el bassaire

mercredi 5 octobre 2016

فقه الدعاء

فقه الدعاء
https://al-bassair.blogspot.com/

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفقه الدعاء هو مِنْ فقه الدِّين ، قد ثبت في الحديث الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ))؛ فَفِقْهُ الدُّعاء هو فقهٌ في الدِّين، بل هو فقهٌ في جانب عظيم ومهمٍّ للغاية في دين الله جلَّ وعلا ، يدلُّ لذلك قول الله عز وجل : ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14] فسمَّى الدُّعاء دِينًا.
كما أنَّه تبارك وتعالى سمَّى الدُّعاءَ عبادةً في غير ما آية في القرآن ، قال الله عز وجل : ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] ، فسمَّى الدُّعاءَ عبادةً . وهذا المعنى ثبت في السُّنَّة في حديث النُّعمان بن بشير عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) ، بل ثبت في المستدرك للحاكم وغيره من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعًا : (( أَفْضَلُ العِبَادَةِ الدُّعَاءُ ))؛ فالفِقْهُ في الدُّعاء هو فقهٌ في الدِّين ، وفقهٌ في عبادة الله جلَّ وعلا ، فهو عبادةٌ جليلة، وطاعةٌ عظيمة ، وقربةٌ مِنَ القُرَب العِظام الَّتي يحبُّها الله جلَّ وعلا مِنْ عباده .
فنحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى أن يسَّر لنا هذا الاجتماع للفقه في الدعاء ، ونسأله جل وعلا الذي يسَّر لنا هذا الاجتماع أن يفتح علينا جميعاً بالعلم النافع والعمل الصالح ، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجةً لنا لا حجةً علينا يوم نلقى الله عز وجل .
والكلام - معاشر الإخوة الكرام - على فقه الدعاء واسع جدًّا ، وجوانب هذا الموضوع كبيرة ومتشعِّبة ، ومثل هذا اللقاء لا يسع التفاصيل الكثيرة المتعلقة بجانب الدعاء؛ لكن نسأل الله جلَّ وعلا أن ييسِّر لنا الإتيان على مهمَّات هذا الموضوع والوقوف على جوانبه العظيمة من خلال نقاطٍ عديدةٍ حول فقه الدعاء .
ونبدأ أوَّلًا ببيان شيء من فضائل الدُّعاء ، ومكانته في الشَّريعة الإسلاميَّة ، وشَأْنه في هذا الدِّين الحنيف ، ومكانته في كتاب الله عز وجل وسنَّة رسوله صلوات الله وسلامه عليه .
ومن يطالع القرآن يجد أنَّ كتاب الله عز وجل حافلٌ بالآيات الكثيرة والنُّصوص العديدة الدَّالة على فضل الدُّعاء ورفيع مكانته ، بل إنَّك عندما تقرأ القرآن تجد أنَّ أوَّل سورة افْتُتح بها كتاب الله عز وجل -سورة الفاتحة - مشتملة على هذه العبادة العظيمة ، وخاتمة القرآن - سورة النَّاس - أيضًا مشتملة على هذه العبادة العظيمة؛ فكتابُ الله عز وجل افْتُتح بالدُّعاء واختُتم به ، فالدُّعاء الَّذي في الفاتحة هو أعظم الأدعية على الإطلاق ، سؤال اللهِ تبارك وتعالى الهداية إلى صراطه المستقيم ، وأن يجنِّب العبد طرق الضَّالِّين والمغضوب عليهم ، وخاتمة كتاب الله عز وجل فيه الدُّعاء بالتَّعوُّذ به سبحانه من شرِّ الوسواس الخنَّاس الَّذي يوسوس في صدور النَّاس من الجِنَّة والنَّاس؛ ليصرفهم عن صراط الله المستقيم والجادَّة السَّويَّة .
وهذا - أيها الإخوة - الختم والبدء فيه إشارة إلى أهمية الدعاء من جهة ، وحاجة الناس إلى لدعاء للثبات على صراط الله المستقيم ، فلا ثباتَ على صراط الله المستقيم ولا سلامة من الشَّيطان الرَّجيم الَّذي يدعو النَّاس للانحراف عن هذا الصِّراط ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17] لا سلامة منه إلَّا بالدُّعاء ، التَّعوُّذ بالله جلَّ وعلا وحُسن الالتجاء إليه.
وإذا تأمَّلت آياتِ القرآن الأخرى تجد مكانة الدُّعاء في القرآن العظيمة ومنزلته الرَّفيعة ، آياتٌ كثيرة في القرآن فيها الأمر بالدُّعاء ، والحثُّ عليه، وبيانُ فضله ومكانته ، وما أعدَّ الله تبارك وتعالى لأهله من الأجور العظيمة والثَّواب الجزيل والخيرات العميمة في الدُّنيا والآخرة .
تُطالع في القرآن دعوات الأنبياء والصَّالحين من عباد الله وحُسن صلتهم بالله جلَّ وعلا : ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90] ، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] ، ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] .
فالله عز وجل امتدح الأنبياء والصَّالحين من عباده لعنايتهم بالدُّعاء واهتمامهم به وحُسن التجائهم لله جلَّ وعلا . وأخبر في هذه الآيات كلِّها بأنَّه استجابَ لهم ، وأنَّه سبحانه وتعالى يُجيب مَنْ دعاه ، ويعطي من سأله ، ولا يردُّ مؤمنًا ناجاه : ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ، ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ، ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39] . أخبر عن نفسه سبحانه وتعالى بذلك ، وأنَّه يجيب دعوة الدَّاعين ، وأنَّه قريبٌ سميعٌ مجيبٌ جلَّ وعلا .
هذا كلُّه ممَّا يبيِّن لنا مكانة الدُّعاء في القرآن ، وأنَّه عبادة عظيمة وحبيبة إلى الله جلَّ وعلا ، ويحبُّ سبحانه وتعالى مِنْ عباده الدُّعاء ، يحبُّ منهم الإلحاح والتَّضرُّع وكثرة المناجاة والسُّؤال ، يحبُّ منهم تبارك وتعالى أن يكون دعاؤهم بينهم وبينه خُفْيَةً ومناجاة ، يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55 ـ 56]. هذا كلُّه ممَّا يبيِّن لنا مكانة الدُّعاء في كتاب ربِّنا عز وجل .
وهكذا – معاشر الإخوة الكرام - إذا نظرنا في سنَّة النَّبيِّ الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام وفي سيرته العطرة وهديه القويم؛ نجد مكانة الدُّعاء العظيمة وارتباطها بحياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودعوته وسيرته وسنَّته صلى الله عليه وسلم ، ولهذا تكاثرت عنه - صلوات الله وسلامه عليه - الأحاديث الدَّالَّة على فضل الدُّعاء وعظيم مكانته عند الله جلَّ وعلا ، وأنَّه عبادة جليلة، وطاعة عظيمة، يحبُّها الله ويرضاها عن عباده.
ممَّا جاء في ذلك: ما ثبت عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ ))؛ وتأمَّل     - رعاك الله - هذا الحديث العجيب في الدَّلالة على فضل الدُّعاء ومكانته عند الله وحبِّ الله سبحانه وتعالى له: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ، وهذا يفيد أنَّ الدُّعاء حبيبٌ إلى الله، وأنَّ الله عز وجل يحبُّ أن يَسمع من عباده مناداته ومناجاته وطلبه وسؤاله ، ويحبُّ منهم أن يلحُّوا عليه في ذلك .
والله يغضبُ إن تركتَ سؤالَه وبُنيُّ آدمَ حين يُسأل يغضَب
ابن آدم يغضب حينما يُسأل ، وإذا كثر عليه السؤال كثُر الغضب عنده ، أمَّا الرَّبُّ العظيم والخالق الجليل سبحانه وتعالى فإنَّه يغضب عندما يترُكُ العبدُ سؤالَه ، فترك السُّؤال فيه نوعٌ من الاستكبار ، ولعلكم لاحظتم هذا المعنى في  قوله: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي عن دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾؛ كيف يستنكف العبد عن دعاء الله ويستكبر ، وحاجته إلى الدُّعاء والسُّؤال أعظم حاجة ؟! فهو فقيرٌ فقرًا ذاتي إلى الله سبحانه وتعالى من كلِّ وجه ، لا غنى له عن ربِّه طَرفةَ عين ولا لحظة من اللَّحظات ، فقيرٌ إلى الله عز وجل في طعامه ، فقيرٌ إلى الله في شرابه ، فقيرٌ إلى الله في لباسه ، فقيرٌ إلى الله عز وجل في هدايته له إلى طريقه المستقيم ، لا يستقيم له دينٌ ولا دنيا ولا آخرة إلَّا بتوفيق الله ومَنِّه ، فكيف يستكبر عن الدُّعاء وفقرُه إلى ربِّه فقرٌ ذاتيٌّ من كلِّ وجه ؟!
تأمَّل هذا المعنى في قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي - حديث أبي ذرٍّ في صحيح مسلم - يقول الله جلَّ وعلا : (( يَا عِبَادِي ! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي!كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ )) ، ثُمَّ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في هذا الحديث القدسي: (( يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ)) ، خزائنه تبارك وتعالى ملْآى ، قال صلى الله عليه وسلم : (( يَمِينُ اللهِ مَلْآى لَا يغِيضُهَا نَفَقَةٌ سحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقِصْ مَا في يَمِينِهِ )) ، ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] ، عطاؤه سبحانه وتعالى كلام ، ومنعُه كلام ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] . هذا شأنه سبحانه وتعالى فكيف يستكبر العبد عن دعاء ربِّه ويستنكف ويقصِّر في الدُّعاء مع أنَّه فقير إلى ربِّه سبحانه وتعالى من كلِّ وجه ؟! فقيرٌ إليه في صلاح طعامه، وصلاح شرابه ، وصلاح لباسه ، وصلاح مَسْكَنِه ، وصلاح دنياه ، وصلاح آخرته .
تأمَّل هذا في وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها - والحديث في المسند - قال: (( يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بالكَوَامِلِ مِنَ الدُّعَاءِ - في رواية: عَلَيْكِ بِجَوَامِعِ الدُّعَاءِ - اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ )) ، في الحديث الآخر في صحيح مسلم يقول عليه الصَّلاة والسَّلام في دعائه : (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذي هُوَ عِصْمَتُ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ ، وَالمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ )) .
فالعبد بحاجة إلى الدُّعاء لصلاح دينِه، وصلاح دنياه، وصلاح آخرتِه، وصلاح شأنِه كلِّه ، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام ـ في الدُّعاء الآخر: (( أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ )) ، فهو بحاجة إلى سؤال الله ودعائه ومناجاته في كلِّ أحواله، فكيف يستنكف؟! يقول عليه الصلاة والسلام (( مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ )) وهذا فيه دلالة على حب الله تبارك وتعالى للدعاء ، يحب من عبده أن يسأله كل حاجاته وجميع شئونه الدينية والدنيوية ، كل مصالحه يسألها من ربه وخالقه ومولاه جل وعلا .
وممَّا جاء في السُّنَّة في فضل الدُّعاء : ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ )) ، وكفى بهذا دلالةً على مكانة الدُّعاء وعظيم شأنه وكرمه عند الله ، وأنَّه عبادةٌ عظيمة وطاعةٌ جليلة لها شأنُها ولها مكانتها . (( لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ )) فهذا يدلُّ على حبِّ الله للدُّعاء ، وحبِّه لسماع دعاء الدَّاعين ومناجاة المناجين .
ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام في الحديث الآخر: (( أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ ))؛ من يعجز عن الدُّعاء فهو في غاية العَجز ، لأنَّ الدُّعاءَ عبادةٌ لا تكلِّف فاعلها جُهدًا ، ولا تكلِّفه تعبًا ولا نصبًا ، يستطيع أن يدعو وهو جالس ، ويستطيع أن يدعو وهو ماشي ، ويستطيع أن يدعو وهو مضطجعٌ ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ ففي كلِّ أحوالِه يستطيع أن يدعوَ الله جلَّ وعَلا ، ولهذا كان شأنُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم دعاء الله في كلِّ أحوالِه؛ في دخوله ، وخروجِه ، وركوبه للدَّابَّة، في مشيِه ، في رواحِه ، في دخوله للمسجد ، خروجه منه، في صلاته، في كلِّ أحوالِه؛ طعامِه ، شرابِه ، إتيانِه أهله ، في كلِّ أحوالِه صلواتُ الله وسلامه عليه يدعو الله  جلَّ وعلا ، وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يدعوه في كلِّ مقام بما يُناسب ذلك المقام ، ولهذا هناك دعواتٌ في الصَّباح ، وفي المساء ، ودعواتٌ عند النَّوم ، وعند القَوْمَة منه ، ودعواتٌ في الصَّلوات ، وعند تمامها ، ودعواتٌ في الدُّخول، ودعواتٌ في الخروج ، ودعواتٌ في الرُّكوب ، وكلُّ دعوة ثَبَتَت عنه صلى الله عليه وسلم في سنَّته هي مناسبة غاية المناسبة للمقام الَّذي قيلت فيه؛ وهذا يدلُّ على تمام هَدْيِه صلوات الله وسلامه عليه ، وحسنِ وكمالِ صِلَتِه بالله جلَّ وعلا في جميع أحواله صلى الله عليه وسلم ، كما أنَّه يدلُّنا على حاجة المسلم الشَّديدة للدُّعاء في كلِّ شأن من شؤونه وفي كلِّ حال من أحواله .
الشَّاهد؛ أنَّ نصوص كتاب الله عز وجل وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم المبيِّنة لمكانة الدُّعاء وعظيم شأنه كثيرةٌ جدًّا، ولعلنا نكتفي بما مرَّ لننتقل إلى نقطة ثانية في هذا الموضوع ( موضوع فقه الدعاء ) ألا وهي:


بيان حقيقة الدعاء ، ما هو الدُّعاء ، وما هي حقيقته ؟

«الدُّعاء» هذه الكلمة ، كلمةٌ عربيَّة واضحةُ المعنى بيِّنة الدَّلالة ، هي مصدرٌ للفعل دَعَا يدعو دعاءً؛ وهو بمعنى الطَّلب والسُّؤال ، دعاه : أي طلبَ منه وسأله . فالدُّعاء لغةً هو: الطَّلب.
وأحسنُ ما عُرِّف به الدُّعاء في الشَّرع : ما عرَّفه به شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في تعريفه: «هو طلب ما ينفع الدَّاعي، وطلب كشف ما يضرُّه أو دفعه» .
وتأمَّل هذا التَّعريف الجامع ، فالدُّعاء طلبٌ وسؤال والتجاء إلى الله تبارك وتعالى؛ إمَّا طلبٌ يتعلَّق بالخير طلبًا له ورغبةً فيه وحرصًا على تحصيله ونيله ، أو طلبٌ لدفع الشَّرِّ أو رفعه ، دفعِه قبل أن يقع ، ورفعه بعد وقوعه ، ولهذا ثبت في الحديث الصَّحيح أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ))؛ ممَّا نزل ليُرفع ، وممَّا لم ينزل ليُدفَع ، فالدُّعاء ينفع من هذا ومن هذا.
وثبت عنه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه قال : (( لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ ))؛ ومن المعلوم أنَّ الدُّعاء من القدَر ، يقدِّر الله سبحانه وتعالى للعبد أمرًا يقع أو أمرًا يوشك الوقوع ، فيُرفع أو يُدفع بالدُّعاء ، فجعل الله سبحانه وتعالى الدُّعاء سببًا لرفع البلاء أو لدفع البلاء ، ولهذا الدُّعاء هو: سؤال الله تبارك وتعالى لجلب النَّفع أو لدفع الضُّرِّ أو لرفع الضُّرِّ .
وإذا تأمَّلت عامَّة الدَّعوات المأثورة تجدها كذلك؛ إمَّا سؤالٌ فيه طلب نفعٍ : «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً» ، «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي» ، «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ» ، «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» ، «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا» ، وهكذا دعواتٌ فيها سؤال جلب نفع، تسأل اللهَ تبارك وتعالى أن يجلب لك ويَمُنَّ عليك وييسِّر لكَ المنافع الدِّينيَّة والدُّنيويَّة والأخرويَّة ، هذا جانبٌ من الدُّعاء يتعلَّق بجلب المنافع .
والجانب الثَّاني : يتعلَّق بالمضارِّ؛ إمَّا دفعها قبل أن تقع ، أو رفعها بعد وقوعها ، وكثيرٌ من الدَّعوات النَّبويَّة فيها هذا الجانب : «وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ، «رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَمِنَ الكَسَلِ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَمِنَ البُخْلِ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَمِنَ الحَزَنِ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من قَهْرِ الرِّجَالِ وَغَلَبَةِ الدَّيْنِ» ، «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلَاقِ وَالأَهْوَاءِ والأَدْوَاءِ» ، وهكذا دعواتٌ كثيرةٌ جدًّا فيها إمَّا دفعُ ضرٍّ، أو رفع ضرٍّ.
كان عليه الصَّلاة والسَّلام إذا أتي له بالمريض قال: (( اللَّهُمَّ رَبِّ النَّاسِ، أَذْهِبِ البَأْسَ، وَاشْفِه وأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا )) . لما جاءه عثمان بن أبي العاص يشكو من أَلَمٍ يجده في بدنه؛ قال له عليه الصَّلاة والسَّلام : (( ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: بِسْمِ اللهِ، ثُمَّ قُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ )) .
فأنت في دعائك تسأل الله جلب المنافع الدينية والدنيوية والأخروية ، وتسأل الله عز وجل أن يصرف عنك وأن يدفع عنك وأن يرفع عنك المضار الدينية والدنيوية والأخروية؛ تسأل الله عز وجل أن يحفظك ، فأنت بحاجة ماسَّة إلى الدُّعاء في كلِّ شأن من شؤونك وفي كلِّ لحظة من لحظاتك ، الخيراتُ لا سبيل لك لتنال شيئًا منها إلَّا بعون الله وتوفيقه ، والمضار والمهالك والشُّرورُ لا سلامةَ لك ولا نجاةَ ولا وقايةَ لشيء منها إلَّا بصرف الله لك وعونه وحفظه جلَّ وعلا .
فهذا هو الدُّعاء وهذه هي حقيقته ، حقيقة الدُّعاء: سؤال الله وطلبُه جلَّ وعلا جلبَ المنافع الدِّينيَّة والدُّنيويَّة والأخرويَّة ، ودفع المضارِّ أو رفعها؛ دفعُها قبل أن تقع ، ورفعُها بعد وقوعها ، وأنت في كلِّ ذلك محتاجٌ إلى الله سبحانه وتعالى .
وتأمَّل هنا - أيُّها الأخ الموفَّق- أمرٌ في غاية الأهميَّة يتعلَّق بالدُّعاء ، وهو يدلُّنا دلالةً واضحةً على مكانة الدُّعاء العظيمة في الدِّين : الدُّعاء بدايتُه شعور القلب باحتياجه لله سبحانه وتعالى وافتقاره التَّامِّ لله جلَّ وعلا ، ولهذا من أسباب قبول الدُّعاء حضور القلب؛ أن يكون قلب الإنسان حاضرًا ومقبلًا على الله جلَّ وعلا ، كما جاء في الحديث الصَّحيح أنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم قال: (( ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ قَلْبٍ لَاهٍ )) ، فالدُّعاء حضور قلبِ الإنسان ، واستشعاره لحاجته إلى الله وافتقاره إلى الله في مصالحه الدِّينيَّة ومصالحه الدُّنيويَّة وجميع شؤونِه ، فيكون إقبالٌ من القلب على الله عز وجل وافتقارٌ وتضرُّعٌ ، وإقبالٌ باللِّسان بالمناجاة .
ولهذا تلاحظ المضطرِّ؛ يقول الله عز وجل : ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62] ، المضطرُّ قلبه حاضرٌ تمامًا ، وهو افتقاره وانكساره وتذلُّـله لله جلَّ وعلا أشدُّ من الآخر الَّذي هو في يُسرٍ وفي سَعة وفي نِعمة وفي رَغد ، تجدُه إذا دعا ربَّما أنَّه يحرِّك لسانَه بالدُّعاء ، ولكن قلبه لا يكون حاضرًا ، بينما المضطرُّ تجد قلبَه حاضرًا تمامًا في مناجاته ، وفي سؤاله ، وفي اضطراره إلى الله جلَّ وعلا وإلحاحه على الله ، وحُسن ثقته بالله جلَّ وعلا .
أمَّا في يُسر الإنسان؛ فإمَّا أن يتهاونَ في الدُّعاء ويقِلَّ عنده الدُّعاء ، أو أنَّه يدعو ويكون قلبُه غافل لاهٍ ، والقليل من عباد الله الَّذي يوفق في يُسره وسعَتِه ونعمتِه ورَغَدِه أن يُقبِل على الله سبحانه تعالى إقبالًا صادقًا في دعواته ومناجاته ، وقد جاء عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنَّه قال: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ فِي الشَّدَائِدِ وَالكُرَبِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ دُعَاءِ اللهِ فِي الرَّخَاءِ ))؛ يعني يُقبِل على الله في رخائِه وسعَتِه ويُسْره ورغَدِه وعيشِه، يُقبِل على الله ويُكثر من دعاء الله ومناجاته والإلحاح عليه والتَّضرُّع بين يديه ، وأن يكون قلبه حاضرًا في الدُّعاء والمناجاة ، لا أن تكونَ الدَّعوة تصدُر منه والقلبُ غافل .
من اللَّطائف الَّتي تُذكر هنا : ما رواه ابن أبي الدُّنيا في كتابه النِّيَّة والإخلاص قال: «مرَّ عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصًى يلعبُ به، وهو يقول: اللَّهمَّ زوِّجني من الحور العين؛ فقام عليه عمر فقال: بئس الخاطبُ أنت ألا ألقيتَ الحصى، وأخلصتَ لله الدُّعاءَ »؛ ألقِ الحصى وأخلِص الدعاء ، إذا كنت تريد الحور العين ما تلعب وتكون غافل ولسانك فقط الَّذي يتحَّرك بالدُّعاء !! بعض النَّاس يمدُّ يديه في دعائه وتجده يتلفَّت يمينًا ويسارًا ويتابع الحركات، مشغول ، وقلبه من باب أولى لاهٍ عن الدُّعاء .
ولهذا ينبغي أن يُفهم هنا وأن يُفقه في باب الدُّعاء : أنَّ أهمَّ ما يكون في باب الدُّعاء حضورُ القلب ، وإقبالُ القلب على الله سبحانه وتعالى في دعوات المسلم كلِّها ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة للعبد يجاهد نفسه على حضور قلبه، وليَكُنْ حَسَنَ الظَّنِّ بالله ، عظيم الثِّقة به جلَّ وعلا ، موقنًا بالإجابة؛ بعض النَّاس - في هذا الباب - عندما يدعو؛ يدعو على وجه التَّجربة ، وهل يُستجاب لي أو لا يستجاب ؟! أدعو ربَّما أو يُمكن أو لعلَّه ، ليس عنده يقين  «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ» .
فإذًا؛ مِنْ مقامات فقه الدُّعاء العظيمة المهمَّة حضور القلب في دعاء الإنسان ومناجاته وسؤاله وطلبه من الله جلَّ وعلا ، فإذا حضر قلبُ الإنسان وحَسُن إقبال القلب على الله جلَّ وعلا يُناجي العبدُ ربَّه ، ويسأله جلَّ وعلا من خيرِ دنياه وأخراه.
وهنا أضرب مثالًا للتَّوضيح من الدَّعوات المأثورة : دعاءُ أشرت إليه فيما سبق وهو في صحيح مسلم ، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام : (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ ))؛ عندما تدعو الله جلَّ وعلا بمثل هذه الدَّعوة العظيمة تستشعر أنَّك بأمسِّ الحاجة وأشدِّ الضَّرورة إلى صلاح دينك ودنياك وآخرتك ، وأنَّ صلاح ذلك كلِّه بيد الله جلَّ وعلا ، الهدايةُ بِيَدِ الله ، التَّوفيقُ بيد الله ، العونُ بيد الله ، صلاحُ الدُّنيا والدِّين والآخرة كلُّه بيد الله جلَّ وعلا ، ما يقع في هذا الكون من حركة ولا سكون ولا قيام ولا قعود ولا خفض ولا رفع ولا عطاء ولا منع إلَّا منه تبارك وتعالى وبمنِّه وفضله وتوفيقه ، مملكتُه وخلقُه وعبيدُه ، والكون كونُه يتصرَّف فيه كيف شاء، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2] ، الأمر لله سبحانه وتعالى من بعدُ ومن قبلُ ، يُعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع، ويحيي ويميت، ويقبض ويبسط، يهدي ويضلُّ { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا }[النجم:43-44] الأمر كلُّه بيد الله ، فتعتقدُ عقيدةً راسخةً وإيمانًا كاملًا في قلبك أنَّ صلاحَ دينك وصلاحَ دنياك وصلاحَ آخرتك بيده جلَّ وعلا ، ثمَّ تلتجئ إليه سبحانه وتعالى التجاءً كاملًا وتامًّا بأن يُصلح لك هذه الأشياء : الدِّين ، والدُّنيا ، والآخرة . وتبدأ بالدِّين كما بدأ به عليه الصَّلاة والسَّلام ، ونستفيد من هذا : أنَّ صلاح دينك مقدَّم، وأنَّ الاهتمام بالدِّين مقدَّمٌ ، ولا يعني الاهتمام بالدِّين ترك الاهتمام بالدُّنيا ، ولهذا لاحظ في الدُّعاء الآخر قال عليه الصَّلاة والسَّلام : (( ولَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا )) ، لا بأس أن تهتمَّ بالدُّنيا لكن لا تكون الدُّنيا أكبر همِّك ، ولا تكون الدُّنيا مبلغَ علمك . فالدين هو المقدَّم ، وصلاحُ الدِّين وصلاحُ الدُّنيا وصلاحُ الآخرة كلُّ ذلك بِيَدِ الله جلَّ وعلا .
فتسأله عن افتقار ، تسأله عن إقبال قلب على الله جل وعلا ، تسأله سؤال الملِحِّين – جل وعلا أن يصلح لك دينك وأن يصلح لك دنياك وأن يصلح لك آخرتك وأن يجعل الحياة زيادة لك في كل خير والموت راحة لك من كل شر ، وتأمَّل هذا الأمر المغَيَّب الَّذي أمامك ، هل يُمَد لك في العمر؟ هل يكتب لك أيَّام؟ شهور؟ سنوات؟ أعوام؟ أم أنَّ الَّذي بقي لك من العمر قليل ؟ ماذا سيكون أمرك في الآتي والقادم ؟ أمرٌ مغيَّب لا تدري عنه؛ لكنَّك فقيرٌ إلى الله سبحانه وتعالى ، وكما أنَّك فقيرٌ إلى الله سبحانه وتعالى في صلاح حالك في وقتك الحاضر ، فأنت فقير إليه سبحانه وتعالى في صلاح حالك فيما تستقبل من أيَّامك. «اللَّهُمَّ وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالموْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» . فأنت تفوِّض أمرك إلى الله تبارك وتعالى وتلتجئ الالتجاء التَّام إليه، تطلب منه صلاحَ دينك ، وصلاحَ دنياك ، وصلاحَ آخرتك بإقبال تامٍّ وتضرُّع وحسن إلحاح وكمال طلب.
فهذه - أيها الإخوة -  حقيقة الدُّعاء في شريعة الإسلام ، وينبغي أن تعلم أنَّ الدُّعاء الَّذي له هذه المكانة العظيمة في الشَّريعة الإسلاميَّة أنت تحتاج إليه في كلِّ شيء؛ الصَّلاة، الحجّ، الصِّيام، الزَّكاة، أمورك الدُّنيويَّة، كلُّ أمر من الأمور تحتاج فيه إلى الدُّعاء . والكلام على هذا يطول لكنني أشير إلى أمثلة :
قال النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام لمعاذ بن جبل: (( يَا مُعَاذُ! إنِّي أُحِبُّكَ؛ فَلَا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ))؛ وتأمَّل هنا لفتةً عجيبةً جدًّا : أنت الآن عندما صلَّيت وقضيتَ صلاتَك وفي دُبر هذه الصَّلاة؛ مَنِ الَّذي مَنَّ عليك بالصَّلاة ؟ ومَن الَّذي يسَّر لك المجيء لها ؟ أليس الله؟! الصَّحابة رضي الله عنهم في رَجَزهم يقولون:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا    وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
لولا الله ما صلَّيتَ ، ولولا الله ما صمتَ ، لولا الله ما قرأتَ القرآن ، لولا الله ما جئتَ إلى المسجد ، فأنت فورًا عندما تأتي إلى تمام الصَّلاة في دبرها تسأل الله جلَّ وعلا : «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»، ويدخل في هذا الصَّلاة القادمة والعبادة الآتية ، تطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعينَك على أدائها وأن ييسِّر لك القيامَ بها.
يقول عليه الصَّلاة والسَّلام في حديثٍ آخر يتعلَّق بالحجِّ: (( الحَاجُّ وَالعُمَّارُ وَفْدُ الله دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ )) ، وتأمَّل هنا حاجة الحاجِّ إلى الدُّعاء ومقامات الدُّعاء في الحجِّ ، فالتَّلبية الَّتي هي الدُّعاء يكرِّرها الحاجُّ مرَّات وكرَّات في مَقْدَمِه إلى مكَّة وفي تحرُّكاته بين المشاعر ، كلُّه دعاءٌ ومناجاةٌ لله سبحانه وتعالى .
تأمَّل سؤالَك لله تبارك وتعالى الهداية إلى صراطه المستقيم الَّذي يتكرَّر معك يوميًّا سبع عشر مرَّة على سبيل الفرض والوجوب ، يوميًّا سبعة عشر مرَّة تقول : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ في سورة الفاتحة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « ولهذا كان أنفع الدُّعاء وأعظمه وأحكمه دعاءَ الفاتحة : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾؛ فإنَّه إذا هداه هذا الصِّراط؛ أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شرٌّ لا في الدُّنيا ولا في الآخرة» .
تسألُ الله جلَّ وعلا أن يهديك الصِّراط المستقيم ، لولا توفيقُ الله لك وعونُه لم تُهدَ إلى هذا الصِّراط ، ولولا توفيقُ الله لك وعونُه لم تثْبُت على هذا الصِّراط: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ، يقول جلَّ وعلا : ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8] ، ومرَّ معنا الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ».
فهذه الحقيقة مهمَّةٌ يجب فِقْهُها في الدُّعاء ، وهي تبيِّن لنا حقيقةَ الدُّعاء وأساسَ فقه الدُّعاء ، وأنَّه عبوديَّةٌ عظيمةٌ وطاعةٌ جليلةٌ ، يظهر فيه كمالُ الذُّلِّ وكمالُ الافتقار وانكسارُ القلب وإقبالُه على الله جلَّ وعلا وحسنُ مناجاته وتذلُّـلُه بين يدي الله جلَّ وعلا ، ثمَّ الرَّبُّ العظيم كريمٌ جوادٌ محسنٌ ، لا يردُّ عبدًا دعاه ، ولا يُخَيِّب مؤمنًا ناجاه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ ، فهو جلَّ وعلا يجيبُ من دعاه . جاء في حديث سلمان الفارسي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللَه حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا )) أي: خائبتين؛ فتأمَّل الكرمَ والجودَ والعطاءَ والمنَّ والفضلَ ، مع أنَّه غنيٌّ عنك وعن دعائِك وعن سؤالِك وعن طلبِك ! إلَّا أنَّه يحبُّ ذلك منكَ . ومن كماله سبحانه وتعالى وكمالِ جوده وكمالِ فضله أنَّه سبحانه وتعالى يستحيي من عبده ، عندما يمدُّ العبدُ يديه إلى الله " يا ربّ، يا ربّ ، يا ربّ " يسأل ويناجي أن يردَّهما صفرًا أي: خائبتين .
فهذا كلُّه ممَّا يبيِّن لنا مكانةَ الدُّعاء ، وأيضًا يبيِّن لنا حقيقة الدُّعاء.

الضوابط التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في دعواته ومناجاته وسؤاله لربه جل وعلا :

ومن المعلوم – معاشر الإخوة الكرام - أنَّ الدُّعاءَ له ضوابطه وله شروطه وله آدابه، شأنه شأن كلِّ عبادة ، كما أنَّ الصَّلاة لا تُقبل إلَّا بشروطها ، والحجُّ لا يُقبل إلَّا بشروطه ، والصِّيام لا يُقبل إلَّا بشروطه ، وكلُّ طاعة لا تُقبل إلَّا بشروطها فهكذا الدُّعاء ، الدعاء له شروطٌ وله ضوابطٌ وله آدابٌ جاء بيانُها في كتاب الله وسنَّة نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام ، فالعناية بها والمحافظة عليها والرِّعاية لها يتحقَّق به للمرء الإجابة ، والتَّسهيل ، والتَّوفيق ، والعون ، والسداد، وصلاح العاقبة ، وصلاح الدُّنيا ، ولهذا كان على المسلم في هذا الباب- باب الفقه في الدُّعاء - أن يتفقَّه في ضوابط الدُّعاء وشروط الدُّعاء الَّتي جاء بيانها في كتاب الله وسنَّة نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام .
ومن أجمع الآيات في القرآن الكريم لضوابط الدُّعاء وآدابه : قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف : ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ ولتتأمَّل الخاتمة الَّتي خُتمت بها الآية : ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي: أحسِن في دعائك ، أحسِن في سؤالك ، أحسِن في طلبك ، اعتنِ بالضَّوابط والشُّروط والآداب، أحسِن تجد ثوابَ إحسانك ، تجد أثرَ إحسانِك ، تجد العطاء ، تجد المنَّ ، تجد الثَّوابَ ، تجد الخيرَ العظيمَ ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
والآية فيها تنبيهٌ على جملة عظيمة من آداب وشروط الدُّعاء؛ أوَّل ذلك وأهمُّه : صدر الآية وهو قوله : ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾؛ وهنا أيها الإخوة لابد من وقفة لبيان أمرٍ هو في الحقيقة أهم أمر يتعلق بالدُّعاء ألا وهو : أنَّ الدعاء عبادة لا تُصرف إلَّا لله ، ولا يُلتجأ فيها إلَّا إلى الله سبحانه وتعالى .
الدعاء عبادة سؤال ومناجاة وتذلل وانكسار بين يدي الرب العظيم والخالق الجليل ، فالدعاء عبادة لا تُصرف إلا لله، فلا يُسأل إلَّا الله، ولا يُستعان إلَّا بالله، ولا يُطلب المدَدُ والعونُ والتَّوفيق والسَّداد والهداية والرَّشاد إلَّا من الله، فهذا كلُّه بيده جلَّ وعلا ، لا يُطلب شيءٌ من ذلك لا من ملَك مقرَّب ولا من نبيٍّ مرسَل ولا من وليٍّ ولا من غيره؛ الدعاء عبادة لا يُلتجأ فيها إلا لله ، ولا تطلب إلا من الله جل وعلا ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام في وصيَّته لابن عبَّاس: (( إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّت الصُّحُفُ )) .
فالدُّعاء عبادة ، والله جلَّ وعلا قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] ، وقال: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ[الزمر:3] ، ولهذا أهمُّ ضابطٍ في الدُّعاء أن يكون خالصًا لله ، لا يُسأل إلا الله ، ولا يُلتجأ إلا إلى الله ، ولا يُتوكل إلا على الله ، ولا يُطلب المدد والعون والشفاء إلا من الله سبحانه وتعالى؛ فمن صَرَف هذه العبادة لغير الله فهو مِنْ أضلِّ النَّاس ، بل لا أضلَّ منه ، كما قال الله سبحانه وتعالى : ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[الأحقاف:5-6] ، وقال جلَّ وعلا: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ[الرعد:14] ، وقال جلَّ وعلا : ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا[الإسراء:56] ، لا يملكون كشفه بعد وقوعه ، ولا يملكون تحويله قبل وقوعه ، الدَّفع والرَّفع لا يملكه إلَّا الله سبحانه وتعالى ، وقال جلَّ وعلا : ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ[سبأ:22] ، وقال جلَّ وعلا : ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13ـ14]. فالدعاء عبادة لا تُصرف إلا لله جل وعلا .
إذاً أهمُّ شروط الدُّعاء وأهمُّ ضوابط الدعاء : إخلاصُه لله ، وأن يكون المسلم دائمًا وأبدًا لا يسأل إلَّا الله ، ولا يستعين إلَّا بالله ، ولا يطلب المدَد إلَّا من الله ، ولا يعرِضُ شيئًا من حاجاته وطلباته ورغباته وصلاحِ أموره الدِّينيَّة والدُّنيويَّة والأخرويَّة إلَّا على ربِّه ومولاه الَّذي بيده أزمَّة الأمور ومقاليد السَّموات والأرض.
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ﴾؛ وهذا فيه الإلحاح ، وكثرة السُّؤال ، ودوام الطَّلب ، وعدم الاستعجال ، وهذا من الأمور المهمَّة في الدُّعاء ، قد قال عليه الصَّلاة والسَّلام في الحديث الصَّحيح: (( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي )) هذا هو العجلة ، ويقول عليه الصَّلاة والسَّلام : (( لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ )) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا الاِسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: (( يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ؛ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ )) .
ولهذا الواجب على المسلم التَّضرُّع وكثرة الإلحاح والمناجاة والسُّؤال بعد السُّؤال والطَّلب بعد الطَّلب ، وهو على ثقةٍ بإجابة الله سبحانه وتعالى له وتحقيقِه لرجائه وإعطائِه لسُؤْلِه .
﴿ وَخُفْيَةً ﴾؛ وهذا ضابطٌ من الضَّوابط المهمَّة في الدُّعاء : أن يكون دعاؤك بينك وبين الله سبحانه وتعالى ، تسأل اللهَ بينك وبينه مناجاةً ، قد سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : أربنا بعيدٌ فنناديه ؟ أم قريب فنناجيه ؟ أخبر عليه الصلاة والسلام أن الله قريب سميع مجيب .
الدعاء مناجاة بين العبد وبين الله تبارك وتعالى ﴿ خُفْيَةً ﴾ ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فوائد عظيمة تصل إلى عشر فوائد لإخفاء الدُّعاء ذكرها في مجموع فتاواه ، ولعل من رَغِب فيها وطلبها يجدها عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فوائد عظيمة جداً في إخفاء الدعاء .
﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾؛ وهذا أيضًا ضابطٌ من ضوابط الدُّعاء المهمَّة أن لا يعتديَ المسلم في دعائه ، وأعظم العدوان في الدُّعاء أن يُجعل مع الله شريكٌ فيه يدعوه مع الله ويسأله، وهذا هو الشِّرك النَّاقل من ملَّة الإسلام.
ومن الاعتداء في الدُّعاء أو مما يجمع ذلك : مفارقة السُّنَّة وهدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بالوقوع في البدع، والدَّعوات المحرَّمة ، والدُّعاء بالإثم ، ونحو ذلك من المخالفات .
وأيضًا : الوقوع فيما نهى عنه عليه الصَّلاة والسَّلام ، وجاء عنه في أحاديثه الشريفة صلى الله عليه وسلم ذِكْرُ ضوابط وقيود وشروط مهمَّة ، فالخروج عن شريعته وهديه في هذا الباب هو من الاعتداء ، وقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام : (( إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ )) محذِّرًا من ذلك ، ولهذا يجب على المسلم أن يَحذر من أن يكون ممَّن يعتدي في دعائه .
عن ابن سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه وأرضاه - قال: سمِعَني أبي وأنا أقول: «اللَّهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة ونعيمَها وبهجتَها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النَّار وسلاسلَها وأغلالهَا وكذا وكذا، فقال: يا بنيَّ! إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ»، فإيَّاك أن تكون منهم، إن أُعطِيتَ الجنَّة؛ أُعطِيتَها وما فيها من الخير، وإن أُعذتَ من النَّار؛ أُعذتَ منها وممَّا فيها من الشَّرِّ» . ولهذا كان من أكثر ما كان يدعو به عليه الصَّلاة والسَّلام : (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) .
ثمَّ قال تبارك وتعالى : ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾؛ يعني بعد إصلاحها بالإيمان والصَّلاح والاستقامة والعبادة على أيدي الأنبياء ، لا تفسدوها بالمعاصي والذُّنوب .
وهنا لفتةٌ إلى أنَّ الذُّنوب والمحرَّمات والفساد من أسباب ردِّ الدُّعاء ، ولهذا جاء في الحديث الصَّحيح - حديث أبي هريرة - أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبّ يَا رَبّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟! )) . ولهذا قال أحدُ أهل العلم : «كيف تستبطئ الإجابةَ وقد سدَدتَ طرقَها بالذُّنوب» ، ولهذا يحتاج الإنسان أن يبعد نفسَه عن الفساد في الأرض بالمعاصي والمحرَّمات وأنواع الآثام؛ حتَّى يكون مستجابَ الدَّعوة.
﴿ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾؛ وهذا أيضًا من الضَّوابط المهمَّة في الدُّعاء : أن تجمع في دعائك بين الرَّغبة والرَّهبة ، أن تكون خائفًا وطامعًا ، تجمع بين الأمرين : خائفًا من الله ، وخائفًا من أن يُردَّ دعاؤك لتقصيرك لضعفِك لنقصِ إيمانِك ، وأيضًا: طامعًا وراغبًا فيما عند الله سبحانه وتعالى وراجيًا ، تكون حالُك هكذا في دعائك لله ومناجاتك له جلَّ وعلا .
والدُّعاء له ضوابطٌ وله آداب ربما الوقت لا يسع للكلام عليها ، وما ذُكِر فيه فائدة - إن شاء الله – ونفع .
أحد أهل العلم يقول في جمْعه لبعض ضوابط الدعاء :
قالوا شروط الدُّعاء المستجاب لنا              عشــرٌ بـها بشِّـر الدَّاعي بإفلاحِ
طهارةٌ وصلاةٌ معهما نـــدمٌ           وقتٌ خشوعٌ وحسنُ الظَّنِّ يا صـاحِ
وحِلُّ قوتٍ ولا يُدعى بمعصـية            واسمٌ ينـاسب مقـــرونٌ بإلحاحِ
جمع عشرة من الآداب والشُّروط الَّتي ينبغي أن يتحلَّى بها المسلم في دعائه .
وعلى كلِّ حالٍ هذا حديثٌ حول فقه الدعاء ، وكما أشرت في المقدِّمة موضوعُ فقه الدُّعاء موضوع واسعٌ ، وجوانبه كثيرةٌ، ومناحيه متعدِّدةٌ ، فنسأل الله جلَّ وعلا أن يوفِّقنا للخير كلِّه عاجلِه وآجله ما علمنا منه وما لم نعلَم ، وأن يُعيذَنَا من الشَّرِّ كلِّه عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ، وأن يوفِّقنا لحُسن الدُّعاء ، وحُسن العبادة ، وحُسن العمل ، وأن يهدينا سواءَ السَّبيل ، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، وأن يجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنَّه تبارك وتعالى سميعٌ مجيب قريب .

وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire