el bassaire

mercredi 30 octobre 2013

"نُزْهَةَ النَّظَرِ شَرْحُ نُخْبَةِ الْفِكَرِ"



"نُزْهَةَ النَّظَرِ شَرْحُ نُخْبَةِ الْفِكَرِ"
للدكتور مازن السرساوي

حلقةٍ جديدةٍ من دروس مصطلح الحديث، والتي نشرح فيها -بعون الله تعالى وكرمه ومَنِّه- للإمام الحافظ الكبير العلم شهاب الدِّين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى.
وهذا هو المجلسُ الثاني من مجالس هذا الكتاب، وقد ذكرنا في اللِّقاءِ الماضي أوَّلَ مُقَدِّمَةِ المُصَنِّف -رحمه الله تعالى- وسرنا معه عندما بدأ يذكر أهمَّ مُصَنَّفات هذا الفَنِّ الحديثِيِّ، ثمَّ بلغ بنا المُقامُ إلى أن بلغنا قولَه -رحمه الله تعالى:
(إِلى أَنْ جاءَ الحافِظُ الفقيهُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبو عَمْرٍو عُثْمانُ بنُ الصَّلاحِ عبدِ الرحمنِ الشَّهْرُزُوريُّ –نزيلُ دمشقَ- فجَمَعَ لما وُلِّيَ تدريسَ الحديثِ بالمدرَسَةِ الأشرفيَّةِ كتابَه المَشهورَ، فهَذَّبَ فنونَهُ، وأَملاهُ شيئًا بعدَ شيءٍ، فلهذا لَمْ يَحْصُلْ ترتيبُهُ على الوضعِ المُتناسِبِ، واعتنى بتَصَانِيف الخَطيبِ المُفَرَّقةِ: فجمَعَ شَتاتَ مقاصِدِها، وضمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائِدِها، فجمَعَ في كتابِه ما تَفَرَّقَ في غيرهِ، فلهذا عَكَفَ النَّاسُ عليهِ، وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصَى كم ناظِمٍ له ومُختَصِر، ومستَدْرِكٍ  عليهِ  ومُقْتَصِر، ومُعارِضٍ لهُ ومُنْتَصِر).
      بعد أن ذكر الإمامُ الحافظُ ابنُ حجر رحلة التَّصنيف في فنون علم الحديث من أول الرَّامَهُرْمُزِيِّ: وهو من أول مَن صنَّف كتابًا مُستقِلاًّ في الفنِّ، وبيَّنَّا أنَّه كان قبل الرَّامَهُرْمُزِيِّ محاولاتٌ كثيرةٌ ومصنفون تكلَّموا في هذا الفنِّ، لكن ليس على سبيل الاستقلال، وإنَّما كان على سبيل العَرَضِ؛ يعني يذكرونَه عَرَضًا في مُصَنَّفاتٍ أخرى لهم، كما فعل ذلك الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- لما ذكر بعضًا من أصول هذا الفنِّ في كتاب "الرِّسالة"، وكذلك فعل مسلمٌ في مُقَدِّمة صحيحه، وكذلك فعل أبو داودَ في رسالته لأهل مكة، والتِّرمذيُّ في عِلَلِه في آخر الجامع، وغيرهم ممن ذكرناه.
     وبعد أن ذكر الإمامُ الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله تعالى- بدايات التَّصنيف في علم المصطلح من أول الرَّامَهُرْمُزِيِّ -رحمه الله تعالى- إلى أن وصل إلى الخطيب البغداديِّ -رحمه الله تعالى- وذكر أنَّ الخطيبَ قلَّ فَنٌّ من الفنون إلا وصنَّف فيه، ثم ذكر مَن جاء بعد الخطيب ممن صنَّف أيضًا في فنٍّ من هذه الفنون على سبيل الاختصار أو الاستطراد.
    قال: (إِلى أَنْ جاءَ الحافِظُ الفقيهُ تقيُّ الدِّينِ أَبو عَمْرٍو عُثْمانُ بنُ الصَّلاحِ عبدِ الرحمنِ الشَّهْرُزُوريُّ –نزيلُ دمشقَ).
وأبو عمر ابن الصلاح أصلاً من بلدةٍ تُسَمَّى شَهْرُزُور، ونشأ وترعرع بدمشق، ودمشق معروفةٌ نسأل الله -عز وجل- أن يُجْلِي عنها الطَّاغيةَ الظالمَ، وأن يُحَرِّرَها وجميعَ ديار المسلمين من الطُّغاه، وُلِّيَ أبو عمرو الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- تدريسَ الحديثِ بالمدرسة الأشرفيَّة التي بناها السُّلطان الأشرف شعبان، وهذه المدرسة مدرسة حديثٍ، ومسألة مدارس الحديث كانت ظاهرةً منتشرةً في ديار الإسلام، وعلى إثرها انتشر هذا الفنُّ، ففنُّ مصطلح الحديث كان من أعظم ما ساعد على نشره وجعل له هذا الزَّخَمَ الضَّخمَ في طول تاريخ الإسلام كثرةُ المدارس الحديثيَّة، وهي مدارس يقوم عليها بعضُ الملوك، فترى الملكَ من الملوك أو الرجلَ المشهورَ يأتي فيُوقِفُ شيئًا من الدُّور على هذه المدارس ويُرَتِّب لها مُدَرِّسِين ومُعيدين وطلبةً، ويُجري عليها الجِرَايات، ويُنفق على كلِّ مَن فيها -وهذا أشبه ما يكون اليوم بالمدارس الدَّاخلية- ويجلس فيها الطُّلابُ وقتًا طويلاً معهم أساتذتُهم ومُدَرِّسُوهم، حتى تُخَرِّجَ العلماءَ والحُفَّاظَ والأكابرَ، وكان هذا منتشرًا جدًّا في رُبوع الإسلام، وهذا الذي صنع هذه النَّهضة الحديثيَّة الضَّخمة.
ولم تكن مدارسُ الحديث هي الموجودة وحدها في ذلك العصر، بل كانت هناك مدارس في شتى أنواع العلوم، كمدارس الفقه، وغيرها، حتى جرى من البركة والخير على الإسلام وأهله ما تراه أعينُ المُطالعين في سِيَرِ العلماء في هذه العصور النَّيرة.
فلما وُلِّي الإمامُ أبو عمرو ابن الصَّلاح التَّدريسَ في المدرسة الأشرفيَّة بدأ يُملي على طلابِها ما هَذَّبَه من فنون هذا الفنِّ، وقد نظر في كلِّ ما سبقه مما صُنِّف في هذا الباب؛ سواء ما صُنِّف على سبيل العَرَضِ -أي ما جاء في وسط كتبٍ أخرى كما ذكرنا في مرحلة ما قبل الرَّامَهُرْمُزِيِّ- أو ما كان مُستَقِلًّا في كتابٍ كما فعل الرَّامَهُرْمُزِيُّ ومن بعده الحاكم وأبو نُعيم والخطيب وهذه الطَّائفة -نظر ابن الصلاح في كلِّ هذا وبدأ يُلَخِّصُ هذا كلَّه، ويجمع شَتَاتَه، ويُهَذِّبَ فنونَه، ثمَّ أملاه شيئًا فشيئًا.
وقد كانت طريقةُ التَّدريس في الحديث وغيره من الفنون أن يجلس الشيخُ ويجلس أمامه الطُّلابُ ويُملي عليهم، فأملا أبو عمر ابن الصلاح كتابَه الشَّهير جدًّا الذي اشتهر تارةً باسم "المقدمة" وتارة بـ"علوم الحديث لابن الصلاح"، وهذا الكتابُ يُعَدُّ -بلا مبالغةٍ- هو أشهر كتب الفنِّ على الإطلاق.
      يقول الحافظ: (فهَذَّبَ فنونَه، وأَملاهُ شيئًا بعدَ شيءٍ): فهو لم يؤلف الكتابَ ويخرجه للناس مرَّةً واحدةً بعد تحريره ومراجعته وفعل ما يفعله كلُّ مُصَنِّف مُحَرِّر، إنَّما بدأ يُهَذِّب: أي يُجَهِّز لكلِّ درسٍ من الدروس، فمثلاً إذا كان سيُدَرِّسُ اليوم درس الصَّحيح فإنَّه يُجَهِّز ويُراجع ويقرأ، وبعدما يُجَهِّز ما يقوله يجلس مع الطلاب في اليوم التالي أو في نفس اليوم ويُملي عليهم ما جمعه وهذَّبه من فنون هذه المادة، وهكذا يفعل في اليوم الذي يليه، حتى استَتَبَّ عنده هذا الكتاب على وَفْقِ ما كان يُدَرِّسُ.
فكتاب "علوم الحديث" أو "المقدمة" لابن الصلاح إنَّما أُمْلِيَ على الطُّلابِ، فابن الصَّلاح لم يكن جَهَّزه كتابًا كاملاً من أوله إلى آخره، ولهذا ترى الكتابَ لم يَحْدُث ترتيبُه على الوضع المنطقيِّ؛ فيُؤخذ على ابن الصَّلاح في هذا الكتاب أنَّ التَّرتيبَ فيه شيءٌ من عدم المَنْطِقِيَّة أحيانًا، فلو كان ابنُ الصَّلاح ألَّفه ثم أعاد ترتيبَه في البيت ثم نشره للناس؛ لكان رُبَّما رتَّبه ترتيبًا آخر أفضل من ذلك، لكن هذا كله أمرٌ شَكْلِيٌّ، فإشكاليَّة التَّرتيب في كتاب ابن الصَّلاح وأن به أنواعًا كان ينبغي أن تُقَدَّم أو تُؤخر -هي قضيَّة شكليَّة بحتة، لا تكاد تُؤثِّر كثيرًا على الكتابِ وما فيه من فوائد.
  يقول: (فهَذَّبَ فنونَهُ، وأَملاهُ شيئًا بعدَ شيءٍ، فلهذا لَمْ يَحْصُلْ ترتيبُهُ على الوضعِ المُتناسِبِ): فلم يكن ترتيبه أحسنَ ما يمكن، بل لو كان -كما قلنا- ألَّفه قبل أن يُمليه على الناس لكان تصنيفه وترتيبُه أفضلَ من هذا، لكن -كما نُؤَكِّد- هذا الإشكال وهذا العيب في الكتاب لا يُؤَثِّر شيئًا على مادته العلميَّة ولا ما فيه من فوائد جعلت كلَّ العلماءِ من بعده يحتفلون به احتفالاً كبيرًا.
  قال: (وَاعْتَنَى بتصانيف الخَطيبِ -البغدادي- المُفَرَّقةِ): قلنا أنَّ الخطيبَ له في كلِّ فنٍّ من فنون علم الحديث -والتي يقرب عددُها من مئة فنٍّ- كتابٌ مُستقِلٌّ، فالحافظ أبو عمر ابن الصَّلاح جمع ما تَفَرَّق فيها من الفوائد ولخَّصها وجمع خُلاصتَها وصبَّها في هذا الكتاب، فكأنَّ مُطالعَ كتاب "معرفة علوم الحديث" أو "علوم الحديث" أو "المقدمة" لابن الصلاح يُطالع خلاصةَ وزُبْدَةَ ما في كُتب الخطيب البغداديِّ كلِّها وما سبقها من كتبِ هذا الفنِّ؛ ولهذا رُزِقَ هذا الكتابُ البركةَ، وكُتِبَ لصاحبه القَبُولُ.
يقول: (واعتنى بتصانيف الخَطيبِ المُفَرَّقةِ: فجمَعَ شَتاتَ مقاصِدِها، وضمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائِدِها، فجمَعَ في كتابِه ما تَفَرَّقَ في غيرهِ) فكان مَن يريد أن يخرج بالفائدة الموجودة في كتاب ابن الصلاح مُضْطَرًّا إلى قراءة كلِّ ما سبقه، فابن الصلاح وفَّر على الناسِ كلَّ هذه المُصَنَّفات في كتابٍ واحدٍ جمع فيه هذه الفوائد.
(فَلِهَذَا عَكَفَ النَّاسُ عَليهِ) صار شغلُ الناس من بعد ابن الصَّلاح إلى عصورٍ متأخِّرةٍ كتابَ ابن الصلاح، فلم يحتفل أحدٌ بكتب الخطيب البغداديِّ كاحتفاله بكتب ابن الصَّلاح، مع أنَّ كتاب ابن الصلاح يُعَدُّ فرعًا من فروع كتب الخطيب.
يقول: (فلهذا عَكَفَ النَّاسُ عليهِ، وسَارُوا بسَيْرِهِ) صاروا يسيرون على نظامه مع ما فيه من خللِ التَّرتيب هذا، لكن صار هذا الكتابُ هو الأصل، وهذا يكون في الغالب من بركة صحة النَّوايا؛ فإنَّ الرجلَ من أهل العلم إذا صحَّت نِيَّتُه وقصد وجه الله -عز وجل- ونحسب أنَّ كلَّ أهل العلم الكبار الذين نعرفهم وبلغتنا كتبُهم من أهل الإخلاصِ، نحسبهم كذلك ولا نُزَكِّيهم على الله –كُتِبَ له القَبُولُ في الأرض، والإخلاص كالإيمان يزيد وينقص، فبمقدار الإخلاص يكون مقدار ما يُكتب للرجل من القَبول في الأرض.
ولو أنَّ واحدًا من الناس ينظر إلى الأمر من زاويةٍ أخرى لكان يقول: إنَّ كتبَ الخطيب ينبغي أن تكون أشهرَ من كتاب ابن الصلاح، أو الكتب التي سبقت الخطيب ينبغي أن تكون أشهر. لكن يأتي كتاب ابن الصلاح يُلَخِّص ما عند هؤلاء ثم يكون هو الأشهر ويعكف الناس عليه.
      هناك مَلْمَحٌ طَرِيفٌ جدًّا أريدُ ألا يفوتنا التَّنبيهُ عليه في خِضَمِّ هذا الذي نتكلم فيه: الحافظ ابن حجر حينما ذكر كتاب ابن الصلاح أخذ عليه هذا النَّقد حيث قال: (فلهذا لَمْ يَحْصُلْ ترتيبُهُ على الوَضْعِ المُتَنَاسِبِ) فهذا نقدٌ للكتاب، لكنَّه لم يقف عند هذا النقد، ولم يجعله القضيَّةَ الأساسيَّة.
وذلك خلافًا لما يفعله بعضُ الناس الآن، وهذه نغمةٌ شاذَّةٌ صارت بين صفوف بعض طلبة العلم في هذا الزَّمان، فترى أحدَهم عندما يُمسك كتابًا لا يشغله ما في هذا الكتاب من فوائد يمكنه أن يستفيدها أو أن يشكر جهدَ مُصَنِّفه، لا ينظر لهذا وإنَّما يجلس ليَتَتَبَّع الخطأ، أين أخطأ مصنف الكتاب؟ ثمَّ إن ظَفِرَ بخطأ ولو كان يسيرًا جدًّا فإنه يُذِيعُه بين الناس ويقول للناس: احذروا هذا الكتابَ فإنَّ فيه غلطةً.
ولو تعامل الناسُ بهذا لما وُضِعَ على وجه الأرض كتابٌ قطُّ إلا كتاب الله، فإنَّ الشافعيَّ -رحمه الله تعالى- لما صنَّف الرِّسالةَ الشَّهيرةَ -كما لا يخفى على أحدٍ- قرأها مرَّاتٍ ومَرَّاتٍ وراجعها مرَّاتٍ عديدةً، وكل مرَّةٍ يرى فيها غلطًا، حتَّى يئس ومَلَّ وكَلَّ وقال: "أبى اللهُ أن يُتِمَّ إلا كتابَه". وأخرجها هكذا للناس.
فلا يوجد بين الناس مَن لا يُخطئ قطُّ، "مَن ذا الذي ما أساء قطُّ؟! ومَن له الحسنى فقط؟!"، لكن الناس والعلماء يتخابَرُون بقِلَّة الخطأ، فحينما نُقَيِّمُ أحدًا -كما يصنع العلماء- فإننا نقيس الخطأَ الواقعَ منه، وهذا على فرض وقوع الخطأ وصحَّ أنَّه خطأٌ؛ لأنَّ هناك كثيرٌ من الطلبة قد يُبادر فيُخَطِّئ بعضَ صنائع أهل العلم وهو الجاهل الذي لا يعرف وجهَه:
وَكَمْ مِن عَائِبٍ قولاً صَحِيحًا       وَآفتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
فأحيانًا يزعم بعضُ الناس أن أمرًا من الأمور خطأ، وأنَّ هذه المعلومة خاطئة، وأنَّ هذا الكلام غير صحيح. ويكون هذا المنتقد أو الطالب الذي لم يتأهل بَعْدُ هو المخطئ؛ لقِلَّة فهمه، وقِصَرِ نظره، وما وراء ذلك، والكلام الذي نقله العلماء هو الصَّحيح.
فحتَّى لو سلَّمنا أنَّ واحدًا من الناس وقف على خطأ لأهل العلم؛ لا ينبغي أن يطير به كلَّ مطارٍ إلا على سبيل النَّصيحة، نعم لنا أن ننشر الخطأَ فنقول: فلانٌ أخطأ. إذا تثبَّتنا أنَّه أخطأ، لكن لا ينبغي أن نُهدره لخطئه، لا ينبغي أن نُسقط الناسَ لخطأ أو خطأين أو ثلاثة أو أربعة ما وسعهم ذلك، أي ما دام ذلك عند أهل الصَّنْعَةِ مسموحًا به بقدر ما، فمَن يقومون بأفضل الصناعات اليوم عندهم قدرٌ مخصوصٌ للجودة، أي يُسمح بعددِ أخطاءٍ مُعَيَّنٍ وبنسبة خطأ ضئيلةٍ جدًّا، لكن يُسمح بها في الجملة، ولا يمكن أن نرى عملاً بشريًّا كاملاً ليس فيه خطأ.
فهذه القضيَّة من أهم ما يُعَطِّل على الطالب سبيله، فتجد الطالبَ من أول طريق الطلب يعمل على انتقاد الناس، فإذا انشغل الطالبُ بهذا ضاع ولا يُفلح قطُّ، فتصير قضية النقد هي عمله، فما دام قد وقف على خطأ لشيخٍ وخطأ لآخر ولثالث ولرابع؛ فيُصَدُّ قلبُه عن الطلب.
ولهذا كان بعضُ العلماءِ يقول: "اللَّهُمَّ استر عنِّي عيبَ شيخي". نعم قد يكون الشيخ مخطئًا لكن لا ينبغي أن أشغل نفسي بهذا الآن؛ لأن انشغالي بهذا سوف يُعَطِّلُني عن كثيرٍ من الطَّلب، وسيجعلني أُسْقِطُ كثيرًا من الهَيْبَةِ لأهل العلم.
فمسألة الأخطاء والتنبيه عليها والنَّظر فيها ونشرها والحديث عنها ينبغي أن تكون بضوابط كثيرة، وبأدبٍ خاصٍّ، لا ينبغي أن يهجم على هذا الأمر كلُّ الناس.
فهذا ملمحٌ أدبيٌّ أخذناه من صنيع الحافظ لما اعتذر عن ابن الصَّلاح أولاً وقال أن ابن الصلاح كان يُملي الكتابَ ولم يكن أعده وألفه قبل هذا، وإنما كان يُمْلِيه حسبما اتَّفق؛ ولهذا وقع ترتيبُه على وضعٍ غير مُتناسِبٍ، فقبل أن ينتقد الحافظُ ابنُ حجر صنيعَ ابن الصلاح بيَّن عذرَه أولاً ثم ذكر النقدَ بلفظٍ رشيقٍ، وبلفظٍ مُهَذَّبٍ لم يخض فيه في الرجل، ولم يُسقطه، ولم يُحَمِّل الأمرَ فوق ما يحتمله، وهذه عبرةٌ و نصيحةٌ وأدبٌ لطالب العلم.
قال: (فلا يُحْصى كم ناظِمٍ له) جاء العلماءُ بعد ابن الصلاح وأخذوا ينظمون هذا الكتاب، وصنعوا له الألفيات المشهورة، كالحافظ العراقيِّ، والإمامِ السُّيوطيِّ، وكثيرون من أهل العلم نظموا كتابَ ابن الصلاح هذا في ألفيَّاتٍ تُحفظ.
(ومُخْتَصِر) واختصره البعضُ كالإمام ابن دقيقٍ العيد، حيث اختصره في كتاب "الاقتراح" المشهور، واختصره من بعده الحافظُ الذَّهبيُّ تلميذه في "المُوقظة" التي هي اختصار الاختصار، وكالإمام النووي -رحمه الله- حيث اختصره في "الإرشاد"، واختصر "الإرشاد" في "التقريب"، وشرح "التقريب" السُّيوطيُّ في "التَّدريب".
فلا يُحصى المختصرون للكتاب، ونحن نقول فقط أشهر النماذج الآن، لكن لا يحصى كم ناظمٍ للكتاب وكم من مُخْتَصِر.
(ومُسْتَدْرِكٍ عليه) كالإمام البُلْقِيني في "محاسن الاصطلاح"، فقد أراد أن يستدرك ويحاول أن يُضَمِّن الكتابَ ما فات ابن الصلاح، فتمَّ له شيءٌ وفاته شيءٌ، وكذا الحافظُ العراقيُّ أيضًا في بعض تصانيفه كان يستدرك على ابن الصلاح ويُعَقِّبُ عليه.
واستدراكهم هذا لم يكن تنقيصًا للكتاب، ولكنَّه كان إضافةً، وهكذا كان أهلُ العلم يَبْنِي بعضُهم على بعضٍ.
وهذه الروح العلميَّة التي افتقدها أهلُ العصر أو كثيرٌ منهم خسَّرتنا كثيرًا.
فترى العالِمَ المُنْصِفَ من هؤلاء الجِلَّة الأكابر من أسلافنا إذا رأى عملاً جيدًا بنسبةٍ كبيرةٍ لا يشغل نفسَه بهدمه وبناء آخر، إنَّما يبني من حيث انتهى صاحبه.
ولهذا ترى علوم الشريعة -والحمد لله- قد بلغت في النُّضج مرحلةً عظيمةً، ولو وُكِلَ أمرُها إلى بعض أهل العصر لضاعت.
ولهذا نحن لم ننضج في العلوم النظريَّة والعلوم الكونيَّة والتَّجريبيَّة كنضجنا في العلوم الشَّرعيَّة؛ وذلك يرجع لتغير المنهج، فقد أصبح ديدنُ أهل عصرنا أنَّه كلُّما أراد واحدٌ أن يعمل شيئًا فإنَّه يقوم بهدم ما عمله مَن قبله أولاً، وبعدما يتأكد أنَّه قد تهدَّم ولم تعد له قائمةٌ فإنَّه يبدأ في البناء من جديدٍ؛ فيُهدر وقتَ مَن سبقه الذي أتعب نفسه في البناء أولاً؛ لأنَّه هدم ما قام به، ثم يتعب نفسَه في بناءٍ جديدٍ قد كان كثير منه موجودًا فيما سبق، ثم حينما يأتي لمرحلة الإبداع والإضافة يكون قد هَمَدَ أو كَلَّ أو مَلَّ أو انشغل أو ماتَ، فلا نكاد نتقدَّم كثيرًا.
لكن أسلافَنا -وهذا واضحٌ جدًّا في العلوم الشَّرعيَّة كلِّها كالفقه والأصول والحديث والتفسير- ترى من سَمْتِهم -وهذه نقطةٌ مهمَّةٌ جدًّا- أن الذي يأتي يبني على الذي سبق؛ فترى أولاً المتون، ثم يأتي عليها الشروح، ثم الحواشي، ثم المنظومات، ثم شرح المنظومات، ثم التَّعليقات والتَّعقيبات والإضافات والزِّيادات، فقد ترى الكتابَ الواحد قد وضع عليه خمسُ أو سِتُّ كتبٍ.
فلو أخذنا مثلاً كتاب ابن الصلاح الذي بين أيدينا الآن: فقد ذكرنا أن هناك مَن اختصره، وكان من الممكن أن يُؤَلِّفَ تصنيفًا مُستقلاً، لكنَّه آثر أن يبني على صنيع رجلٍ قد قَبِلَه الناسُ وأخذوا عنه، فبنى عليه، وأضاف إليه، وحسَّنه وزاده حسنًا على حسنه.
كما نظمه بعضُهم، واستدرك عليه بعضُهم، وأعاد بعضهم ترتيبَه، وعارضه بعضهم حيث أخذ عليه مآخذ ووضَّحها للطلبة وجعلها على هيئة لطائف وبحثها ونظر فيها، وانتصر بعضهم له فكتب ردًّا على هذا الشخص الذي انتقده.
فشُغِلُوا بالكتاب جدًّا، وهذا الشُّغل -كما قلت- يدل على أمرين:
أولاً: يدل على صحَّة قصد مُصَنِّفه -إن شاء الله- ولهذا كتب اللهُ له القَبولَ وجمع الناس عليه.
ثانيًا: يدل على أهميَّة الكتابِ؛ فإنَّ هؤلاء العلماء الذين تَعَاوَرُوا على هذا الكتاب لا يُجاملون أحدًا، فلو كان الكتابُ لا يصلح لكانوا من البداية جنَّبُوه وعملوا كتابًا غيرَه، أو انشغلوا بغيره.
فاعتناء هؤلاء الجِلَّة الأكابر على مدى هذه الدُّهور بهذا الكتاب دليلٌ على أنَّ هذا الكتابَ كتابٌ رائقٌ، وأنَّه كتابٌ يستحِقُّ هذا الجهدَ الكبيرَ من العناية.
يقول الحافظ ابن حجر –رحمه الله: (فَسَأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِّصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ؛ فلَخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ سمَّيْتُها "نُخْبَةَ الفِكَرِ في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر")
    سأل الحافظَ بعضُ إخوانه أن يُلَخِّص ما عند ابن الصلاح وما سبقه من علوم المصطلح، بأن يأتي بخلاصة عمره في هذا الفن، والحافظُ ابنُ حجر هو خاتمة الحُفَّاظ المُحَقِّقين على التَّحقيق، فهو رجلٌ لم يأتِ بعده مثلُه، وختم اللهُ به أهلَ هذا الشَّأن، مع عدم تنقيص مَن جاء بعده، لكن لم يبلغ أحدٌ شَأْوَهُ، ولا سار أحدٌ كسيره.
فالحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قد سأله بعضُ إخوانه أن يُلَخِّصَ لهم خلاصةَ هذا الفنِّ في أوراقٍ معدودةٍ؛ حتَّى يستطيعَ طالبُ العلم المبتدئ أو العالِمُ المُشَارِكُ –وهو غير المتخصص في الفن والذي يريد أن يتعرَّف بصورةٍ إجماليَّةٍ على علم المصطلح- بمجرد اطِّلاعه على هذا المتنِ اليسير الذي يُصَنِّفه الحافظُ أو هذا المختصر أن يحيط بهذا الفنِّ كلِّه ويعرف موضوعه، فإذا أراد بعد ذلك أن يتخصَّص ويُدَقِّق ويُفَصِّص فعليه أن يدخل في هذا الفنِّ ويُعطيه من وقته وجهده.
قال: (فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ) أوراق قليلة جدًّا كأربع أو خمس ورقات.
(سمَّيْتُها نُخْبَةَ الفِكَرِ في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر) الفِكَر: جمع فكرة، والنُّخَب: ما يُصْطَفَى.
فهو يريد أن يقول أن هذا العمل هو خلاصةُ الخلاصة: فهو خلاصة عقلي وذكائي وتَمَعُّنِي ودرسي ونظري وتفكيري واجتهادي في هذا الفن، وأن هذا الكلام ليس نقلاً أنقله من أي أحد هكذا تقليدًا، وإنَّما هذا أمرٌ تعبت عليه، وكَدَدْتُ فيه ذهني، وربطت بينه ربطًا قلَّما يتَّفق لغيري؛ فجاء هذا نُخْبَةٌ من نُخَبِ الأفكار. وهذا بالفعل معنًى دقيقٌ واسمٌ وافق مُسَمَّاه تمامًا، وقد وُفِّقَ الحافظُ لهذا الاسم؛ لأنَّه بالفعل دلَّ على المقصود كما سنرى الآن.
قال: (على ترتيبٍ ابْتَكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ) رتَّب الحافظُ هذا الكتابَ بالفعل ترتيبًا مبتكرًا لم يسبقه أحدٌ إلى هذا التَّرتيب، فهو ترتيبٌ منطقيٌّ مُتَسَلْسِلٌ بصورةٍ نادرةٍ، فتجد كلَّ أمرٍ فيه مرتبطٌ ببعضه على طريقة ما يُسَمِّيه أهلُ الكلام بـ"السَّبْرِ والتَّقْسِيمِ"، فقد جمع كلَّ أشتات الفنِّ ووضعها أمام عينيه، وبدأ ينظر إلى علاقة بعضها ببعضٍ؛ فجعل كلَّ قسمٍ مع بعضه، ثمَّ يُفَرِّعه فروعًا ويربطه بالقسم الأعلى والأكبر؛ فجاء الكتابُ وكأنه خريطةٌ يرتبط أوَّلُه بآخره، فترى الكتابَ كلَّه خريطةً، يأخذ كلُّ بابٍ بيد الباب الآخر، ثم يتفرَّع هذا إلى أبواب أخرى وأنواعٍ أقلُّ، ثم ينتقل بك إلى نظيره وشبيهه، فمَن يفهم هذا الكتابَ ويَهْضِمُه يُحيط علمًا بعلوم المصطلح كافَّةً ويعرف أوَّلَ العلمِ وآخره.
قال: (على ترتيبٍ ابْتَكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضَمَمْتُ إِليهِ مِن شَوَارِدِ الفرائِدِ، وزَوَائِدِ الفَوَائدِ.
فرَغِبَ إِليَّ ثانيًا أَنْ أَضَعَ عَليها شرحًا يَحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويُوَضِّحُ ما خَفِيَ على المُبْتَدِئ من ذلك، فأَجَبْتُه إِلى سُؤَالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلكَ المَسَالِكِ.
فبالغتُ في شَرْحِها في الإِيضاحِ والتَّوضِيحِ، ونَبَّهْتُ عَلى خَفايا زواياها؛ لأنَّ صاحِبَ البَيْتِ أَدْرَى بِما فيهِ.
وظَهَرَ لي أَنَّ إِيرادَهُ على صُورةِ البَسْطِ أليقُ، ودَمْجَها ضِمْنَ تَوضيحِها أوفَقُ، فسلكْتُ هذهِ الطَّريقَةَ القَليلةَ السَّالِكِ، فأقولُ طالِبًا مِنَ اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك)
يقول أنه بعدما عمل الكتاب المختصر المتن سأله بعضُ الناس أن يشرحه، لاسيما وأن بعضَ معاصري الحافظ بدأ يشرح النَّظْمَ فعلاً وقد أعجبه، فالحافظ ضَنَّ بهذا الكتابِ أن يشرحه غيرُه؛ لأنَّه صاحبُ البيت، وأهل مكة أدرى بشِعَابِها.
فقال: فأجبتُه إلى ذلك، ووضعتُ عليها شرحًا يَحُلُّ رموزَها، ويفتح كنوزَها، ويُوَضِّحُ ما خَفِيَ على المبتدئ من ذلك. فسلك -رحمه الله تعالى- في طريقة هذا الشَّرح مسلكًا صعبًا، لا يقوى عليه إلا الأكابرُ من أهل العلم المُتْقِنِين، ممن ملكوا ناصيةَ هذه العلوم.
وهذا المسلك هو: طريقة الدَّمْجِ والتَّضْمِينُ: فقد جاء بالنخبة وبدأ يشرحها ويُدمجها في الشَّرح، فتجد أنَّ النُّخْبَةَ كأنَّها والشرح جزءٌ واحدٌ لا تستطيع أن تُفَرِّقَهم من بعض، فهو لا يقول المتن ثم يبدأ في الشرح كما أفعل أنا الآن، وإنما يسرد سردًا وضع فيه أصلَ شرحه الذي هو المتن الأصلي، ثم أكمل وراءه الشَّرحَ، فتجد المتنَ الأصليَّ مُضَمَّن –مَدموج- في الشرح.
وهذه الطَّريقةُ تحتاج إلى مُكْنَةٍ وإلى سِدَادٍ وإلى تَصَرُّفٍ في القول، وإلى اطلاعٍ كبيرٍ على هذا الفن.
يقول: (وظَهَرَ لي أَنَّ إِيرادَهُ  على صُورةِ البَسْطِ -وهو أن يسلكه مع الشرح- أليقُ، ودَمْجَها ضِمْنَ تَوضيحِها أوفَقُ) أي تبقى كلُّها كجزءٍ واحدٍ؛ فلا يستطيع مَن يقرأها أن يُمَيِّزَ الشرحَ من المتن.
يقول: (فَسَلَكْتُ هذهِ الطَّريقَةَ القَليلةَ السَّالِكِ، فأقولُ طالِبًا مِن اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك: الخَبَرُ عندَ عُلَماءِ هذا الفَنِّ مُرادفٌ للحَديثِ) وهذه العبارة هي أول عبارات النُّخبة.
ثم شرح هذا مُضَمِّنًا فقال: (وقيلَ: الحَديثُ: ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والخَبَرُ: ما جاءَ عن غيِره. ومِنْ ثَمَّة قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شاكَلَها: الإخبارِيُّ -أو الأخباري كما جاء مضبوطًا في النُّسخة التي عليها خطُّ الحافظ ابن حجر المخطوطة بالفتح والكسر- ولمَن يشتغلُ بالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ: المُحَدِّثَ.
وقيل: بَيْنَهُما عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلَقٌ، فكلُّ حَديثٍ خبرٌ من غيرِ عَكْسٍ.
وعَبَّرَ هنا بالخبَرِ ليكونَ أشملَ).
بدأ الحافظُ -رحمه الله تعالى- النُّخْبَةَ بذكر تعريف الحديث أو الخبر؛ لأنَّه هو الأصلُ الذي تدور عليه كلُّ هذه العلوم، فهذه العلوم كلها اسمها "علوم الحديث"، فبدأ -رحمه الله تعالى- بتعريف الحديث أو الخبر لأنَّه -كما قلنا- هو الأصل الذي تدور عليه كلُّ هذه العلوم التي سيأتي ذكرُها.
1- فقال -رحمه الله تعالى: (الخَبَرُ عندَ عُلَماءِ هذا الفنِّ مرادفٌ للحَديثِ) المرادف من الألفاظ: هما اللَّفظان اللذان يُؤَدِّيان نفس المعنى، فيُرَادِفُه أي يُساوِيه في المعنى.
فيقول أنَّ الخبر مُرادفٌ للحديث، وهذا هو الراجح من كلام أهل العلم: أنَّ الخبرَ هو الحديثُ، يُساويه في المعنى ولا فرقَ بينهما؛ ولهذا قدَّم الحافظُ ابنُ حجر هذا القولَ لأنَّه القولُ الرَّاجحُ، فدلَّ ذلك على أنَّ هناك مَن يقول بخلاف ذلك.
2- هناك من أهل الحديث مَن يُفَرِّق بين الأخبار والأحاديث؛ فيجعل الخبرَ شيئًا والحديثَ شيئًا آخر.
وبالفعل هذا ما قاله الحافظُ حيث قال: (وقيلَ: الحَديثُ: ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والخَبَرُ ما جاءَ عن  غيِره) والتفريق خلافُ الرَّاجح.
وأُنَبِّه مرَّةً ثانيةً: الذين فرَّقوا بين الأحاديث والأخبار جعلوا الأحاديثَ هي ما كانت منسوبةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أي ما قيل فيها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فهذا يُسَمُّونه حديثًا، أمَّا ما كان منسوبًا للصحابة كأن يقال: قال أبو بكر، قال عمر. أو التابعين كأن يقال: قال الزهري، قال ابن المُسيب، قال عطاء. هذا يُسَمُّونه خبرٌ.
فمن فرقوا جعلوا الحديثَ ما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- والخبرَ ما جاء عن الصَّحابة والتَّابعين، وهذا قولٌ.
وعلى هذا القول ترى هؤلاء يقولون لمَن يشتغل بالأخبار والتَّواريخ: "أخباري". فمَن يشتغل بغير السُّنة -كأن يشتغل بالنُّقولات عن الصَّحابة وعن التَّابعين وعن مَن بعدهم من العلماء وغيرهم- يُسَمُّونه إخباري أو أخباري، نسبة للأخبار أو الإخبار، والإخبار هو المصدر، والأخبار جمع خبر.
ويُسَمُّون المشتغل بالحديثِ والسُّنة مُحَدِّث.
وهذا يدل على أنهم فرَّقوا بين الخبر والحديث، وهذا قول بعض أهل الفنِّ.
3- وقال آخرون أن بين الحديث والخبر عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، وذكر ذلك الحافظ فهو يقول: (فكلُّ حَديثٍ خبرٌ من غيرِ عَكْسٍ).
معنى العموم والخصوص المطلق:
معنى العموم والخصوص المطلق أن يأتي معنيان أحدهما جزءٌ من الآخر، فلو أخذنا مثالاً منضدة وفوقها كتاب، فإننا نجد أن الكتابَ يأخذ حيزًا من المِنْضَدَةِ، فهو مشتركٌ معها في جزءٍ منها، ولكن المنضدةَ أوسعُ منه، فيصحُّ لي أن أقول: بين الكتابِ والمِنْضَدَةِ عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، فالمِنْضَدَةُ أعمُّ من الكتاب، والكتابُ أخصُّ منها.
لكن يُشترط في هذا الأمر أن يكون المعنيان من جنسٍ واحدٍ، فهذا المثال الذي ذكرته هو فقط مثالٌ تقريبيٌّ.
ولو طبقنا هذا الفهم على الخبر والحديث سنجد أنَّهم يقولون أنَّ الخبر أعمُّ؛ وأنا أطلق الخبرَ على كلِّ خبرٍ، أي على كلِّ كلامٍ نُقِلَ عن أيِّ إنسانٍ، كما نقول: جاءنا الخبرُ الآتي، وأخبرنا فلانٌ من أصحابنا.
فيُطْلِق بعضُ العلماء مُسَمَّى الخبر على كلِّ الأخبار، سواء منها ما كان عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أو ما كان عن غيره من الصَّحابة أو التَّابعين أو أتباعهم، أو حتى العلماء أو مَن دونهم، ويجعلون الحديثَ مقتصرًا على كلام النبي -صلى الله عليه وسلم.
فطالما أننا قلنا أنَّ الخبرَ كلُّ ما أُخبر به عن أيِّ أحدٍ فلابدَّ أن يكون كلامُ النبي -صلى الله عليه وسلم- داخلاً فيه، فيصبح الحديثُ أخصَّ من الخبر، أي جزء من الخبر، والخبر أعمُّ من الحديث.
فهذا الذي يقول عنه العلماءُ: بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، فأحدهما عامٌّ يشمل الآخرَ، والآخرُ جزءٌ منه.
فعلى هذا فكلُّ حديثٍ خبرٌ؛ لأنَّ الحديثَ جزءٌ من الخبر على هذا المعنى، وليس العكس؛ فلا يصح أن تقول العكسَ كأن تقول: كلُّ خبرٍ حديثٌ. فهذا غير صحيح، فكلُّ حَديثٍ خبرٌ من غيرِ عَكْسٍ، وهذا قولٌ لبعض أهل العلم.
لكنَّ الراجح في المسألة هو ما قدَّمه الحافظُ من أنَّ الحديثَ هو الخبرُ ولا فرقَ، وأنَّهما مُترادفان؛ والدَّليل على ذلك أنَّ العلماءَ أطلقوا في تصرُّفاتهم مُسَمَّى الخبر على الحديث، فعُلم المصطلح نعم يُنَظِّم، لكن حينما تأتي لاستخدامات العلماء على أرض الواقع وتقرأ الكتب ترى العلماء في كلامهم وأفعالهم لا يُفَرِّقُون هذا التَّفريق ولا يَعْبَؤُونَ به، بل يذكرون الخبرَ ويقصدون به ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: "وجاء في الخبر"، لاسِيَّما الفقهاءُ منهم، حيث تجد الواحد منهم يقول: "وقد ورد في الخبر"، وهو يعني بذلك ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وترى المحدثين يقول الواحد منهم: "وفي حديث ابن المُسيب"، ويعني به ما جاء عن ابن المسيب التابعي. ويقول أيضًا: "وفي حديث عمر أنَّه كان يقول كذا"، ويقصد به ما جاء عن عمر نفسه، فهذا الذي نقله كلام صحابيٍّ موقوفٌ عليه.
فتصرُّفات العلماء على أرض الواقع لا تُفَرِّق بين الخبر والحديث، فكلاهما بمعنى واحدٍ فماذا يكون هذا المعنى؟
الحديث أو الخبر: هو ما أُضِيفَ أو ما نُسِبَ -بأيِّ لفظٍ تُعَبِّر- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ، أو إلى الصَّحابة، أو إلى التَّابعين.
فهذا يشمل كلَّ هؤلاء، وهذا هو الخبر وهو نفسه الحديث على الراجح كما قلنا، ومَن أراد التَّفصيل والتَّفريق فلينظر كلامَ العلماءِ الباقي فيعرفه من باب العلم بالشيء.
{بالنسبة للموقوف: هل يندرج تحتَ الخبر أم تحت الحديث؟}
قلنا الخبر هو الحديث، فهما واحدٌ؛ والحديث أو الخبر الاثنان يشملان ثلاثةَ أقسامٍ: المرفوع الذي هو كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- والموقوف على الصَّحابة، والمقطوع على التَّابعين. فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الخبر وأقسام الحديث أيضًا، على القول بأنَّ الخبرَ والحديثَ شيءٌ واحدٌ ولا فرق بينهما.
أما لو أخذنا بالرأي الذي يفرق بينهما فسيكون ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط هو الحديث، وما جاء عن الصَّحابة والتَّابعين -أي الموقوف والمقطوع- هو الخبر. ولكن هذا غيرُ راجحٍ، والرَّاجحُ الأول الذي قلناه.
(فهو باعتبارِ وصولِهِ إِلينا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ: أي أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأنَّ طُرُقًا جمعُ طريقٍ، وفَعِيلٌ في الكَثْرَةِ يُجْمَعُ على فُعُلٍ –بضَمَّتينِ- وفي القلَّةِ على أَفْعُل.
والمرادُ بالطُّرُقِ  الأسانيدُ، والإِسنادُ حكايةُ طريقِ المَتْنِ).
قبل أن أتكلم على قسمة الحديث باعتبار طُرُق وصوله إلينا سأقف مع ما ذكره الحافظ -رحمه الله تعالى- من تعريف الإسناد؛ لكي ننتهي من التَّعاريف وندخل في علوم الحديث بالفعل.
يقول الحافظ أنَّ (الحديثَ باعتبارِ وصولِهِ إِلينا ينقسم إلى) هناك تقسيماتٌ للحديثِ كثيرةٌ، وكلُّ تقسيمٍ يُنْظَرُ له من ناحيةٍ ما، بحسب شيءٍ ما:
هناك تقسيمٌ بحسب القَبول والرَّدِّ، فتجد الحديثَ ينقسم إلى قسمين: مقبول ومردود.
وهناك قسمةٌ باعتبار كيفية وصوله إلينا، فمن هذه الحيثية -والتي نسميها الآن أقسام الحديث باعتبار وصوله إلينا- فإنَّ الحديثَ ينقسم إلى قسمين: المتواتر والآحاد.
وقبل أن نخوض فيهما يقول الحافظ -رحمه الله تعالى: (فهو باعتبارِ وصولِهِ إِلينا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ: أي أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأنَّ طُرُقًا جمعُ طريقٍ) هو هكذا يشرح كلامه.
(وفَعِيلٌ في الكَثْرَةِ يُجْمَعُ على فُعُلٍ –بضَمَّتينِ- وفي القلَّةِ على أَفْعُل). هذا شرحٌ صرفيٌّ ولغويٌّ لكلمة "طُرُق" و"طريق" وما يتعلق بها، والمرادُ بالطُّرُقِ هنا في كلامه الأسانيدُ.
ما الأسانيد؟
الأسانيد: جمع إسنادٍ، والإِسنادُ هو حكايةُ طريقِ المَتْنِ.
والحافظ ابنُ حجر رجلٌ مُحَرِّرٌ جدًّا، أي مُدَقِّقٌ مُتَفَهِّمٌ جدًّا لأصول هذا الفنِّ، فقد اختار هنا في تعريف الإسناد التَّعريفَ اللائقَ الدَّقيقَ الذي لا يمكن لأحدٍ أن يعترض عليه بشيء.
بعض الطلبة إذا سألته عن الإسناد يقول: الإسناد هو سلسلة رواة الحديث، أو هو رجال الحديث. وهذا غلطٌ؛ لأنَّ من شرط التَّعريف أن يكون شاملاً جامعًا مانعًا، فأي تعريفٍ لابدَّ أن يكونَ جامعًا لكل أفراد المُعَرَّف، ويمنع دخولَ غيرهم فيه، فإذا عرَّفتَ أمرًا فلابدَّ أن تعرِّفه بما ينطبق عليه بالضَّبط، بحيث لا يخرج منه شيءٌ ولا يدخل معه غيرُه.
فلو قولنا بتعريف بعض الطلبة وبعض المشايخ أنَّ إسنادَ الحديث هو: سلسة الرواة. فهذا تعريف ناقص؛ لأنَّ الإسنادَ ليس مجرد السِّلسلة، بل نجد أشياء في الإسناد تربط هؤلاء الرجال ببعض، فحينما أقول مثلاً في أول حديثٍ في البخاريِّ أو في غيره أقول: "قال مالك: حدثنا الزهري قال: حدثنا أنس"، هذا إسنادٌ، فهل هذا الإسناد فيه فقط مالك والزهري وأنس؟ أم أن فيه أشياء أخرى؟
بالتأكيد فيه أشياء أخرى وهي الرَّوابط التي تربط بين هؤلاء الرواة، والتي هي أدوات التَّحديث، فمالك قال: "حدثنا" أليست حدثنا هذه جزء من الإسناد؟ نعم هي جزء من الإسناد.
فتعريف الإسناد بأنَّه سلسلة الرواة تعريفٌ ناقصٌ.
وتعريفه بأنَّه رجال الحديث أنقص منه؛ لأن كلمة "سلسلة" التي وردت في التعريف السابق يمكن أن يُستفاد منها أن هناك ترابط.
والصَّحيح أن يقال أنَّ الإسناد: هو حكايةُ طريقِ المَتْنِ.
فحينما أُسْنِدُ حديثًا فإنني أحكي الطريق التي وصل به الحديث فأقول: "حدثني فلان قال: حدثه فلان قال: حدثه فلان أنَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- أخبره بكذا" فأنا أحكي الطريق الذي جاءنا منه الحديث، فهذه الحكاية تتضمن:
1- ذكر الرُّواة الذين هم حَمَلَةُ الإسناد.
2- أدوات التَّحديث التي هي الرَّوابط بين الرُّواة.
3- عزو الحديثِ إلى قائله سواء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابي أو التابعي.
فالتَّعريف الأدقُّ والأفضل للإسناد هو أن يقال: "الإسناد هو حكاية طريق المتن". وهذه الحكاية يدخل فيها الرجال وأدوات التَّحديث التي هي الرَّوابط التي بين الرجال، وكذلك العزو إلى القائل.
وأدوات التَّحديث مثل: "حدثنا، وأخبرنا، وعن" وما شابه ذلك.
فما تعريف المتن؟
المتن: هو ما ينتهي إليه السَّندُ من الكلام.
فالمتن هو الكلام الذي يأتي بعد انتهاء السَّند، سواء انتهى السند عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكون المتنُ هنا هو كلام النبي –صلى الله عليه وسلم- وإمَّا أن يكون الكلام الذي يأتي بعد السند منسوبًا إلى أحد الصحابة؛ وهذا يُسَمَّى الموقوف ويكون هذا من كلام أحد الصحابة. وإمَّا أن يكون الكلام الذي يأتي بعد الإسناد منسوبًا لأحد التَّابعين؛ وهذا يُسَمُّونه المقطوع، وهذا سيأتي تفصيلُه بعد ذلك.
يقول الحافظ بن حجر: (فهو باعتبارِ وصولِهِ إِلينا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ: أي أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأنَّ طُرُقًا جمعُ طريقٍ، وفَعِيلٌ في الكَثْرَةِ يُجْمَعُ على فُعُلٍ –بضَمَّتينِ- وفي القلَّةِ على أَفْعُل.
والمرادُ بالطُّرُقِ  الأسانيدُ، والإِسنادُ حكايةُ طريقِ المَتْنِ.
وتلكَ الكثرَةُ أَحدُ شُروطِ التَّواتُرِ إِذا وَرَدَتْ بِلاَ حَصْرِ عَددٍ  مُعَيَّنٍ، بل تكونُ العادةُ قد أحالتْ تواطُؤَهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُه منهُم اتِّفاقًا مِن غيرِ قصدٍ.
فلا مَعْنى لِتَعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ، ومِنْهُم مَنْ عيَّنَهُ في الأربعةِ، وقيلَ: في الخمْسةِ. وقيل: في السَّبعةِ. وقيل: في العَشرةِ. وقيلَ: في الاثنَيْ عَشَر. وقيل: في الأربعينَ. وقيلَ: في السَّبعينَ. وقيلَ غيرُ ذلك. وتَمَسَّكَ كُلُّ قائلٍ بدليلٍ جاءَ فيه ذِكرُ ذلكَ العَدَدِ؛ فأفادَ العِلْمَ، وليسَ بلازِمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ لاحتمالِ الاخْتِصاصِ).
بدأ الحافظُ يتكلَّمُ عن المتواتر الذي هو ما نُقِلَ إلينا بطُرُقٍ كثيرةٍ، فأيُّ حديثٍ يأتينا بطُرُقٍ كثيرةٍ فمن المحتمل أن يكون متواترًا إذا ثبتت له هذه الشُّروط التي يتكلم عنها الحافظ الآن ويشرح بعضها:
أول شرط من شروط المتواتر يقول فيه الحافظ: (وتِلْكَ الكَثْرَةُ أَحدُ شُروطِ التَّواتُرِ)، فأول شرطٍ في الحديث المتواتر: أن يكون الحديثُ مَرْوِيًّا من طُرُقٍ كثيرةٍ.
كم طريق؟
ليس له عددٌ مُعَيَّنٌ، إنَّما العددُ الذي يحصل به التَّواترُ هو العدد الذي تُحيل العادةُ تَوَاطُأ أصحابِه على الكذب، أو وقوعه منهم باتِّفاقٍ. كيف هذا؟
فلو أنني كنتُ في مجلس واتَّفقت مع الإخوة الجالسين في هذا المجلس على أن يخرج كلُّ واحدٍ منَّا على إحدى القنوات الفضائيَّة ويقول: "حدثنا فلانٌ عن فلانٍ عن فلانٍ عن فلانٍ"، ونُأَلِّفُ حديثًا. فحينما ينظر الناس في هذا الحديث الذي رويناه جميعًا واتَّفقنا عليه، فإنَّهم يقولون: أين كان هؤلاء الذين رووا هذا الحديث؟
فينظر الناقدُ الذي يبحث وراءَ هذا الحديث فيجد أننا نحن السبعة الذين روينا الحديث كنا جالسين في نفس المكان قبل أن نخرج فنُحَدِّثَ بهذا الحديث، وأننا حينما خرجنا من مجلسنا قلنا حديثًا يوافقُ هوانا في أمرٍ يخُصُّنا ولنا فيه جميعًا مصلحةٌ، فهذا يكون حديثًا موضوعًا، ولو قال قائلٌ: كيف يكون حديثًا موضوعًا رغم أنَّ الرُّواةَ سبعةٌ؟
نقول: نعم السبعة عددٌ كبيرٌ فعلا، لكن هؤلاء السبعة كانوا جالسين معًا في مكانٍ واحدٍ، وكلُّهم له مصلحةٌ في قول هذا الحديث، فالعادةُ لا تُحِيلُ تَوَاطُؤَهم على الكذب.
مثال آخر: أن يروي مثلاً عشرةٌ من الشِّيعة أو أكثر حديثًا في شتمِ الشَّيخين –أبي بكر وعمر رضي الله عنهما- وقد فعلوا ذلك؛ لأنَّهم يكرهون الشَّيخين عادةً، وكلُّهم ليس لديه إشكالٌ في الكذب، فالعادةُ هنا لا تُحيل تواطؤهم على الكذب، حتى لو جاء الحديثُ من طريق ألفٍ منهم والعادة لا تُحِيلُ تواطؤهم على الكذب؛ فإذن يكون الحديث غيرَ متواتر.
فالمتواتر شرطه الأول الكثرة، ولا يُشترط فيها عددٌ مُعَيَّنٌ، فيُمكن أن تحصل بأربعةٍ أو بخمسةٍ أو بستَّةٍ أو بعشرةٍ أو بعشرين، كلُّ حديثٍ حسب حال الرُّواة فيه.
فمثلاً لو روى أربعةُ رجالٍ حديثًا، فرواه أحدُهم وهو من الشرق، والثاني من الغرب، والثالث من الشمال، والرابع من الجنوب، والأربعة رووا نفسَ الحديثِ ولم يُقابل أحدُهم الآخر أبدًا، ولم يُعرف عن واحدٍ منهم أنَّه خرج من بلده، مع ما يعرف به كلُّ واحدٍ منهم من الصدق والأمانة والنزاهة والحفظ لهذا الدين؛ فهؤلاء الأربعة يحصل الاطمئنانُ لحديثهم هذا، ولا يمكن أبدًا أن يكونوا قد اتَّفقوا على كذبة، ولا يَشُكُّ أحدٌ في ذلك، والوقت الذي كانوا فيه لم تكن فيه المواصلات والاتصالات هَيِّنَةً كعصرنا هذا.
فيحصل بمثل هذا الخبر -صاحب الأربعة فقط- التواترُ؛ لأنَّ هذا العددَ يحصل به العلمُ لاسيَّما وأنَّ العادةَ تُحيل تواطؤهم على الكذب، فغير ممكن أن يتَّفقوا على هذا، أو يقع منهم مصادفةً أن يكذبوا في نفس الوقت.
فالحافظ يذكر أولَ شرطٍ من شروط التَّواتر فيقول أن يكون له طرق كثيرة، وهذه الكثرة أحد شروط التواتر، لكن (إذا وَرَدَتْ بلا حصرِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ): فلا يلزم فيها رقمٌ مُعَيَّنٌ، بل تكونُ العادةُ قد أحالتْ تواطؤَهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُه منهُم اتِّفاقًا مِن غيرِ قصدٍ.
فشرط الكثرة التي يحصل بها التَّواتر هو أن يستحيل عليها عادةً التواطؤ على الكذب، في العادة وليس عقلاً؛ لأنَّ العقلَ يمكن أن يُجيز أمورًا لا تُجيزها العادةُ، فيستحيل في العادة أن يروي مجموعةُ رواةٍ حديثًا وكلُّ واحدٍ من بلدٍ -كأن يكون أحدهم من الشَّام والآخر من مصر والثالث من أفغانستان- ويتَّفقوا على الكذب في نفس الوقت ونفس السَّاعة ونفس الحديث مثلاً عن نفس الرُّواة، أو يفكر كلُّ واحدٍ منهم في الكذب وحده وكلُّهم يكذب معه في نفس الحديث مصادفةً.
فالعادة إذا أحالت وقوعَ هاتين الصُّورتين -وهما أن يتواطؤوا على الكذب أو يحصل منهم اتِّفاقًا أي مصادفةً من غير ترتيبٍ- وكان هذا العدد فوق الثلاثة أو الأربعة؛ فإنه قد يحصل به التواترُ.
ولذلك يقول الحافظُ: (فلا مَعْنى لِتَعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ) فلا يلزم أن نذكر عددا معينا ليحصل التواتر، فقد يحصل بأربعة أو خمسة أو سبعة، وقد يحصل في حديث بعشرة ويحصل في آخر بخمسة، فكل حديث له حاله، وكل رواة لهم ظروفهم، فقد يحصل من هؤلاء -كما قلنا- ما لا يحصل من هؤلاء، حسب قدر هؤلاء الرُّواة، وحسب عدم إمكانية الكذب عليهم أو تواطئهم على الكذب، أو وقوعه منهم صدفةً واتِّفاقًا كما يقول الحافظ.
إذن فالراجح في العدد الذي يتم به التواتر أنَّه ليس عددًا محسومًا، بل ينبغي أن يكون أكثر من ثلاثة؛ أي يجاوز الثلاثة، والرَّاجح أنَّه لا يُشترط عددٌ معيَّنٌ لابتداءِ التَّواتر أو لحصول التواتر، فقد يحصل التَّواتر بخمسة أو بسبعة أو غير ذلك، فحيثما امتنع في العادة أن يتَّفقَ أصحابُ هذا الجمع على الكذب أو يقع منهم اتِّفاقًا: يكون هذا مُسِيغًا للتَّواتر.
هناك من أهل العلم من أراد أن يضعَ عددًا يبدأ منه التَّواتر اجتهادًا منه، فبعضهم عيَّنَهُ في الأربعةِ وقال: إذا رواه أربعةٌ تُحِيلُ العادةُ تَواطُؤَهم على الكذب. وبعضهم قال: إذا رواه خمسةٌ. وبعضهم قال: في السَّبعةِ. وبعضهم قال: في العشرةِ. وقيلَ: في الاثنَيْ عَشَر. وقيل: في الأربعينَ. وقيلَ: في السَّبعينَ. وقيلَ غيرُ ذلك.
وبعضهم قال: 312. وبعضهم قال: ألف. وبعضُهم قال: مئةُ ألفٍ.
هذه كلها اجتهادات، وكما يقول الحافظ ابنُ حجر أنَّ كلَّ واحدٍ من العلماءِ الذين ذكروا شيئًا من هذه الأقوال إنَّما تمسَّكوا بآيةٍ جاء فيها ذكرُ هذا الرَّقم.
فبعضُ العلماء لما قرأ قول الله -عز وجل: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196] قال بلزوم مجيء هؤلاء العشرة لكي يكون الحديثُ متواترًا.
وبعضهم لما قرأ: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أو يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147] قال: يلزم أن يكونوا مئة ألف أو يزيدون.
فكلُّ واحدٍ رأى رقمًا في آيةٍ أو في حديثٍ قال: لا يمكن أن يحصلَ التَّواترُ إلا بهذا الرقم.
لكن هذا لا يلزم، فلا علاقةَ بين وجود هذه الأرقام في آيات من كتاب الله -عز وجل- وإن كانت تُفيد العلمَ وبين كونها شرطًا من شروط تواتر الحديث، فهذه قضيَّةٌ وتلك أخرى.
ولذلك فالرَّاجحُ من أقوال أهل العلم ألا يرتبط التواترُ برقمٍ ما، بل حيثما اجتمع عددٌ فوق الأربعة أو فوق الثلاثة وأحالت العادةُ تواطُؤَهم على الكذب أو اتِّفاقَهم عليه؛ صحَّ أن يكون هذا أول شرطٍ من شروط التَّواتر.
(فَإِذَا وَرَدَ الخَبَرُ كذلك –أي بعددٍ وهو غيرُ مُعَيَّنٍ كما بَيِّنَّا- وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ من ابتدائِهِ إلى انتهائهِ).
والعدد هذا لا ينقص في أيِّ طبقةٍ من طبقات الإسناد، فعندنا الإسناد طبقات، كل راوي طبقة، فحينما أقول: "حدثنا مالك -فمالك هذا طبقة- عن نافع -طبقة ثانية- عن ابن عمر -طبقة ثالثة". فينبغي أن يكون لدي في كلِّ طبقةٍ من الطَّبقات أقلُّ ما يمكن في التواتر، فلا يجوز أن يكون في إحدى الطبقات مثلاً ثلاثةُ رواةٍ وفي الثانية اثنان أو واحدٌ، فيلزم أن تحتوي كلُّ طبقةٍ على أقلِّ ما يحصل به التَّواترُ من رقمٍ نرتضيه في كلِّ حديثٍ على حِدَةٍ في كلِّ هذه الطَّبقات، فإن قلَّ عن ذلك أو لم تَسْتَوِ الطَّبقات في الحدِّ الأدنى الذي يحصل به التَّواترُ؛ فلا يُسَمَّى تواترًا، ولا يقع به تواترٌ.
لكن يمكن أن يزيد عددُ الرُّواة في كلِّ طبقةٍ من الطَّبقات؛ كأن يكون في طبقةٍ أربعةٌ وفي الأخرى عشرةٌ، أو في طبقةٍ خمسةٌ وفي الثانية خمسين، ليس هناك مشكلة في ذلك، المهم ألا يقل في كلِّ طبقةٍ من الطَّبقات عن أقلِّ ما يحصل به التَّواترُ.
وفي الختام: أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire