el bassaire

vendredi 29 janvier 2016

الـمُخْتَلِفُ مِنْ أَحَادِيثِ الطَّهَارَةِ

الـمُخْتَلِفُ مِنْ أَحَادِيثِ الطَّهَارَةِ


للشيخ إبراهيم الصبيحي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين   أما بعد ..
نحن بِصَدَدِ بيانُ مختلِف أحاديث الطهارة، وإلَّا فهناك أحاديث فِي العبادات مختلفة، وأحاديث في سائر أحكام الفقه، اجتهد الأئمة في بيانها، فوضعوا لذلك «عِلْمَ أُصُولِ الفِقْهِ»، وعلمُ أصول الفقه من مهامِّهِ معرفة التوفيق بين المُخْتَلف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الأحكامِ، فإن هذا العلم فيه بيان لكيفية التوفيق بين السنن؛ لأن من السننِ ما يأتي بلفظٍ عام وآخر بلفظٍ خاصٍّ، منها ما يأتي بدلالة مَنْطُوقِهِ، ومنها ما يأتي بدلالة في المفهوم، بل هناك ما هو أكثر من نوع اللفظ وسياقه، ورود اللفظ في سياقٍ له معنى، ووروده في سياقٍ آخر له معنًى واللفظ واحد، لفظٌ واحدٌ إذا وضع في سياق صار له معنى، وإذا وضع في سياقٍ آخرَ صار له معنى.

ولَعَلِّي أضربُ لكم مثالًا على هذا النوع؛ لأنه قلَّ أن يَرِدَ على الأذهان، نجد كمثال لتغير دلالة اللفظ الواحد إذا اختلف سياقُهُ فقد جاء في السُّنَّة: الأمرُ بالمَسْحِ على الخُفَّيْنِ، والخُفَّانِ معروفان عند العرب، وهو ما يغطِّي أسفل القدم - كِسَاءُ أسفل القدم حتى الكعبين - جاء الأمر بالمسح على الخفين في أسلوبٍ يُسمَّى أسلوب الإثبات - أسلوب إثبات الحكم على الخفين - هذا نوع وهو ورود الاسم ويقال: الاسم المطلق، لماذا مطلق؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالمسح على الخفين لم يقل: امسحوا على الخُفَّيْنِ المُخَرَّقَيْن، كما أنه لم يقُلْ: لا تسمحوا على الخُفَّيْنِ المُخَرَّقين، إذن ورد اسم الخف عارٍ عَن القيدِ، لا بنفي القيد ولا بإثباته، إذن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، فسموا هذا إثبات، ما معنى إثبات؟ إثبات الحكم على الخُفِّ، بمعنى مشروعية المسح على الخُفَّيْنِ، لكن لم يوصفِ الخفَّانِ لا بتَخْرِيقٍ ولا بغيره، هذا سياق ورود الاسم المطلق في سياق الإثبات، والمراد بالإثبات: إثبات الحكم على الخف.


جاء ذكر الخُفَّان في سياق آخر، وهو سياق النفي؛ لأنه دائمًا مقابلُ الإثبات النفي، جاء بنهي المُحرِم عن لَبس الخُفَّيْنِ إذا وَجَدَ النعلين، هل الخفاف وردت في سياق النهي للمُحرِم؟ المُحْرِمُ منهيٌ أن يلبس الخف، والمتوضأ مشروع له أن يمسح على الخف، أسلوبان مختلفان واللفظ واحد. هل دلالة اللفظ فِي السِّيَاقَيْنِ واحدة أو هي مختلفة؟ وأين نجد هذا المعنى وهذا التفريق؟ اللفظ واحد، والسياق مختلف، والأحكام مختلفة.

فإن ذِكْرُ الخف فِي الإثباتِ قالوا: يُحمل على الكمال، ما معنى الكمال؟ أيِ أن الخُفَّ الكامل، فنأخذ منه حكم، وهو عدم جواز المسح على المُخَرَّق، من أين أخذنا هذا الحكم؟ من لفظ الخُفِّ الذي لم يُنهَ فيه عَن المسحِ على المُخَرَّق، لكنَّ الأسلوب الذي ورد فيه أسلوب إثبات، واللفظ المطلق إذا ورد فِي الإثباتِ يُحمل على الكمال؛ لأن العرب لم تصنع خفافها مخرَّقة، إنما صنعت الخفاف سليمة. هذا دليل مَن يرى عدم جواز المسح على الخُفِّ المُخَرَّق، كيف استدلوا؟ قالوا: لورود اللَّفْظِ المطلق في سياق الإثبات فهو يُحْمَلُ على الكمال.

 نُقَرِّبُ لكم المسألة، الناس في تعاملاتهم اليومية، قد يشتري الإنسان قَمِيصًا من المحلِ، هذا الشراء نُسمِّيه إثبات الحكم على القميص؛ لأنَّ القميص تمَّ عليه إثبات البيع والشراء، فهل يلزمك أيُّها المشتري أن تشترط على البائع أنَّ القميصَ يكون سليمًا ولا يكون مخرَّقًا أو لا يلزم؟ أنت تشتري كساءً، هل تشترط على مَنْ يَبِيعُكَ أن يكون هذا الكساء سليمًا؟ فإن تم الشراء ولم تشترط، فبان القميص مخرَّقًا فما الحكم؟ تذهب تردُّهُ على البائع، قال البائع: أنت لم تشترط عليَّ السلامة، وما شرطت أن القميص يكون سليمًا، يقول المشترى: وأنت لم تشترط عليَّ أن القميص مخرَّقٌ، ولو اشترطت ما اشتريت، أنا أريد أن ألبس واكتسى، فذهبتما إِلَى القضاء فلِمَنِ الحكم؟ وما الحُجَّة؟ القاضي سيحكم برد المعيب ولو لم يشترط عليك البائع، لماذا؟ أخذًا من القاعدة التي ذكرتها لكم، اسم مطلق من الوصف ثبت عليه الحكم، فالأصل فيه السلامة، فيُرَدُّ المَعِيبُ، إذن ما المخرج للبائع؟ أن يشترط عليك أنه مَعِيبٌ، فلو اشترط أنه مَعِيبٌ صح البيع.

لو اشتريت سيارةً ولم يشترط عليك أنها معيبةٌ، ثم بان العَيْبُ، فمِنْ حقك أن ترد؛ لأن الأصل أنك أثبت الحكم وهو البيع على عين لم توصف. فهذه القاعدة الأصولية تنفعنا في أحاديث العبادات وفي أحكام المعاملات.


هذا مثالٌ لِلَفْظِ الخفِّ الوارد فِي السنةِ مطلق، لم يوصف الخف الممسوح عليه لا بتخريق ولا بعدمه. إذن: الحديث يدل على أنه لا يجوز المسح على المخرَّق، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم امسحوا على المخرَّق.

وَلِمُعْتَرِضٍ أن يقول: ولم يقل: لا تمسحوا على المخرَّق، نقول: صحيح لم يقل، لكن ورود اللفظ في سياق الإثبات يغني عن نفي الحكم على المخرَّق، يعني: لما جاء اللفظ فِي الإثباتِ كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمسحوا على المخرَّق، هو لم يَقُلْهَا، لكن فهمنا من ثبوت الحكم على المطلق فِي الإثباتِ السلامة.
 المثال المخالف لهذا وهو النهي، عندما تقول لشخص لا تشترِ خُفًّا، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لُبْسِ الخِفَاف للمُحرِم، هذا سَمَّوْهُ ورود الاسم فِي النفيِ، إذا جاء الاسم فِي النفيِ فإنه يدل على العموم، لا تَشْتَرِ خُفًّا ، أو خُفًّا، أو سيارة معيبة أو سليمة فهو عاصي؛ لأنك نهيته عَن الشراءِ، يقول: أنت لم تقل لا تشترِ، أنا فهمت من كلامك لا تشتري سليمًا فوجدته معيبًا، نقول: كله يدخل فِي النهيِ، ولذلك نص الأئمة على أَنَّ المُحرِم لا يجوز أن يلبس الخف المخرَّق والمقطوع والسليم على حَدٍّ سواء، لماذا وَحَّدُوا الأحكام الثلاثة؟ لأنَّ اللفظ النبوي جاء في سياق النهي، فإذا جاء اللفظ المطلق فِي النهيِ صار من ألفاظ العموم، وإذا جاء اللفظ المطلق فِي الإثباتِ صار من ألفاظ الكمال.
 هذه المعاني أيها الأخوة مهمة لطالب العلم؛ حتى يعرف كيف يستنبط من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبَقَنَا أئمة الإسلام وقَعَّدوا هذه القواعد، فما علينا إلا أنْ نَنْهَلَ من علمهم لنفهَمَ سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 هناك مَنْ لا يُفَرِّقُ بين ورود اللفظ المطلق فِي السياقَيْنِ؛ فيرى ثبوت الحكم على الخف المخرَّق، وجواز المسح على الخف المخرَّق وعلى غير المخرَّق، ويقول: على من منع المسح على المخرَّق، عليه الدليل، كونه يطلب الدليل من حقه؛ لأنه لا قول إلا بدليل، لكن هل الدليل معدوم أو موجود؟ عندما تبحث فِي السنةِ وفي مصادرها المختلفة لا تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمسحوا على المخرَّق، ولم ينهَ النبي، لكن من أين عرفنا؟ من سياق الورود.

إذن: ثبت بالدليل عن طريق استنباط القاعدة الأصولية، فإننا إذا عرفنا كيف نتعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقواعد الفهم وقواعد الاستنباط؛ لأن أصول الفقه هي قواعد الفهم، كيف تفهم؟ لا تفهم هكذا كيفما اتَّفَقَ، أو تفهم على الأسلوب الذي أنت عِشْتَ في مجتمعٍ فيه، إنما تفهم بقواعد، هناك أحاديث تَرِدُ وتحتاج إلى مزيد عناية، وسنأخذ إن شاء الله الأمثلة في الأيام القادمة.

 هناك حديث يَرِدُ يحتمِلُ أكثر من معنًى، وظاهره لا يحتمل إلا معنى واحد، حديث محفوظ وألفاظه ظاهرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِزْرَةُ المُؤْمَنِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ» الإِزَارُ معروف، ونصف الساق معروف، هل هذا الحديث جاء لبيان حكم النصف الأعلى أو النصف الأسفل؟ قوله: (إِزْرَةُ المُؤْمَنِ) يحتاج إلى تَأمُّلٍ ونَظَرٍ وتَفَهُّمٍ. (إِلَى نِصْفِ السَّاقِ) هل جاء الحديث لبيان ما يُكره كشْفُهُ وهو النصف الأعلى من الساقِ حمايةً للعورة، أو لبيان ما يُستحب كشفه وهو النصف الأسفل من الساقِ؟ إِذْ إنَّ الدليل الواحد لا يدل على أمرَيْنِ متعارِضَيْنِ؛ لأنَّ كشف النصف الأعلى مكروه، فهل كشف النصف الأسفل مستحبٌّ من هذا الحديث؟ تجدُ أنَّ هذا يحتاج إلى تأمُّلٍ، لماذا نتأمَّل؟ لِنُقَوِّي المَلَكَةَ الفِقهِيَّة، الملكة الفقهية تحتاج إلى تدريب، إذن: هل هذا الحديث جاء لبيان حكم النصف الأعلى من الساقِ، أم لبيان حكم النصف الأسفل؟ أي: هل هو لبيان ما يصلح كشْفُهُ، أو لبيان ما يستحب ستْرُهُ؟ أترك الجواب لتأملاتكم ومتابعتكم.

 إذن؛ هذه الأحاديث الكريمة نحتاج فيها إلى علم يُعينُنَا بعد الله تعالى على فَهْم سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأيتم كيف أنَّ لْفَظَةً واحدة تختلف دلالتها بحسب سياقها، وهي كلمة حكم، فإِنْ وردت فِي الإثباتِ فلها دلالة، وإن وردت فِي النفيِ فلها دلالة، واللفظ واحد، يسمى مطلق إما فِي الإثباتِ أو فِي النفيِ.
أعرف أن بعض طلاب العلم ربما عَلَقَ في ذهنه أنَّهُ لا دليل عند مَنْ يرى عدم جواز المسح على المخرَّق، يقول: لا يوجد دليل، وقد سُبق إلى هذا، لكن هل فِعْلًا لم يَرِدِ الدليل، أم أنَّ الإشكال في استنباط الدليل؟ الإشكال في استنباط الدليل، فأئمة الإسلام لَمَّا وضعوا قواعد الاستنباط قصدوا منها كيفية الوصول إلى فهم السنة.
مثالٌ: يَرِدُ عَن النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرِدَ السنة بالأقوال تَارَةً، وتَارَةً تَرِدُ بالأفعال، وتَارَةً تَرِدُ بالتقرير، وتَارَةً تَرِدُ بالتُّروكَات -الترك- هذه التُّروكات هي من الدلالة، مِنَ الأمور التي بيَّن بها النبي صلى الله عليه وسلم الشريعة؛ لأسرار. بيان النبي صلى الله عليه وسلم تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بالتقرير، وتارة بالترك، والترك نوع من أنواع الفعل؛ لذلك بعض أهل العلم لا يجعله قسمًا مستقِلًّا، هذه لحِكْم، إذْ لو بُيِّن الفعل فِي القول لاختلَّ التشريع، وما بيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل لو بيَّنَهُ بالقول لحصل إشكال، فلما بيَّنَهُ بالفعل اتَّفَقَتِ الشريعة، وفُهِمَتْ، وحصل المراد، فتنوُّعُ الدلالات أيها الإخوة من النبي صلى الله عليه وسلم لحكمةٍ، وهي بيان الشريعة.

 أَضْرِبُ لكم مثالًا: ورد عَن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عَن البولِ قائمًا، والأصل فِي النهيِ ما هو؟ التحريم، هذا هو الأصل، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم: بُولُوا قيامًا، ولمْ يَقُلْ، نقول: لو افترضنا أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أَنْ يُبَيِّنَ جواز البول قائمًا، لَقِيلَ هذا من باب النسخ - نسخ الحكم - والمراد أنَّ البولَ قائمًا يبقى منهيٌ عنه، إذن ما المناسب له؟ المناسب أن يُبَيِّنَهُ بِالفعل، وهذا ما حصل، فلم يَرِد عَن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بولوا قيامًا، لكن ورد عنه النهي عَن البولِ قائمًا، ولَمَّا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُخَفِّفَ الحكم بَيَّنَهُ بالفعل، فبال قائمًا.

إذن: ما المراد من وجود الفعل هنا؟ المقصود تنزيل النهي من التحريم إِلَى الكراهة، والحكم أول ما جاء النهي على التحريم، ثم أراد عليه الصلاة والسلام أن يُخَفِّفَ عَن الأمةِ، كيف تكون وسيلة التخفيف؟ إذ لو قال عليه الصلاة والسلام: بُولُوا قيامًا، لرُبَّمَا قال أحد من أهل العلم: أنه يجب البول قائمًا؛ لأن هنا أمرٌ وناسخٌ للنهي، فلمَّا لم يَحْصُلْ هذا، إنما حصل أنه عليه الصلاة والسلام بال قائمًا، قالوا إنَّ الفعل لا يَنْسَخُ القول، وإن النهي الوارد فِي الحديث الأول لم يبقَ على دلالة التحريم، لوجود الفعل؛ فنزل النهي من التحريم إِلَى الكراهة، كيف حصل هذا؟ عن طريق ورود الفعل.

إذن: ورود الأفعال لأجل تنظيم التشريع، وهذا ما حصل فعلًا واستنبطه أهل العلم؛ إذ لو وُضِعَ بدل الفعل قول لحصل غير المراد، فصار إذن البول قائمًا منهيٌ عنه عن طريق الكراهة. ربما أحدكم يسأل ويقول: هل يفعل النبي عليه الصلاة والسلام المكروهات؟ ما دمتم تقولون: بأن البول قائمًا مكروه، وقد فعله صلى الله عليه وسلم، فهل النبي يفعل المكروه؟ نقول: هو عليه الصلاة والسلام لا يفعل المكروه، بل هو مأجور عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا الفعل جاء من باب التشريع، وليس لك أنت أن تفعل، تقول: أنا أبول قائمًا اتباعًا للسنة، ليس لك هذا، لماذا؟ لأن القول أقوى، والنهي فِي الأصل للتحريم، ثم نزل من التحريم إِلَى الكراهة، فبقي البول بالنسبة للأمة دائمًا مكروه. أما بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فإنه لم يفعل مكروه، لماذا؟ لأنه للتشريع، فهو عليه الصلاة والسلام مأجور على فعله.

إذن نحن لنا تعامل مع الفعل، كما لنا تعامل مع القول، وليست حالنا كحال الرسول عليه الصلاة والسلام في كل حال؛ إذ إنه عليه الصلاة والسلام لـمَّا فعل فعلًا فهو تشريع، وأنت إذا فعلت فعلًا لا تأخذ أجر التشريع، أليس كذلك؟ ليس لك حق فِي التشريعِ، إذن قلنا: بأنه مأجور عليه الصلاة والسلام، ولا يفعل مكروهًا بالنسبة له؛ لأن عمله عمل التشريع عليه الصلاة والسلام.

 وأمثلة كثيرة في مثل هذا، كنهيه صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة بِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ ثم استقبل فعلًا، وكنهيه عليه الصلاة والسلام عَن الشربِ قائمًا ثم شَرِب قائمًا، فتأتي تروكات، ليست فعلًا بل يترك، ومعلوم أن جزءًا من الشريعة ترك، وهذا يتحقَّق في ركن الصيام؛ فإن الصيام ما هو إلا إمساك عَن الفعلِ -عن الأكل والشرب وتناول المفطِّرات- فالصيام ترك، الصائم ليس كالمصلي، الصلاة أقوال، وأفعال. إذن الصيام تروكات، تارة النبي صلى الله عليه وسلم يترك.

مثاله: ترك الوضوء مما مَسَّتِ النار، إذ لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: توضئوا أو لا تتوضئوا لصار نهيًا، فترك. ترك النبي عليه الصلاة والسلام أكل الضَّب، إذ لو قال لا تأكلوا لصار نهيًا وتحريمًا. إذًا ما الحل المتصور عقلًا؟ ألا يفعل، فلم يأكل الضب عليه الصلاة والسلام فسُمَّي هذا من باب التروكات.

إذن معرفة أنواع السنة، ومعرفة التوفيق بين دلالاتها مفتاح الوصول إِلَى التوفيقِ بين المختلف من الحديث، تارة يكون الإشكال في فهم الحديث، وتارة يكون الإشكال في تعارض حديث مع حديث، وسيأتينا إن شاء الله فِي المحاضرةِ القادمة أمثلة لهذا.

إذن: فهمنا أنَّ السنة تحتاج معرفتها إلى قواعد، وقد سلك هذا الأئمة، سلكوا هذه القواعد وقعَّدوها، بل وصنفوا فِي المختلفِ من الحديث مصنَّفات، ومن أوائل من صنف الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب له ليس بالكبير «مختلف الحديث» أو «اختلاف الحديث»، للإمام رسالة مُلحَقَة بـ«الأُمِّ»، هذه الرسالة فتح فيها رحمه الله مفتاح التوفيق بين السنن من حيث التصنيف، وإلا فإن الفقهاء وشُرَّاح الحديث يتحدثون عَن التوفيقِ، لكن صنف الإمام الشافعي رحمه الله كتابًا مستقلًا في هذا الفن.

كما صنف ابن قتيبة «تأويل مختلف الحديث» وقد وضع له مقدمة، وبيَّن أن الناس اختلفوا فِي الأحكامِ وَفِي العقائدِ بناء على اختلافهم في فهم السنة، ثم ذكر أحاديث تمسك بها الخوارج، وأحاديث تمسك بها المرجئة، وأحاديث تمسك بها القدرية، وأحاديث تمسك بها الرافضة، فاجتهد رحمه الله وأجاب عن هذه الأحاديث حديثًا حديثًا.

وهذا يدلنا على أهمية معرفة منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة في فهم السنة، ولذلك يقال عن أحد طوائف أهل الأهواء يأخذون حديثًا ولا يردونه إِلَى الحديث الآخر، يأخذون سنَّةً ولا يردونها إلى كتاب الله، فسُموا أهل الأهواء، وأما سلف الأمة فَهُم أهل الحق. وابن قتيبة رحمه الله من الدعاةِ إلى منهج أهل الحق.
كذلك جاء الإمام الطحاوي رحمه الله فِي القرنِ الرابع وصنف كتابه «مشكل الحديث» وهو كتاب ضخم كبير، اجتهد فيه رحمه الله، يجمع أحاديثَ ويُوفِّق بينها، على أصوله -أصول الحنفية-؛ لأن لكل مدرسة أصول، وقد اجتهد رحمه الله وأجاب عن مجموعة كبيرة من الأحاديث التي ظاهرها الإشكال والتعارض.


كذلك جاء فِي القرنِ السادس الحازمي وصنف كتابه «الاعتبار فِي الناسخِ والمنسوخ» فِي القرنِ السادس عاش رحمه الله وتوفي فيه، هذه جهود للأئمة في بيان ما أَشْكل من السنةِ.

وقلتُ لكم: إن مفتاح الفهم في قواعد الأصول، مَنْ لم يعرف أصول الفقه، ولا أعني بأصول الفقه ما يتبادر لبعض الإخوان من النقاشاتِ العقلية، إنما المقصود به القواعد المرضية، مِنْ معرفة التوفيق بين العام والخاص، من معرفة دلالة الألفاظ، وهذا من أهم ما في أصول الفقه، دلالة الألفاظ أنْ تَعْرِفَ الألفاظ العامة والخاصة، وتعرف ما الذي يدل عليه الحديث وكيف تُوفِّق، هذه قواعد مهمة.

الأئمة الفقهاء اجتهدوا في مصنفاتهم الفقهية لا على سبيل الاستقلال، إنما يذكرون فِي البابِ ما يعارض ما يريدونه من أحاديث، هذه من المهامِ. ومن المهامِ أيضًا في فهم السنة النبوية معرفة اللغة العربية، ليس معرفتها بأننا عَرَبٌ نتعامل فيما بيننا، لكن معرفتها باعتبار أنها لغة القرآن، ورد القرآن ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾، تعرف حدود اللغة، حتى تفهم السنة، وحتى تفهم القرآن، وبعض الاختلافات فِي الفتوىِ رُبَّما مردها إِلَى الاختلافِ في فهم لفظ القرآن، أو فهم لفظ السنة.
فلو بحثتَ أين تجد هذه اللغة التي يُفهم بها القرآن وتفهم بها السنة؟ هي موجودة في كتب التفسير، وَفِي الكتبِ المصنفة فِي اللغة العربية، وَفِي الكتبِ المصنفة في غريب القرآن، والمصنفة في غريب الحديث، إذن هذه أربع مصنفات تحتوي على اللفظ العربي الذي إذا فهمته بإذن الله تهتدي إلى فهم السنة وفهم القرآن، إذن كتب التفسير، كتب غريب الحديث وهي كثيرة، كتب اللغة العربية، والمكتبات مليئة، غريب القرآن الكريم.

عِلْمًا بأن شُرَّاح الحديث يتعرَّضون كثيرًا لتحليل الألفاظ العربية، تجد كلمة يتباين بها الناس في فهمهم، ولو ردوها للسان العرب لَانْحَلَّ الإشكال. وأذكر لكم مثال: كلمة (سَفَرَ) وردت فِي القرآن الكريم، وردت (سَفَرَ) وربط بها الإفطار، والصلاة ربطت بالضرب، والإفطار ربط بماذا؟ بالسفر، إذن لفظان رُبِطَتْ بهما أحكام القصر والفطر فِي السفرِ، لفظ الضرب في حكم القصر، ولفظ السفر في حكم ماذا؟ في حكم [السفر] ، ما هو السفر؟ ونحن أبناء اللغة العربية كما ندعي، أليس كذلك؟ أخذنا اللغة العربية عن أهلنا ومجتمعنا والحمد لله، لكن ما المراد بالسفر المذكور فِي القرآن؟ هذه الكلمة أدركها أصحاب القرون المفضلة من الصحابة رضي الله عنهم وأئمة الإسلام، وخَفِيَتْ على بعض المتأخرين فِي الأُمَّةِ، أقول: خفيت على بعضهم، وربما يقرأ طالب العلم في كتب الفقهاء فيقول: هذا كتاب مذهبي ولا يلتفت لما فيه من تحرير، علمًا أن هذه الكتب الفقهية موروثة عن علماء القرون المفضلة، فتجد أن الأربعة أصحاب المدارس المشهورة، في أي زمن عاشوا؟ أليسوا فِي القرونِ المفضلة؟ إذن علمهم الموجود، الموجود الفقهي الآن فِي الأصل منسوب لعلماء القرون المفضلة.

فتجد فِي المذهب مثلًا يقول: السفر مسافة يومين قاصدين، ويأتي من يأتي من المتأخرين ويقول: السفر العُرْفُ، هذا وراد أم غير وارد؟ وربَّما رجَّح أكثركم أنه العرف، وقلة ربما قالوا: بأنه مسافة يومين قاصدين.

فعندنا إذن كلمة فِي القرآن الكريم جعلها الله الحد لجواز الفطر، وهي من حدود الله، فمَنْ سافر فله أن يفطر، ومَنْ لم يسافر ليس له أن يفطر، ما هذه الكلمة؟ أي ما معناها؟ هل معناها مسافة يومين، أو معناها العرف.

إن قلتم العرف قلنا: أين أعراف السابقين؟ هل تجدون في كتب أهل الفقه على مختلف المذاهب أحد حدَّد لكم العرف؟ فقال: عُرْفُ أهل الشام كذا، وعُرْفُ أهل اليمن كذا، وعُرْفُ أهل العراق كذا، وعُرْفُ أهل إفريقيا كذا، لا يوجد أحد يحدد، أين هذا؟ لا عند المالكية، ولا الشافعية، ولا الحنفية، ولا الحنابلة؛ لأن هذه المذاهب الأربع هي المقتسمة للعالم الإسلامي، أليس كذلك؟ هي المقتسمة، أين العُرْفُ؟ لا نجد لا عند السابقين ولا عند اللاحقين، إذن أين الأعراف؟ حتى المتأخر تجد كل إنسان له عرف خاص به، بينما في كلام المتقدمين ربطوها بالأيام؛ فالمالكية يومًا، والشافعية والحنابلة يومين، والحنفية ثلاثة أيام، هذه يفهمها العامة أم لا يفهمها العامة؟ والعرف؟

نحن في هذا المسجد -ما شاء الله- جَمعٌ مبارك من طلبة العلم نختلف، كل إنسان له عُرْفُ. إذن الخلاف وارد بين علماء المسلمين، ونحن نريد أن نحلَّ من اللغة العربية، حتى نرفع الخلاف قدر المستطاع، وننظر أي الأقوال أصوب، إذا فتحتم كتاب «لسان العرب» ووجدتم كلمة سفر، والسفر ليس مجرد المشي فِي الصحراءِ، بل عندنا الحطَّاب، وعندنا الراعي، وعندنا المنبت الضائع، وعندنا الصياد، وعندنا الرائد، أسماء متعددة، كلهم يمشون فِي الصحراءِ، والله ربط الحكم لمن؟ فِي السفرِ، إذن ما هو السفر؟

يقول أهل اللغة في «لسان العرب»: السفر قصد قطع المسافة، تقصد أن تسير تقطع مسافة، ما تقصد رعى الغنم ولا البحث عَن الصيدِ والحطب، إذن السفر قصد قطع المسافة. ما هي المسافة؟ قالوا: المسافة هي المفازة، ما هي المفازة؟ قالوا: المفازة نفسها تأتي بمعنى المهلكة، أي قصد قطع المسافة التي تُهْلِكُ الإنسان إذا تاه، فسمَّوْها المفازة من باب التفاؤل، وإلا فاسْمُها على التشاؤم المهلكة، إذن قصد قطع المسافة، المسافة ما هي؟ المفازة، ما هي المفازة؟ كلها فِي اللغةِ، كلها في «لسان العرب»، أبواب تنتقل من باب إلى باب، قالوا: المفازة هي ربع ورد الإبل، وغِب ورد الغنم، الإبل ترد لثمان والغنم ترد ليومين، إذن كم تكون؟ مسافة يومين، هذه كتب اللغة التي تحدد دلالة (سفر)، الذي رُبِط الحكم فيه بالقرآن.

وهذا سبيل من سبل معرفة الكتاب والسنة، معرفة دلالة الألفاظ، إذن أين العُرْفُ؟ لا وجود له. ارجع للصحابة، تجد ابن عباس رضي الله عنه يقول: يا أهل مكة، لا تقصروا إلى عرفة، إذا خرجتم إلى عرفة لا تقصروا، إنما إِلَى الطائفِ أو عُسفان. وفي رواية: أو جدة، ووجدوا أن هذه المسافة التي قدرها ابن عباس هي مسيرة يومين. فاللغة العربية معرفتها تعطيك قوة فِي الترجيحِ وَفِي الفهمِ.
أذكر لكم مثالًا آخرَ وهو كلمة (إزار)، ما هو الإزار؟ الإزار عند العرب هو المِلْحفة، ما هي المِلْحفة؟ المِلْحفة هي المُلاءة، هذا كله من كلام أهل اللغة، الملاءة مستخدمة في مصر، وهي نوع من أنواع الألبسة -كساء- ما هي الملاءة؟ قالوا: الملاءة هي الرَّيْطَة، إذن قد انتقلنا فِي اللغةِ من باب الإزار إلى كلمة لحف، إلى كلمة ملأ، إلى كلمة رَيَطَ، هذه كلمات مركبة، ما الريطة؟ قال: هي الإزار غير المخيط، إذن الإزار ما هو؟ نستخرج من هذه الكلمات الأربع أنه غير المخيط، إذن لا يجوز الإحرام بإزار مخيط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ» عرفنا الإزار من اللغةِ.


ثم نهى صلى الله عليه وسلم عن السراويلِ وقد جاءت بلفظ: «السَّرَاوِيلَاتِ»، ما هي السراويلات؟ قالوا: السراويلات أربعة أنواع، كلها سراويل، والقميص نوع واحد، بل جاء فِي الحديث الجمع السراويلات، أربعة أنواع سراويل: الأول ذا الساقين الذي نحن نلبسه، الثاني سراويل النساء، ما هو؟ التَّنُّورَة، النساء يلبسون التنانير، هذه التنورة عند العرب اسمها نُقبة، فِي اللغةِ لا تجد كلمة تنورة، كلمة تنورة كأنها محدثة، وُجدت فِي القرنِ السابع الهجري، كلمة تنورة ذكرها ابن بطوطة في رحلته، وكانت من ألبسة الصوفية أول الأمر، النُقبة هي نفس التنورة لكن لها تَكَّة، والتكة معروفة، فإن لم يكن لها تكة فهي نطاق، والنطاق والنُقبة من ألبسة نساء الناس فِي الجاهليةِ والإسلام، يقال: أول من لبس النطاق أم إسماعيل، والصحابيات كُنَّ يَلْبِسْنَ النقبة، لكن التي تسمى الآن تنورة.


والفرق بين النطاق والنقبة أن النطاق ليس له تِكَّة يُربط بالحبل، يعني مثل الكيس مفتوح من أعلاه وأسفله، وتثبته المرأة بالحبل. هذه كلمات تُفَهِّمُنا السنة، وتُعَلِّمُنَا كيف نُحرِم، هل نُحرِم بالسراويل؟ أو نُحرِم بالإزار؟ إذا فتحت كتب اللغة لا تجد صفات الإزار إلا بعد أربعة أبواب، إزار ملحفة، ملحفة ملاءة، ملاءة ريطة، ريطة إزار. هذه معاني يا إخوان تنفع طالب العلم في فهم كتاب الله وفي فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أسباب فهم مختلف الحديث.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire