو حديث في الصحيح، فإنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن: ﴿عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ﴾، ثم نُسِخَ إلى خمسٍ، فبقي ذلك إلى أن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، أو كما قالت -رضي الله عنها وأرضاها.
فلم يزل الأمر حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدلَّ على أن الحكم استمرَّ أن الرَّضاعات التي تحرم إنما هي خمس رضعات.
وهنا مسألة مهمَّة جدًّا، وهي: كيف نحسب هذه الرَّضعات؟ كيف تكون الرَّضعة.
يعني: هل الرَّضعة هي مثلًا إذا أمسك الثَّدي ثم تركه؟ إذا مصَّ ثم أعرض؟ إذا نقلت المرأة الصبي من هذا الثَّدي إلى ذاك؟ هل يكون ذلك تُحسَب واحدة أو اثنتان أو نحوه؟
طبعًا من الفقهاء -رحمهم الله- من قال أن كل إمساكة وترك تعتبر رضعة بمسكاها في الأصل، لكن أحسن ما يُمكن أن يُقال في هذا وهو أقرب وأحوط أن يُقال: أن الرَّضعة هي التي حصل فيها إعراض من الطفل، بأن إذا مسك وترك ذلك، فلو عاد قريبًا فإنها تعتبر رضعة ثانية.
لكن لا يمكن أن نقول أن الرَّضعة إذا حصل في ذلك قطع للتنفس أو سعلة حصلت له أو نحو ذلك؛ فإنها لا تكون فاصلًا، وتعتبر رضعة واحدة.
فبناء على ذلك نقول إذن: الرَّضعة هي ما يتبادر أو ما يكون معروفًا من أنه أمسك الثدي ثم تركه أو أعرض عنه فإنها تكون رضعة، فإذا عُدَّ له خمس رضعات فإنه يُحكم بها وتتعلق به أحكام الرَّضاع.
لقائل أن يقول: أن هذا لا يتأتى، بمعنى أن كثير من الناس يقول: فلانة قد أرضعة فلانًا، لكن لا ندري كم أرضعته!
فنقول: بناء على ذلك أنه لا يتحقق ولا يتحصل التحريم، أو أحكام الرَّضاعة لا تنتقل إلى هذا المرتضع حتى يُتيقَّن بهذه الرَّضعات الخمس، فإذا حصل في ذلك شكٌّ فالأصل عدم الرَّضاع وعدم حصول المحرميَّة فيبقى أجنبيًّا عنهم، فلا ينتقل الإنسان إلى كون مرتضعًا له أحكام الرَّضاعة إلا إذا تُيقِّن حصول ذلك، وإلا فلا.
ولأجل هذا كثير من النساء تقول: والله أنا أظن أنني أرضعت فلانًا، أنا أذكر أنه التقم ثديي مرة أو مرتين.
طيب، تتأكدين أنها خمس؟
تقول: والله ما أقطع.
فنقول: مَن قالت نحوًا من هذا الكلام فإنها لا تعتبر مرضعًا ولا تتعلق بها أحكام الرَّضاع حتى يأتي شخص يشهد من أنها تمت الرَّضعات الخمس، وإلا فلا.
إذن هذه مسألة من أهم المسائل التي يجري فيها الخلاف والاستشكال.
عندك سؤال؟
تفضل..
{أحسن الله إليك، بالنسبة للشاهد أو الشاهدة على الرَّضاعة هل الأصل أن تكون رجلًا أم امرأة؟}.
طيب، نحن الحقيقة كنَّا يُمكن أن نؤجل هذه المسألة، لكن ما دام أنك سألت عنها فإن الشهادة في الرَّضاع تشهد به المرأة كما يشهد به الرجل، لكن لما كانت هذه المسائل من المسائل التي تحصل عند النساء كثيرًا فإنهنَّ هنَّ اللاتي يشهد بذلك غالبًا، ويكفي في ذلك امرأة إذا عرفت بعقلها، ولذلك لما كان عقبة بن الحارث تزوج أم يحيى بنت إيهاب، فجاءت امرأة سوداء قالت: قد أرضعتكما، فأعرض عنها.
فقالت: قد أرضعتكما.
فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله فقال: يا رسول الله كذا -كأنه معترض على هذا.
قال: «كيف وقد قالت!».
فحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهادتها وثبوت الرَّضاعة بينهما والرجوع عن ذلك النكاح الذي حصل بينهما.
إذن هذا من المسائل المهمة التي يتعلق بها هذا الباب.
المسألة التي بعد ذلك وهي الحقيقة من المسائل التي أيضًا ينبغي لنا أن نتنبه لها، وهم يقولون: أنه لابد -كما جرى في التعريف- أن يكون ذلك اللبن ثاب عن حملٍ، أما لو كانت امرأة لم تتزوج درَّ ثديها؛ فإنها لو أرضعت فإنها لا تنتشر بذلك المحرميَّة، وإن كانت هذه المسائل التي فيها شيء من الاختلاف، لكن هذا هو المشهور عند جمهور الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ولا نريد أن نقف مع هذه المسألة.
بعد ذلك إذا أردنا أن نقول: هذا الصبي قد ارتضع وهو في الحولين، وتمَّت له خمس رضعات؛ فما الذي يترتب على ذلك من الأحكام؟
نشطوا أذهانكم أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، وهنيئًا لكم أنكم تسموعنا وترونا ولا نراكم، وإلا لأحرجناكم بالسؤال كما نحرج الإخوة الذين حضروا أمامنا.
المحرميَّة تنتشر بين المرتضع ومَن أرضعه، ويكون كولدها النَّسَبي في أنه محرم لها، لا يجوز له النكاح بها، ويتعلق به أحخكام المحرم في السفر لو أراد أن يسافر بأمه من الرَّضاع أو أخته من الرَّضاع أو نحو ذلك، ويكون له صلة بهم، فأمُّه من الرَّضاع أم له، وجدته من الرَّضاع جدَّة، وأيضًا أخت أبيه من الرَّضاع عمَّته، وأخت أمِّه خالته، وهكذا..
لكن كيف نضبط هذه المسألة؟
المسألة هذه يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى: أن الرَّضاعة تنتشر في المرتضع وفي فروعه لا في أصوله ولا في حواشيه.
واضحة أو ليست بواضحة؟
أن المحرميَّة تنتشر في المرتضع وفي فيروعه لا في أصوله ولا في حواشيه.
بيان ذلك بالمثال:
الآن لو افترضنا على سبيل المثال أن محمدًا ووالده صالح وأمه فاطمة، هذا أبو وهذه أمه، لو افترضنا أن جاة لهم اسمها سارة وزوجها اسمه عبد الله، فهذا محمد أبوه النسبي صالح؛ فهو محمد بن صالح، وأمه فاطمة. أليس كذلك؟
وهذه -سارة- أرضعته، فيكون عبد الله أيش؟
يكون عبد الله أبوه من الرَّضاع، وسارة أمه من الرَّضاع، ومن لهم من الأولاد -خالد وعائشة- إخوان لمحمد، فهذا قول الفقهاء.
إذن تنتشر المحرميَّة في المرتضع -الذي هو محمد- فيكون عبد الله أبوه، وسارة أمه، وأخوات سارة خالات له، وإخوان عبد الله أعمامه. أليس كذلك؟
ووالد عبد الله يصير جده، وهكذا.
ولو افترضنا أن خالد له ابن اسمه إبراهيم، فهنا نقول: إبراهيم ابن أخيه من الرَّضاع. أليس كذلك؟
فلو أن لمحمد ابن اسمه سعد، فسعد أيضًا ما يكون بالنسبة له عبد الله؟
جدُّه من الرَّضاع. أليس كذلك؟
وحال عمه من الرَّضاع، لأنه أخو أبيه من الرَّضاع، وعائشة عمَّته من الرَّضاع، وهكذا.
واضح يا إخوان؟
لكن ما علاقة صالح بعبد الله وسارة؟
ليس لهم علاقة البتَّة، ولو كان له أيضًا أخ من النسب اسمه مثلًا زيد، فزيد هنا هل له علاقة بخال أو عائشة؟
ليس له علاقة البتَّة.
فإذن محمد تنتشر فيه المحرميَّة، كل هؤلاء انتقلوا إلى أن كانوا محارم له وأقارب له. أليس كذلك؟
وفي فروعيه إذا كان عنده بنت أو نحو ذلك.
فإذن هي تنتشر في المرتضع وفي فروعه لا في أصوله.
الأصول مَن هم؟
الأب، والأم، والجد، والجدة، وهكذا؛ فلا علاقة لهم.
ولا في حواشيه، الحواشي الذين هم أقارب أبيه.
فعل سبيل المثال: زيد، ولو كان له أخت أخرى مثلًا أو نحو ذلك؛ لا علاقة لهم بهؤلاء، فلو أراد محمد مثلًا أن يتزوج عائشة يُمكن؟
لا يُمكن أن يتزوج عائشة.
لماذا؟
لأنها أختها من الرَّضاع.
لكن لو أراد زيد أن يتزوج عائشة لا مانع من ذلك، لماذا؟
لأنه لا علاقة بين زيد وبين عائشة، فلو افترضنا أن زوج فاطمة توفي -صالح توفي- فأراد عبد الله أن يتزوج فاطمة، يجوز؟
{نعم يتزوجها}.
لماذا؟
{لأن فاطمة ليس لها دخل بعبد الله}.
لأن فاطمة ليس لها علاقة بذلك.
قلنا: أن المحرميَّة تنتشر في المرتضع وفي فروعه، أما في أصوله وحواشيه لا علاقة لهم بهذا.
فبنلءً على هذا نقول: من هنا انتشرت المحرميَّة، أما هنا -حواشيه، إخوانه- فلا علاقة لهم، فبناء على ذلك لو أراد عبد الله أن يتزوج فاطة لكون صالح طلقها أو مات عنها جاز ذلك.
والعكس بالعكس: لو أن عبد الله مات أو طلق سارة، فأراد صالح أن يتزوج سارة لجاز ذلك؛ بل لو أراد زيد أن يتزوج سارة أو يتزوج عائشة لم يكن عليه بذلك بأس ولا إشكال.
لماذا؟
لأنه لا علاقة لأصول المرتضع ولا لحواشيه فيمن أرضعه.
واضح يا أخوان؟
{شيخ -أحسن الله إليك- لو كان للأخ محمد أخت؛ هل تتزوج من عائلة عبد الله -خالد أو إبراهيم؟}.
لو كان مثلًا لنفرض أن لصالح وفاطمة: محمد وزيد وخلود مثلًا، فهذه بنت ثالثة لهم.
يقول: هل خلود يُمكن أن تتزوج بخالد؟
أنا أعيد عليك السؤال: هل بين خالد وخلود علاقة؟
{لا}.
هل بينهما علاقة؟
بينهما علاقة.
{أخوها محمد}.
العلاقة في الاسم، هذا خلود وهذا خالد!
أما العلاقة في الرَّضاع فليس بينهما علاقة.
قلنا: تنتشر في المرتضع وفروعه، هل خلود من فروع المرتضع؟
لا، ليس لها علاقة بهذا.
ولذلك انظر: لو أردنا أن نرى ذلك جليًّا؛ فهنا محمد انتقلت معه المحرميَّة فصار ابنًا لعبد الله وابنًا لسارة، صار أخًا لعائشة، صار عمًّا لإبراهيم.
ومثل ذلك: أبناؤه أو أبناء أبنائه -لو كان له أبناء أبناء- مثلًا رائد؛ فكل هؤلاء لهم علاقة بهذه العائلة.
أما صالح وفاطمة الذين هم أصول المرتضع -آباؤه، وأمهاته، وأجداده ونحوهم- وإخوانه وأخواته، وأبناء إخوانه، وأبناء أخواته؛ لا علاقة لهم بهذه الأسرة.
هل أرضعوه؟
لم يُرضعوه.
هل هم أبناء للمرتضع؟
ليسوا بأبناء للمرتضع، فبناء على ذلك لم يكن له في الحال رضاع، فبناء على ذلك لم يتعلق بهذا حكم.
هل هذا واضح الآن؟ واضح يا إخوان؟ ممكن أشغِّب عليكم بالأسئلة الصعبة؟
إذن الأمور واضحة، أظن -إن شاء الله- لا إشكال فيها، ودائمًا إذا أردت ألا تنسى فاجعلها كهذه الحال، لكن اكتب كتابة جيدة ليست مثل كتابتي، اجعلها شجرتين -عائلتين:
- عائلة المرتضع.
- وعائلة المرضع والمرضعة.
فبناء على ذلك تتبيَّن، ثم اجعل خطًّا تعرف به الحد، فمحمد الذي ارتضع هو حد ذلك ومَن تفرع منه، مَن جاء من أولاده أو بناته يدخلون في حكم هذه العائلة، فأبوه وأمه يكونا آباء له وآباء لأولاده.
وأبناء هذه العائلة -عائلة المرضعة- إخوانه، وأبناؤهم أبناء أخيه، وهكذت.
كما أن أصوله أيضًا يعتبرون أوصلًا لمحمدًا، وأصولًا لسعد، وإلى غير ذلك مما تقدم بيانه في هذه المسألة.
بعد ذلك نريد أن نقف مع مسألة وهي: هل يُطلب حصول الرَّضاع؟ يعني نفعل مثل ذلك؟ هل نحث على تحصيل مثل هذه الأمور أو لا؟
أيش تقول؟
{أحسن الله إليك، على حسب ما تقتضيه المصلحة}.
أولًا لابد أن نعرف أنه فيما مضى لا ينفك الناس من الحاجة إلى الرَّضاع.
لماذا؟
لأنه ليس كل النساء يدرُّ ثديها ويمكنها إرضاع ولدها، وقد يتعذر عليها ذلك من اوجهٍ كثيرة، فلم يبقَ إلا أن الناس بحاجة إلى ذلك، وهذا فيه بعض المصالح في بعض الأحوال إذا كان مثل هذه الأسرة يعيشون في مكان واحد، ويعرفون أنهم إذا كبروا لا يستغنوا على أن يكونوا مجتمعين، فبناء على ذلك يُرغب أن يكون بينهما رضاع، لأن وجود الرَّضاع بينهما داعٍ إلى عدم حصول الإشكال بعد ذلك، لأنه إذا لم يكن محرمًا فإنه سيفضي ذلك إلى ألا ينفرد يواحدة من أهل ذلك البيت أو ألا يدخل عليهم وقد يكون محتاجًا إلى هذا.
فإذا ظُنَّ حصول ذلك فإنه مما يؤمر به في حينه وهو في زمن الحولين وفي وقت الرَّضاع أن يُتَّخذ مثل هذا وتُستكمل شروط ذلك، فحتى يحصل للناس خير في هذا ويمتنعون من حصول الإشكال. هذا من جهة.
من جهة أخرى: الحقيقة أنه مما ينبغي أن يجعل الناس لهم إثباتًا للرضاع، فإن الأذهان تذهب، والناس يفنون، ولا يبقى إلا المكتوب، فبناء على هذا إذا أرضعت فلانة فلانًا أو فلانة؛ كتبت عندها أنها أرضعت فلانًا، فإذا كان كل عائلة عندهم ثبتٌ بمن حصل لهم الرَّضاع ومَن أرضعهم، ومَن المرتضع، وتمام الشروط؛ فإن هذا أنفى للإشكال، وأبعد لحصول الشكوك.
وكم من الناس الذين تنبعث الشكوك بعد حصول المصاهرة -الزواج ونحوه- فإذا تزوجوا جلسوا ثلاث سنوات، أربع سنوات؛ تفكرت امرأة من كبار السِّن وقالت: والله الآن تذكرت أني لما كنَّا في مكان كذا وكذا، أو لما سافرت أمه للحج أنها أبقته عندي وأنني أرضعته، فيُفضي ذلك إلى أن يُفرَّق ما بينهما ويُحكَم بأخوتهما، فلا تصح الزوجية بينهما.
وهذه مسائل لا يُقال من أنها لم تحصل أو لم تقع أو لم يجرِ لها حضور؛ بل هي واقعة ويكثر السؤال عنها وتترتب عليها أشياء كثيرة.
فلأجل هذا؛ وجود إثبات لمثل هذه الأمور نافٍ للإشكال، دافع لمثل هذه الحيرة أو الريبة التي قد تدخل على البيوت فتفسدها، سواء علمنا قطعًا أنها فعلًا صحيحة ثابتة، أو بينا في شكوك، يوم نقول: هي أمٌّ لنا وهذه أخته، ويوم يقولون: لا، يمكن ألا يكون الأمر كذلك؛ فيكون الناس في مثل هذا في حيص بيص، ويلحقهم في ذلك من الحرج الذي يجدونه في نفوسهم، فلا يعرفون هذا حلٌّ لهم أو هو محرم عليهم، حصلت المحرميَّة وانتشرت أحكامها أم أنه لم يحصل شيء من هذا، وبناء على ذلك يُمكنه نكاحه ويحل له الدخول عليها.
كل هذا من الأشياء التي تنتفي إذا وُجد مثل هذا الإثبات.
ثم أيضًا أن في الرَّضاعة الحقيقة مسألة أخرى وهي مفيدة: من جهة أن الناس الآن لا يفتؤون ألا يُمكنهم إرضاع أولادهم، ويصير كثير من الناس -خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة ولم تكن موجودة- إلى مثل هذه المجففات من حليبٍ صناعيٍّ إما أن يُستخلص من ألبان البقر أو غيرها أو نحو ذلك.
وهذا لا شك أنه مع ما فيه من المضرة والتفويت على الطفل من حسن نشاته وكمال إنبات عظمه ولحمه ما قد يكون فيه عليه مضرة.
بل لو قلت لكم -وهي فائدة لطيفة وكلمة جميلة- أن بعض الفقهاء -رحمه الله- يقول: أن إسقاء الأطفال من هذه الألبان تفيدهم البلاهة، ويلحقهم بذلك شيء من الغباء.
لقائل أن يقول: فما بال الكبار؟
لا شك أن كل أحد يلحقه من هذا نصيب، لكن شتَّان بين ما كان في زمن الصغر الذي هو انفتاق الأمعاء وانفتاق الأذهان ونشأتها، فإن ذلك سيكون بمثابة الأساس، فهو أحوج إلى ما يكون سببًا لحصول النفع فيه، حصول القوة له ونحو ذلك، لئلا يحصل ضده، أو لئلا يقع المكروه.
وهذا ذكره أهل العلم وله شاهد في الواقع، فإن شاهد الواقع: أن كل مَن ألف شيئًا لابد أن يتأثر به؛ بل ذكر أهل العلم -وهذا في الأحاديث ثابتة- أن «أهل الغنم أهل السكينة، وأهل الإبل أهل الجفاء»، إلى غير ذلك من الأحاديث الدَّالة على ذلك، وهذا بمجرد مساكنتها ورعيها والعمل معها، فكيف بأكلها؟
ولأجل هذا قال بعض أهل العلم في أنه لما طُلب من الإنسان أن يتوضأ إذا أكل من لحم الإبل لما فيها من قوَّة فتحتاج إلى شيءٍ من الماء الذي يُعقب الإنسان شيئًا من الهدوء والطمأنينة وينطفئ غضبه أو قوته أو جفاؤه أو غير ذلك، أو ما يقال من أنها فيها شطن وبعد ونحوه فيرده.
فإذا قيل مثل هذا فلا شك أنه مما أيضًا يؤكد لنا ما يتعلق بمثل هذا الأمر والاهتمام به.
هل يجوز للمرأة أن تأخذ أجرة على رضاعتها؟ إذا أرضعت امرأة هل يجوز لها أن تأخذ أجرة على رضاعها؟
بلا شك، وهذا نص كتاب الله -جل وعلا: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق 6، 7].
الآة أولها: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]، فدل على أن المرضعة تأخذ أجرة على ذلك ويكون هذا مما يجوز.
ولكن وإن كان هذا ليس الحقيقة لصيقًا ببحثنا وهو يبحثه الفقهاء في باب الإجارة، لكن أيضًا له متعلق عندنا.
كان فيما مضى كثير من النساء ترضع على طعامها وكسوتها، يعني أن ترضع ولهم على أن يطعموها ويكسوها، فهل يجوز ذلك أو لا؟
هو الحقيقة أنه من جهة القاعدة في الأجرة أن هذا فيه إشكال، من جهة ماذا؟
من جهة أن الأجرة غير معلومة قطعًا، لأن الناس يختلفون في كثرة الأكل وقِلَّته، والكسوة تختلف في هذا ونحوه، لكن قال أهل العلم من أن هذا جاء به النص ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 6]، ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233].
فقال أهل العلم: أخذ من هذا جواز أن تؤخذ الرَّضاعة على الطعام وعلى الكسوة، وأنه وإن كان ذلك في أصله مما يتباين ويختلف؛ لكن لما كان ذلك له أصل يمكن أن يرجع إليه فالنفقة والإطعام يُمكن أن يكون مثل إطعام الكفارات الذي يكفي الشخص في هذا نصف صاع أو ربع صاع على ما يكون من أهل العلم من التفريق بين البُرِّ وبين غيره.
والكسوة -كسوة الزوجة وكسوة غيرها- قد تكلموا عن ذلك في كتاب النفقات، فلما كان الأمر بهذه المثابة فإنهم جعلوه أمرًا لا بأس به من جهة اعتبار ذلك وصحته.
وعلى هذا قاسوا مسائل كثيرة من أنها لا تكون محدَّدة، لكن جوَّزوا ذلك بناء على هذه المسألة.
مثال ذلك: الآن -طبعًا نحن خرجنا إلى الإجارة ونحوها، لكن لا بأس لأن هذه من المسائل التي يحصل فيها شيء من الاستشكال ونحوه- الإنسان مثلًا في بعض الأماكن التي يدخل فيها للاستحمام، حينما يدخل في مثل هذه الأماكن هل يُعرَف كم سيأخذ من الماء؟ كم سيستهلك من المنظفات؟
إذن هذا مقابل ماذا؟ فيه شيء من الجهالة، فالأصل ما دام أن فيه جهالة فإنه لا يجوز، كلن جوَّزوا ذلك على سبيل التسهيل، وأنه يمكن أن يكون له مرجع، وقاسوه على المرضع في رضاعتها.
وأعظم من ذلك وهو الذي يحتاج الناس إليه كثيرًا: مثل مسألة الآن ما يسمى بـ "البوفيه المفتوح"، هل يكون في جائزًا للإنسان دخوله؟ أن تدفع ثمانين ريالًا -إذا كان عندنا في السعودية- أو مئة جنيه -مثلًا إذا كان في مصر- أو مثلًا مئة درهم -إذا كان في الإمارات أو في المغرب، أو عشرين دينارًا -في الأردن- ثم ماذا يأكل؟
قد يدخل واحد ويأكل شيئًا يسيرًا، وقد يأتي آخر ويأكل أكل خمسة أشخاص!
فهذا الحقيقة من المسائل التي فيها شيء من الإشكال وفيها الجهالة، هل يُمكن قياسها على الرَّضاع؟
بعضهم يقول: لا، لا يمكن.
لماذا؟
لأن مسألة الرَّضاع لها أصل يُرجع إليه، أما هذه فلا أصل لها يُرجع إليه.
وبعضهم يقول أنه فيه تعاقد على الطعام وفيه إباحة، فكأن صاحب المطعم أباح له أن يأكل ما زاد وتسامح له في ذلك، فيكون إذن من الأشياء التي يدخلها شيء من المسامحة، فخفَّفوا في ذلك.
ووهي الحقيقة من الأمور التي لا ينفك أحد منا عن تعاطيها خاصة لو قلنا استغنى عنها في حضره لربما احتاج إليها في سفره، فكثير من الناس يحتاجون إلى ذلك، لكن هي فيها من جهة نظر الفقه والفقهاء وما جاء تقريره في الشريعة شيء من الإشكال.
على كل حال دار بنا الحديث هنا وهناك حتى أظن أنها قاربت هذه الحلقة على الانتهاء، فأحب قبل الفراغ والانتهاء من هذه الحلقة أن أوصيكم بتقوى الله -جل وعلا- وأن تؤدوا حق ما تعلمتموه بالمواصلة في العلم والبذل فيه، لأنه كما قرر فقهاء الشافعية ونقل ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه مَن تصدى للعلم فيوشك أن يجب عليه المواصلة فيه، ويكون ذلك بمثابة مَن دخل في الجهاد فإنه لا يجوز له أن يرجع إلا متحرفًا لقتال أو متحيِّزًا إلى فئة، فلما كان العلم بابًا من أبواب الجهاد؛ بل هو أعظمها فإنه قال بعضهم من أنه يجب على الإنسان المواصلة في هذا الباب للحاجة إلى ذلك الماسة مع كثرة الجهالات عند الناس، وكثرة الشهوات، وحصول الشبهات، وانتشار الشرور، فنحن بحاجة إلى أن يوجد في كل بلاد من بلاد المسلمين أهل علم، وطلبة له، ومنافحون عنه ينفون الشبه، وبيبينون الحقائق، ويدعون إلى الهدى، ويقربون الناس إلى الحق، ويبعدونهم عن الشرور.
فإن الإنسان ربما جعل الله -جل وعلا- له في هذا من الخير الكثير والبر الوفير، وأتاه الله -جل وعلا- من الأجور ما لم يتحصل له بنفسه ولا يعمله ولا بولده، لأن العلم له بركة وله امتداد، ولأجل ذلك جعله الله -جل وعلا- إرث الأنبياء والمرسلين.
وأبان الله -جل وعلا- في كتابه عن عظم الذين يضلون الناس بغير علم للدلالة على أهمية العلم، والذين يهدون الناس إلى الهدى، ويبينون لهم السنن، ويدعونهم إلى كتاب الله -جل وعلا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
ولا أُرى إلا أن مثل هذا الصرح وهذه الأكاديمية المباركة إلا بابًا من أبواب العلم وطريق إلى تحصيله، وإن كانت لا تنفك أن تكون فاتحة لطالب العلم الباب، وحاملة بيده إلى السعي فيه، وليست بنهاية ذلك؛ بل ينبغي لطالب العلم أن يبتدئ معها حتى إذا قوي عوده أن يتفرغ له، أن يهتم به، أن يشتد في ذلك، أن يُبادر إلى أن يرتفع درجة بعد أخرى، ومرتبة بعد ثانية، ومنزلة بعد التي قبلها؛ حتى يصل إلى الغاية المحمودة وأن يكون له شأن يُبين عن كتاب الله، وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم- فيكون خطيبًا في بلده، وداعيًا إلى الله -جل وعلا- وللهدى، أو مدرسًا في مسجده؛ إلى غير ذلك من الأشياء التي يفتحها الله -جل وعلا- على عباده.
ومن فتح على نفسه باب العلم وكان معه شيء من الإخلاص والتقى؛ فإن الله يبلغه هذه المنازل ويرفعه في هذه الدرجات ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282].
ولا يستقلنَّ أحد نفسه؛ إن كانت امرأة أو كان رجل، أو كان كبير أو كان صغير، ابن حزم ما تعلم إلا بعد خمس وعشرين سنة وصار علمًا من أعلام المسلمين مع ما فاته من بعض المسائل أو بعض الأصول عند العلماء وهكذا.
فينبغي لنا أن نجتهد جميعًا وأن نواصل في هذا الطريق، لا أقول إلا أن الوقت قد انتهى؛ لكنني أؤكد على أهمية مواصلتكم في العلم، وأن تعرفوا أن واجبًا عليكم الاهتمام به والتواصي عليه والبذل فيه، وتحمل الصعاب من أجله، وأن نعرف لأهل الحق ولأهل الفضل فضلهم، وهذه الأكاديمية ومن قام عليها، ومن أعان في مسيرتها ممن بثَّ هذه الدروس، وأعان على هذه المجالس، وممن حضر من الإخوة الذين شجعونا على الإلقاء والتدريس والمراجعة في العلم، والإخوة الذين أيضًا ساهموا بتصوير وبإخراج ونحو ذلك؛ كلها أعمال أرجو أن الله -جل وعلا- لا يضيعها عنده، وأن يجعل أعمالنا وأعمالكم وأعمالهم خالصة.
ولا أُرى أيها المشاهدون إلا أنكم أيضًا حملتكم أنفسكم وقطعتم أشغالكم طلبًا لمرضات الله -جل وعلا- فلا ضيَّع الله أجركم، ولا أذهب مساعيكم.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يختم لنا ولكم بخير، وأن نلقاكم على خير، وأن نتزوَّد من العلم، وأن نوفَّق لتحصيله، وأن نُعانَ على أن نستمسك بسبيله، وألا يُظهر لنا زلة ولا انحرافًا ولا هفوة ولا عثرة ولا بلاءً ولا عيبًا، إن ربنا جواد كريم، وأن نلقاه على سنة وهدى، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائه، وأن يجعلنا ممن يحيى بالعلم ويُحيي العلم ويموت على ذلك، إن ربنا جواد كريم وبالإجابة جدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلامين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire