أفعال العباد
و أقروا أنه
لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله و أن
العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا.
الشرح: قلت: هذا أمر
متفق عليه عند الأئمة وقد نقله عنهم الإمام الإسماعيلي في كتابه اعتقاد أئمة أهل
الحديث [ص (60: 61)]: (ويقولون إنه لا خالق
على الحقيقة إلا الله و أن أكساب العباد كلها مخلوق لله، وأن الله يهدي من يشاء
ويضل من يشاء لا حجة لمن أضله الله ولا
عذركما قال الله قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [سورة الأنعام، الآية: 149]، وقال: "قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء" [سورة
الأعراف، الآية: 29 - 30]،"
وقـال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ "(179) [سورة الأعراف، الآية: 179]، وقال: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن" [سورة الحديد، الآية: 22]، ومعنى (نبرأها) أي نخلقها بلا خلاف
في اللغة، وقال مخبرا عن أهل الجنة: { "ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد " [سورة الأعراف، الآية: 43]، "وقـال: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى" [سورة الرعد، الآية: 31]، وقال: { "إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة" [سورة هود، الآيتان: 118، 119]).
قال التيمي
في الحجة [1 / 421] باب الرد
على الجهمية والمعتزلة: (أفعال العباد وليست بفعل الله وإنما هي مخلوقة له).
وقال
الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث [ص 75- 89]: (ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد أنها
مخلوقة لله تعالى، لا يمترون فيه، ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا
القول وينفيه، ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء إلى دينه ويضل من يشاء عنه، لا
حجة لمن أضله الله عليه ولا عذر له لديه، قال الله "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" [سورة الأنعام، الآية: 149]،
وقال "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من" [سورة السجدة، الآية: 13]، وقال "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها" [سورة الأعراف، الآية: 179].
فسبحانه خلق الخلق بلا حاجة إليهم، فجعلهم
فريقين: فريقا للنعيم فضلا، وفريقا للجحيم عدلا، وجعل منهم غويا ورشيدا وشقيا
وسعيدا، وقريبا من رحمته وبعيدا وكذلك من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله مريدٌ
لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، لم يؤمن أحد به إلا بمشيئته، ولم يكفر أحد إلا
بمشيئته ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة: وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) [سورة
يونس، الآية: 99]،
ولو شاء أن لا يُعصى ما خلق إبليس، فكُفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإلحاد
الملحدين وتوحيد الموحدين وطاعة المطيعين ومعصية العاصين كلها بقضائه سبحانه
وتعالى وقدره وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه، ويرضى الإيمان والطاعة ويسخط
الكفر والمعصية ولا يرضاها، قال الله "إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا" [سورة
الزمر، الآية: 7].
قلت: هذه
خلاصة مذهب أئمة حديث أهل السنة والجماعة، فقد دلت النصوص من الكتاب والسنة
والإجماع على أن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال
وغيرها، وأن مشيئة الله عامة شاملة لجميع الكائنات فلا يقع منها شيء إلا بتلك
المشيئة، وأن خلقه سبحانه الأشياء بمشيئته إنما يكون وفقا لما علمه منها بعلمه
القديم ولما كتبه وقدره في اللوح المحفوظ، وأن للعباد قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم،
وأنهم الفاعلون حقيقة لهذه الأفعال باختيارهم، وأنهم لهذا يستحقون عليها الجزاء
إما بالمدح والمثوبة وإما بالذم والعقوبة، وأن نسبة هذه الأفعال إلى العباد فعلا
لا ينافي نسبتها إلى الله إيجادا وخلقا لأنه هو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت
بها، وقد خالف في هذا.
أولا:
الجهمية الجبرية: فقد سلبوا
عن العبد قدرته وإرادته، فالعبد عندهم كالريشة المعلقة في الهواء، وتأثر بهم أيضا
الأشعرية حيث قالوا إن العبد غير مختار في فعله، وكسب الأشعرية معروف لأنه جبر
متطور لأن معنى الكسب عندهم هو: ( أن العبد إذا صمم عزمه فالله تعالى يخلق الفعل
عنده، والعزم أيضا فعل يكون واقعا بقدرة الله تعالى، فلا يكون للعبد في الفعل مدخل
على سبيل التأثير وإن كان له مدخل على سبيل الكسب، والحق أن الكسب عند الأشاعرة هو
تعلق القدرة الحادثة بالمقدور في محلها من غير تأثير).
ثانيا:
القدرية المعتزلة: و هؤلاء
يقولون إن للعبد قدرة وإرادة مطلقتين مستقلتين عن الله تعالى، قال القاضي عبد
الجبار: (إن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها) فكأنهم أوجدوا
خالقا غير الله وهو الإنسان و لذلك سماهم النبي صلى الله عليه و سلم مجوس هذه الأمة.
و أن الله
سبحانه وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين، ولَطَف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم
وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو
هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا
مؤمنين ولكنه أراد أن لا يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن
يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء
الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون
لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله كما قال، ويُلجئون أمرهم إلى الله سبحانه،
ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال.
اللغة:
- (خذل): أي
حرم التوفيق والعون.
- (طبع على
قلوبهم): ختم عليها فلا تعرف الحق.
- (يلجئون):
أي يفوِّضون أمورهم لله وينزلون حاجاتهم به.
الشرح: أغفل المؤلف رحمه الله تعالى أمرا مهما وهو الحكمة في
تقدير الخير والشر، فالله يهدي من يشاء فضلا ويضل من يشاء عدلا، قال الطحاوي في
بيان اعتقاد أهل الفقه والجماعة [ص (108)]: (يهدي
من يشاء، ويعصم ويُعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا، وكلهم يتقلبون في
مشيئته بين فضله وعدله).
فمن هداه
إلى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، فالله سبحانه حكيم لا
يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة، وحكمته هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله
سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل.
القرآن
كلام الله على الحقيقة غير مخلوق
* ويقولون
إن القرآن كلام الله غير مخلوق.
الشرح: أجمل المؤلف رحمه الله تعالى مذهب أهل الحديث أئمة السنة
في هذه المسألة الخطيرة التي ضل فيها طوائف وفرق عديدة، وحُبس الإمام أحمد بن حنبل
من أجل أنه امتنع أن يقول إن القرآن مخلوق، كما أوذي غيره من علماء السنة بسببها
من المأمون والمعتصم ومن بعده.
وقد بسط
الإمام الحافظ أبو بكر الإسماعيلي والصابوني من بعده والتيمي واللالكائي بيان مذهب
أصحاب الحديث، فقد قال أبو بكر الإسماعيلي في كتابه اعتقاد أئمة أهل الحديث [ص (57)]: (ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه كيفما يُصرف بقراءة
القارئ له بلفظه، ومحفوظا في الصدور، متلوًّا بالألسن، مكتوبا في المصاحف، غير
مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ بالقرآن يريد به القرآن فهو قد قال بخلق القرآن).
قال التيمي
[1 / 368]: (قال
أصحاب الحديث وأهل السنة: إن القرآن المكتوب الموجود في المصاحف، والمحفوظ الموجود
في القلوب، هو حقيقة كلام الله U بخلاف ما زعم قوم أنه عبارة عن
حقيقة الكلام القائم بذات الله و دلالة عليه، والذي هو في المصحف محدث وحروف
مخلوقة، ومذهب أهل السنة وفقهائهم أنه الذي تكلم الله به، وسمعه جبريل من الله
وأدى جبريل إلى النبي صلى الله عليـه وسلـم وتحـدى بـه النبي صلـى الله عليـه وسلم).
فالحاصل أن
مذهب أهل السنة في القرآن هو أن القرآن بلفظه ومعناه كلام الله حقيقة، تكلم به، و سمع
منه جبريل، وسمع من جبريل رسول الله صلى
الله عليه و سلم وسمع
الصحابة من الرسول صلى الله عليه و
سلم وأن الله تعالى تكلم بصوت يسمع، وكما أنه له ذات لا
تشبه الذوات، فكذا صفاته لا تشبه الصفات وكذلك صوته لا يشبه صوت أحد من خلقه، ونحن
نتكلم بالقرآن بأصواتنا، فأصواتنا مخلوقة ولكن كلام الله تعالى غير مخلوق.
وأما
الأشعرية والماتريدية فقالوا: كلام الله كلام نفسي بدون حرف ولا صوت ولا يتجزأ ولا
يتبعَّض، وليس فيه أمر ولا نهي، ولا خبر ولا استخبار، أما التوراة والإنجيل
والقرآن فليس كلام الله على الحقيقة بل هو مخلوق وهو كلام الله مجازا لأنه دال على
كلام الله النفسي.
واختلف
الماتريدية عن الأشعرية بأن قالوا: كلام الله النفسي لا يسمع، فموسى وغيره من
الأنبياء لم يسمعوا كلام الله وإنما سمعوا صوتا مخلوقا في الشجرة، أما الأشعرية
فقد قالوا: كلام الله النفسي يسمع، فكلامهم هذا أبعد عن النقل والعقل لذلك قال
كثير من الأشعرية إن معنى سمع كلام الله أي فهم كلام الله لعلمهم أن القول بسماع
الكلام النفسي سفه وتغفيل.
فالحاصل أن
الجهمية الأولى والكلابية والماتريدية والأشعرية كلهم متفقون ومجمعون على أن هذا
القرآن العربي مخلوق وليس كلام الله على الحقيقة.
بدعة
الوقف في القرآن
و الكلام في
الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم ولا يقال اللفظ بالقرآن
مخلوق أو غير مخلوق.
اللغة:
(الوقف): بمعنى
التوقف في القرآن فلا يقال مخلوق أو غير مخلوق، (مبتدع): هو المحدِث في الدين ما
لم يأذن به الله.
الشرح: الواقفة: هم الذين وقفوا في القرآن فقالوا: لا نقول
مخلوق ولا غير مخلوق، وبدَّعوا من خالفهم، قال الدارمي في التعريف بهم: (ثم إن
أناسا ممن كتبوا العلم بزعمهم وادعوا معرفته وقفوا في القرآن فقالوا: لا نقول:
(مخلوق هو ولا غير مخلوق) ومع وقوفهم هنا لم يرضوا حتى ادعوا أنهم ينسبون إلى
البدعة من خالفهم وقال بأحد هذين القولين). [الرد على الجهمية، ص (432)، ضمن مجموعة عقائد السلف]، أما موقف أهل السنة من الواقفة فقد أفرد عبد
الله بن أحمد في كتابه السنة [(1 / 179)] بابا في
قول أبي عبد الله - أحمد بن حنبل - في الواقفة وفيه: (سمعت أبي رحمه الله وسئل عن
الواقفة؟ فقال أبي: من كان يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي ومن لم يُعرف بالكلام
يجانب حتى يرجع ومن لم يكن له علم يسأل).
وقال عبد
الله: سمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية والواقفة فقال: (من كان منهم
يحسن الكلام فهو جهمي، وقال مرة أخرى: هم شر من الجهمية).
وكذا
اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1 / 323) أفرد بابا
في (سياق ما روي في تكفير من وقف في القرآن شاكًّا فيه أنه غير مخلوق) ذاكرا آثار
علماء السلف من أهل المدينة والكوفة وبغداد ومصر والشام وأهل الجزيرة وخراسان في
تكفير من وقف في القرآن شاكًّا فيه.
وكذا
الدارمي أفرد بابا في الرد عليهم فقد قال: (باب الاحتجاج على الواقفة) [ص (342- 344) ضمن مجموعة عقائد السلف].
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire