el bassaire

samedi 28 septembre 2013

الميَاهُ، وأقْسَامُها||الماء المطلق

كتاب الطْهَارةُ
الميَاهُ، وأقْسَامُها||الماء المطلق
1ـ ماء المطر والثلج والبَرَد، لقول اللّه تعالى: " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ " [سورة الأنفال: 11]، وقوله تعالى: " وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً " [سورة الفرقان: 48]. ولحديث أبي هريرة -رضي اللّه عنه- قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا كبّر في الصلاة، سكت هنيهة قبل القراءة، فقلت: يا رسول اللّه -بأبي أنت وأمي- أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرَد"(1) رواه الجماعة، إلا الترمذي.
2
ـ ماء البحر، لحديث أبي هريرة -رضي اللّه عنه- قال: سأل رجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور(2) ماؤه، الحلُّ مَيْتته"(3). وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ؟ فقال: حديث صحيح.
3
ـ ماء زمزم، لما روي من حديث علي -رضي اللّه عنه- أن رسولَ صلى الله عليه وسلم دعا بسجْلٍ(4) من ماء زمزم، فشرب منه، وتوضأ. (5) رواه أحمد.
4
ـ الماء المتغير بطول المكث أو بسبب مقرِّه أو بمخالطة ما لا ينفك عنه غالباً كالطحلب وورق الشجر، فإن اسم الماء المطلق يتناوله باتفاق العلماء.
والأصل في هذا الباب أن كل ما يصدق عليه اسم الماء مطلقاً عن التقييد يصح التطهُّر به؛ قال اللّه تعالى: "فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا" [سورة المائدة: بعض الآية 6].

(1)البخارى:كتاب الأذان- باب ما يقال بعد التكبير (1/189) ومسلم: كتاب المساجد- باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة (1/149)، رقم (147) وأبو داود: كتاب الصلاة- باب السكتة عند الافتتاح، رقم(781)،(1/492) ومسند أحمد (2/231)، والنسائى:كتاب الافتتاح- باب الدعاء بين التكبيرة والقراءة (2/128)، برقم (895) (2)لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جوابه: "نعم"؛ ليقرن الحكم بعلته، وهو الطهورية المتناهية فى بابها، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حل الميتة؛ إتماماً للفائدة؛ وإفادة لحكم آخر غير المسؤل عنه، ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم، وهذا من محاسن الفتوى.
(3)
أبو داود: كتاب الطهارة- باب الوضوء بماء البحر (1/64) رقم(83)، وموارد الظمآن: كتاب الطهارة- باب ما جاء فى الماء (1/60) رقم(119)، والنسائى: كتاب الطهارة- باب ماء البحر، رقم (59)، (1/50/176)، برقم (333)، والترمذى: أبواب الطهارة- باب ما جاء فى البحر أنه طهور (1/100) برقم (69) وقال: حديث حسن صحيح، ومسند أحمد (2/361، 3/373)، وابن ماجه: كتاب الطهارة- باب الوضوء بماء البحر (1/136)، برقم (386،387،388)، والحديث صححه الشيخ أحمد شاكر، وحسنه الشيخ الألبانى، فى:إرواء الغليل (13)، وصححه فى: صحيح النسائى (1/14) وصحيح ابن ماجه(386).
(4)"
السجل" الدلو المملوء.
(5)
الحديث لم يروه الإمام أحمد، وإنما رواه ابنه عبد الله فى: الزوائد (1/76) وصححه الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- وحسنه الشيخ الألبانى فى:إرواء الغليل رقم(13).
الماءُ المُسْتَعْمَلُ
وهو المنفصل من أعضاء المتوضئ والمغتسل، وحكمه أنه طهور كالماء المطلق، سواء بسواء اعتباراً بالأصل، حيث كان طهوراً، ولم يوجد دليل يخرجه عن طهوريته، والحديث للربيع بنت معوِّذ في وصف وَضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قالت: "ومسح رأسه بما بقي من وضوء في يديه". رواه أحمد، وأبو داود، ولفظ أبي داود: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء كان بيده(1). وعن أبي هريرة -رضي اللّه عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنُب، فانْخَنَس منه، فذهب، فاغتسل، ثم جاء، فقال: "أين كنت يا أبا هريرة"؟ فقال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال: "سبحان الله، إن المؤمن لا يَنْجس"(2). رواه الجماعة، ووجه دلالة الحديث: أن المؤمن إذا كان لا ينجس فلا وجه لجعل الماء فاقداً للطهورية بمجرد مماسته له؛ إذ غايته التقاء طاهر بطاهر، وهو لا يؤثر.
قال ابن المنذر: روي عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة، وعطاء، والحسن، ومكحول، والنخعي، أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد بللاً في لحيته: يكفيه مسحه بذلك. قال: وهذا يدل على أنهم يرون المستعملَ مطهِّراً، وبه أقول.
وهذا المذهب إحدى الروايات عن مالك والشافعي، ونسبه ابن حزم إلى سفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر.

(1) مسلم: كتاب الطهارة- باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم (1 / 211) برقم (19)، مسند أحمد (4 / 39، 40، 41، 42)، وأبو داود: كتاب الطهارة- باب الوضوء مرتين (1 / 95)، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماء جديداً (1 / 50، 51)، رقم (35) جميعها بلفظ: "بماء غير فضل يديه". فانظر تحقيق الشيخ شاكر لهذه المسألة في: الترمذي (1 / 50، 51،53)، هامش رقم (1).
(2)
البخاري: كتاب الغسل- باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره (1 / 79، 80)، ومسلم:كتاب الحيض- باب الدليل على أن المسلم لا ينجس (1 / 282)، رقم (115)، وأبو داود: كتاب الطهارة- باب في الجنب يصافح (1/52)، والنسائي: كتاب الطهارة- باب مماسة الجنب ومجالسته (1 / 145)، والترمذي: أبواب الطهارة- باب ما جاء في مصافحة الجنب (1 / 207، 208)، برقم (121) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وابن ماجه:كتاب الطهارة- باب مصافحة الجنب (1 / 78)، رقم (534)، ومسند أحمد (2 / 235
الماءُ الذي خالَطَه طاهِر
كالصابون، والزعفران، والدقيق، وغيرها من الأشياء، التي تنفك عنها غالباً.
وحكمه، أنه طهور، ما دام حافظاً لإطلاقه، فإن خرج عن إطلاقه، بحيث صار لا يتناوله اسم الماء المطلق، كان طاهراً في نفسه، غير مطهر لغيره؛ فعن أم عطية، قالت: دخل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، حين توفِّيت ابنته، "زينب"، فقال: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسِدْر، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فَرغْتُنَّ، فآذِنَّنِي". فلما فَرَغْنَ آَذَنَّاهُ، فأعطانا حِقْوَهُ، فقال: "أشْعِرْنَها إِيَّاه"(1). تعني: إزاره. رواه الجماعة.
والميت لا يغسَّل، إلا بما يصح به التطهير للحي؛ وعند أحمد، والنسائي، وابن خزيمة من حديث أم هانئ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اغتسل، هو وميمونة، من إناء واحد "قَصْعة فيها أثر العجين"(2). ففي الحديثين وجد الاختلاط، إلا أنه لم يبلغ، بحيث يسلب عنه إطلاق اسم الماء عليه.

(1) البخاري:كتاب الجمعة- باب غسل الميت، ووضوئه بالماء والسدر (1 / 93)، ومسلم: كتاب الجنائز- باب في غسل الميت (2 / 467)، رقم (40)، والنسائي: كتاب الجنائز- باب غسل الميت أكثر من سبعة (4 / 31)، رقم (1889)، والترمذي: كتاب الجنائز- باب ما جاء في غسل الميت (3 / 306)، رقم (990) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت (1 / 486)، رقم (2458).
(2)
والنسائي:كتاب الغسل- باب الاغتسال في قصعة فيها أثر العجين (1 / 202)، وابن ماجه:كتاب الطهارة- باب الرجل والمرأة يغتسلان من إناء واحد (1 / 134)، الحديث رقم (378)، ومسند أحمد (6 / 342)، وصححه العلامة الألباني، في: صحيح النسائي (1 / 51)، وصحيح ابن ماجه (378)، ومشكاة المصابيح (485، وإرواء الغليل (1 / 64).
الماءُ الذي لاقَتْه النَّجَاسَةُ
وله حالتان: (الأولى) أن تغيِّر النجاسةُ طعمه أو لونه أو ريحه، وهو في هذه الحالة لا يجوز التطهر به إجماعاً، نقل ذلك ابن المنذر وابن الملقن.
(
الثانية) أن يبقى الماء على إطلاقه، بألا يتغير أحد أوصافه الثلاثة، وحكمه أنه طاهر مطهِّر؛ قل أو كثر، دليل ذلك حديث أبي هريرة -رضي اللّه عنه- قال: قام أعرابيّ، فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً(1) من ماء؛ فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين(2)" رواه الجماعة إلا مسلماً، وحديث أبي سعيد الخدري -رضي اللّه عنه- قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة؟(3) فقال صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء"(4) رواه أحمد والشافعي وأبو داود والنسائي والترمذي وحسّنه، وقال أحمد: حديث بئر بُضاعة صحيح. وصححه يحيى بن مَعين، وأبو محمد بن حزم.
وإلى هذا ذهب ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصري وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري والنخعي ومالك وغيرهم، وقال الغزالي: وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه، كان كمذهب مالك.
وأما حديث عبد اللّه بن عمر -رضي اللّه عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قلتين، لم يحمل الخبَث"(5). رواه الخمسة، فهو مضطرب سنداً ومتناً، قال ابن عبد البر في "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين، مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الأثر.

(1) السجل أو الذنوب: وعاء به ماء.
(2)
البخاري: كتـاب الوضـوء- باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابى حتى فرغ من بوله في المسجد (1 / 65)، وأبو داود: كتاب الطهارة- باب الأرض يصيبها البول (1 / 91)، والنسائي: كتاب المياه- باب التوقيت في الماء (1 / 175)، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض (1 / 275)، رقم (147)، وابن ماجه: كتاب الطهارة- باب الأرض يصيبها البول... (1 / 176).
(3) "
بئر بضاعة" بضم أوله، بئر المدينة. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد، قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها؟ قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي، مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان، فأدخلني إليه، هل غير بناؤها عما كانت عليه ؟ قال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون.
وذرعته: قسته بالذراع.
(4)
الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء (1 / 96)، الحديث رقم (66)، وقال الترمذي: حديث حسن. وأبو داود: كتاب الطهارة، باب ما جاء فى بئر بضاعة (1 / 54)، الحديث (66)، ومسند أحمد (3 / 31، 86)، والسنن الكبرى للبيهقي (1 / 4) كتاب الطهارة، باب التطهر بماء البئر (1 / 257) والدارقطنى (1 / 30) كتاب الطهارة، باب الماء المتغير الحديث رقم (11) والنسائى: كتاب المياه- باب ذكر بئر بضاعة (1 / 175)، الحديث (326)، وتلخيص الحبير (1 / 13)، وقال: حديث حسن. وقد جود إسناده أبو أسامة، وصححه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو محمد بن حزم. وصححه العلامة الألباني، في: صحيح النسائي (1 /70)، وصحيح الترمذي (66)، ومشكاة المصابيح (288)، وصحيح الجامع (1925، 6640)، وإرواء الغليل (14).
(5)
أبو داود (1 / 17)، والنسائي (1 / 46)، والترمذي (67)، وأحمد (1 / 314)، والدارقطني (1/ 187)، والحاكم، في لالمستدرك"، (1 / 133)، وصححه العلامة الألباني، في: إرواء الغليل (1 / 60)، وصحيح الجامع (758).

السؤر
السؤر؛ هو ما بقي في الإناء بعد الشرب، وهو أنواع: (1) سؤر الآدمي: وهو طاهر من المسلم والكافر والجنب والحائض. وأما قول الله تعالى: " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ " [ التوبة: الآية 28]. فالمراد به نجاستهم المعنوية، من جهة اعتقادهم الباطل، وعدم تحرزهم من الأقذار والنجاسات، لا أن أعيانهم وأبدانهم نجسة، وقد كانوا يخالطون المسلمين، وترد رسلهم ووفودهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخلون مسجده، ولم يأمر بغَسل شيء مما أصابته أبدانهم، وعن عائشة -رضي اللّه عنها- قالت: كنت أشرب، وأنا حائض، فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع في (1). (2) رواه مسلم.


(1) المراد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب من المكان الذي شربت منه.
(2)
مسلم: كتاب الطهارة باب خدمة الحائض زوجها (3 / 210)، والنسائي: كتاب الطهارة، باب الانتفاع بفضل الحائض (1 / 149)، ومسند أحمد (6 / 210)، وشرح السنة للبغوي (2 / 134) مع اختلاف في اللفظ.

قُلْ ءَامنْتُ بِاللهِ ثم اسْتقِمْ

عن أبي عمرو وقيل أبي عمرة بن سفيان بن عبد الله الثّقفي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال :"قل ءامنت بالله ثمّ استقم " رواه مسلم


الحمدُ للهِ وحدَه، خَلقَ العالَمَ وحَدَّه، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ لا نَبِيَّ بعدَه، اللهُمَّ ذَكِّرْنا ما نَسينا، وَعَلِّمْنا مَا جَهِلْنا، وانفَعْنَا بِما عَلَّمْتَنَا، وَزِدْنا عِلْمًا، وارزُقْنا الإِخلاصَ في العَمَلِ ودَوامَ النِّعمِ وحُسْنَ الخِتَامِ.
أمَّا بعدُ، فقد روى مسلمٌ رحمَهُ اللهُ أنَّ رسولَ اللهِ محمّدًا عليهِ الصلاةُ والسلامُ قالَ لسُفيانَ بنِ عبدِ اللهِ الثَّقفِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ لَمَّا قالَ لَهُ: قلتُ يا رسولَ اللهِ قُل لِي في الإسلامِ قولاً لا أسألُ عنهُ أَحَدًا غيرَكَ، قالَ: "قُلْ ءَامَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ"، وفِي رِوَايَةِ التِّرمِذِيِّ أنَّ سفيانَ بنَ عبدِ اللهِ قالَ: قلتُ يا رسولَ اللهِ حَدِّثْنِي بأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قالَ: "قُلِ اللهُ رَبِّي ثُمَّ اسْتَقِمْ" قلتُ يا رسولَ اللهِ ما أَخْوَفَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخذَ بِلِسانِ نَفْسِهِ ثم قالَ: "هَذَا". هذا الصَّحابِيُّ الجَلِيلُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ أنْ يُعَلِّمَهُ كَلامًا جَامِعًا لأَمْرِ الإِسْلامِ، ومعنَى "قُلْ لِي في الإسلامِ" أي في دِينِهِ وشريعَتِهِ. "قَولاً" أيْ لفظًا جامعًا لأُمُورِهِ كَافِيًا وَاضِحًا. "لا أسأَلُ عنه أحَدًا غيرَكَ" أيْ لا أحتَاجُ فيهِ إلَى سُؤَالِ أحَدٍ غَيْرِكَ. قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قُلْ: "ءامَنْتُ بِاللهِ" أَيِ اثْبُتْ عَلَى إِيمانِكَ بِاللهِ، أَيْ دُمْ علَى إِيمانِكَ بِاللهِ. قالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّها الذِينَ ءامَنُوا ءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي دَاوِمُوا عَلَى الإيمانِ باللهِ ورسولِهِ واثبتُوا عليهِ، لأنَّ الثَّباتَ علَى الإِيمانِ حتَّى الممَاتِ منْ أعظَمِ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وجلَّ.
وقد قالَ الشيخُ مُحَدِّثُ الدِّيارِ الشَّاميةِ بدرُ الدِّينِ الحَسَنِيُّ رحمهُ اللهُ الذِي تُوُفِّيَ مِنْ قَريبِ مائةِ سنَةٍ:"إنَّ الملائكَةَ لَتَتَعَجَّبُ في هذا الزَّمانِ مِنْ رَجُلٍ يُتَوَفَّى علَى الإيمانِ" وذلِكَ لانتِشَارِ الكفرِ بينَ الناسِ في ذلكَ الحينِ، فكيفَ في هذَا الزمانِ الذي كَثُرَ فيهِ أدعياءُ العِلْمِ الذِينَ يَبُثُّونَ الكُفْرَ ءَانَاءَ الليلِ وأطرافَ النَّهارِ، زاعِمِينَ أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ الناسَ الإِسلامَ!! وقد صَدَقَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمَّا قالَ :"أُناسٌ مِنْ جِلْدَتِنَا يَتَكلَّمونَ بألسنَتِنَا تَعْرِفُ منهم وتُنكرُ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنِ اسْتَجَابَ لَهُمْ قَذَفُوهُ فِيهَا". وقولُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "ثُمَّ اسْتَقِمْ" أيْ على فِعْلِ الوَاجِبَاتِ وتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. والاستقامةُ معنَاهَا لُزومُ طاعَةِ اللهِ، وقد قالَ سيِّدُنا أحمدُ الرِّفاعِيُّ الكبيرُ: "الاستِقَامَةُ عينُ الكَرامَة" وَقِيلَ الاسْتِقامَةُ هي مُتابَعَةٌ للسُّنَّةِ الْمُحَمَّديَّةِ معَ التَّخَلُّقِ بالأَخْلاقِ المرضيةِ. وتأمَّلْ قولَ اللهِ تعالَى لرسولِهِ محمَّدٍ: ﴿فَاسْتَقِمْ كما أُمِرتَ وَمَنْ تَابَ معكَ ولا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ قالَ النسفيُّ رحمهُ اللهُ في تفسيرِها: فاستَقِمِ اسْتِقَامَةً مثلَ الاسْتِقَامَةِ التِي أُمِرْتَ بِهَا غَيْرَ عادِلٍ عنهَا (أيْ لا يتركُهُا إلى غيرِها). وقد بشَّرَ اللهُ الذينَ اسْتَقَامُوا بالجنَّةِ التِي وُعِدُوهَا، وَبِتَبْشِيرِ الملائكةِ بأنَّهُ لا خَوْفٌ عليهِمْ ولا حزنٌ، وبأنَّهم أصحابُ الجنّةِ خالدِينَ فيهَا. قالَ جلَّ شأنُه في القرءانِ الكريمِ: ﴿إنَّ الذينَ قالوا ربُّنا اللهُ ثمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلَ عليهِمُ الملائكةُ أَلاَّ تخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بالْجَنّةِ التي كُنْتُمْ تُوعَدونَ﴾. ومعنَى قولِهِ تعالَى: ﴿إنَّ الذينَ قالوا ربُّنا اللهُ﴾ أيْ نَطقُوا بالتَّوْحيدِ ثم استَقامُوا علَى تَوحيدِ اللهِ وشريعَةِ نبيِّهِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وعنِ الصِّدِّيقِ رضيَ اللهُ عنهُ: "استَقامُوا فِعلاً كما استقَامُوا قَوْلاً" وعنْ سيِّدِنا عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قالَ : "لَمْ يَرُوغُوا روغانَ الثعالِبِ" أي لَمْ يُنافِقُوا. وعن سيِّدِنا عثمانَ رضيَ اللهُ عنهُ: "أخلَصُوا العَمَل". وعن سيِّدِنا عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ: "أدَّوا الفرائضَ" وعنِ الفضيلِ رحمهُ اللهُ: "زَهِدُوا في الفَانِيَةِ (أيِ الدنيا) وَرَغِبُوا في الباقيةِ (أيِ الآخِرَةِ)". وقالَ الإمامُ النسفيُّ رحمهُ اللهُ في قولِهِ تعالَى: ﴿تَتَنَزَّلُ عليهِمُ الملائِكَةُ﴾ أيْ عندَ الموتِ ﴿أَلاَّ تَخَافُوا﴾ أي ما تُقْدِمونَ عليهِ ﴿ولا تحزَنُوا﴾ على مَا خلَّفْتُمْ، فالخوفُ غَمٌّ يلحَقُ بالإنسانِ لتَوَقُّعِ المكروهِ، والحزنُ غَمٌّ يلحَقُ لوقوعهِ من فواتِ نافعٍ أو حُصولِ ضَارٍّ، والمعنَى أَنَّ اللهَ كتبَ لكُمُ الأمْنَ مِنْ كُلِّ غَمٍّ فلَنْ تَذُوقُوهُ ﴿وأبشِرُوا بِالْجَنَّةِ التِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ فِي الدُّنْيا. انتهى.
قال بعضُهم: متَى اسْتَقَامَ القَلْبُ علَى مَعْرِفَةِ اللهِ وعلى خشيتِهِ وإِجْلالِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَجائِهِ وَدُعَائِهِ والتَّوَكُّلِ عليهِ والإنَابَةِ إليهِ اسْتَقَامَتِ الجَوَارِحُ على طَاعتِه فَإِنَّ القَلْبَ هُوَ مَلِكُ الأعضاءِ وَهِيَ جُنودُهُ. فإذَا استَقَامَ الملِكُ استَقَامَتْ جُنودُهُ وَرَعَايَاهُ، وأَعْظَمُ ما يُراعَى بعدَ
القلبِ مِنَ الجَوَارِحِ اللسانُ فَإِنَّهُ تُرجُمانُ القَلْبِ وَالْمُعَبِّرُ عنهُ. وفِي مُسنَدِ الإمامِ أحمدَ رحمَهُ اللهُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ". نَسأَلُ اللهَ حُسنَ الخِتامِ والاستِقَامَةِ والثَّباتَ علَى الإيمانِ حتَّى الممَاتِ بِجَاهِ حَبيبِهِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. واللهُ أعلمُ وأحكمُ.
المصدر: منتدى من ترك شيئا لله عوضهالله خيرا منه.

الشهداء خمسة

:: عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له، ثم قال الشهداء خمسة: المطعون والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله، وقال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما و لو حبوا."
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له، ثم قال الشهداء خمسة: المطعون والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله، وقال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما و لو حبوا."
الجواب الحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
هذه ثلاثة أحاديث وقد أخرجها البخاري بسياق واحد (652-653-654) قال حدثنا قتيبة عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له، ثم قال: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله، وقال: لو يعلم ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً" قال الحافظ: (وكأن قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعاً فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار، وقد تضمنت هذه الأحاديث ما يأتي:
(1) دل الحديث الأول على فضل إماطة الأذى عن الطريق، وأن قليل العمل إذا أخلص فيه العبد لربه، يحصل به كثير الأجر والثواب،وقوله: "فشكر الله له...." الله -سبحانه وتعالى- هو الشكور، والشاكر على الإطلاق الذي يقبل القليل من العمل، ويعطي الكثير من الثواب مقابل هذا العمل القليل، ومن شكره -تبارك وتعالى- أن غفر لهذا الرجل الذي نحى غصن الشوك عن طريق المسلمين، وهو عمل قليل.
(2) أفاد الحديث الثاني أن الشهداء خمسة وهم:
أ- المطعون: هو الذي يموت بالطاعون، وهو الوباء، وقد فسره النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر حيث قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم" أخرجه البخاري(2830)، ومسلم(1916) عن أنس –رضي الله عنه-.
ب- المبطون: هو الذي يموت من علة البطن، كالاستسقاء، والحقن وهو: انتفاخ الجوف والإسهال.
ج- الغريق: هو الذي يموت بالغرق.
د- صاحب الهدم: هو الذي يموت تحت الهدم.
هـ- الشهيد في سبيل الله.
قال الحافظ: (اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيداً، فقيل لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة، وقيل: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعدَّ له من الكرامة والحصر المذكور في الحديث غير مقصود، فقد دلت أحاديث أخرى على وصف غير المذكورين بالشهادة)، قال الحافظ: (والذي يظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك) فتح الباري(6/43)، وممن جاء وصف موتهم بالشهادة غير المذكورين في الحديث السابق ما يأتي الحريق، وصاحب الجنب، والمرأة تموت بجمع، وقد جاء ذلك في حديث جابر بن عتيك – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ما تعدون الشهادة؟" قالوا: القتل في سبيل الله –تعالى-، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة" أخرجه أبو داود (2704)، وصاحب ذات الجنب: ذات الجنب هي: قرحة في الجنب، وورم شديد، وتسمى ذات الجنب الشوصة.
وأما المرأة تموت بجمع: يقال بضم الجيم وكسرها، وقد تفتح الجيم وسكون الميم فهي المرأة تموت حاملاً، وقد جمعت ولدها في بطنها، وقيل: هي التي تموت في نفاسها وبسببه، وقيل التي تموت عذراء، والأول: أشهر الأقوال،ومن مات دون ماله ودينه ودمه وأهله فهو شهيد، وذلك لما جاء في حديث سعيد بن زيد – رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" أخرجه الترمذي (1341)، وقال: هذا حديث حسن صحيح ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد، وذلك لحديث سويد بن مقرن – رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" أخرجه النسائي(4025)، قوله: دون مظلمته، أي: قصده قاصد بالظلم، وموت الغربة شهادة، وذلك لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "موت غربة شهادة" أخرجه ابن ماجة (1602)، وقد ذكر الحافظ أنه من خلال نظره في الأحاديث تحصل له إطلاق الشهادة على عشرين خصلة، قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن جعلها تمحيصاً لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء، ووصف هؤلاء بالشهداء بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكام الشهداء في الدنيا.

في فقه السير إلى الله

 في فقه السير إلى الله
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا".

شرح الحديث:
عن أبي هريرة أنه ‏"‏ لن ينجو أحد منكم بعمله ‏"‏ وله من حديث جابر ‏"‏ لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ‏"‏ ومعنى قوله ينجي أي يخلص والنجاة من الشيء التخلص منه، قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى ‏(‏وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‏)‏ ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها‏.‏
ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى ‏(‏سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول‏.‏
ثم قال‏:‏ ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية، والتقدير ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم‏.‏
وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية، فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة كل ذلك لم يستحقه العامل بعمله‏.‏
وإنما هو بفضل الله وبرحمته‏.‏
وقال ابن الجوزي‏:‏ يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة‏:‏ الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة‏.‏
الثاني أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله‏.‏
الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال‏.‏
الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال‏.‏
وقال الكرماني الباء في قوله ‏(بما كنتم تعملون‏)‏ ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في ‏"‏ المغني ‏"‏ فسبق إليه فقال‏:‏ ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف، ومنه ‏(ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)‏ وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في ‏"‏ لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ‏"‏ لأن المعطي بعوض قد يعطى مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب، قال‏:‏ وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث‏.‏
قلت‏:‏ سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب ‏"‏ مفتاح دار السعادة ‏"‏‏:‏ الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهي لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها، لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبة وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه ‏"‏ لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم ‏"‏ الحديث، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم‏.‏
قلت‏:‏ وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى (‏أورثتموها بما كنتم تعملون)‏ لم يمش في قوله تعالى ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا‏.‏
وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله ‏(‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏)‏ أي تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية‏.‏
ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى‏.‏
وقال المازري‏:‏ ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخيره صدق لا خلف فيه‏.‏
قوله ‏(‏قالوا ولا أنت يا رسول الله‏)‏ ‏؟‏ قال الكرماني‏:‏ إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى‏.‏
قلت‏:‏ وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في أماليه فقال‏:‏ لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم وعمله في العبادة أقوم قيل له ‏"‏ ولا أنت ‏"‏ أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره، فقال ‏"‏ لا إلا برحمة الله ‏"‏ وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم من حديث جابر بلفظ ‏"‏ لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى‏"‏‏.‏
قوله ‏(‏إلا أن يتغمدني الله‏)‏ في رواية سهيل ‏"‏ إلا أن يتداركني‏"‏‏.‏
قوله ‏(‏برحمة‏)‏ في رواية أبي عبيد ‏"‏ بفضل ورحمة ‏"‏ وفي رواية الكشميهني من طريقه ‏"‏ بفضل رحمته ‏"‏ وفي رواية الأعمش ‏"‏ برحمة وفضل ‏"‏ وفي رواية بشر بن سعيد ‏"‏ منه برحمة ‏"‏ وفي رواية ابن عون ‏"‏ بمغفرة ورحمة‏"‏‏.‏
وقال ابن عون بيده هكذا ‏"‏ وأشار على رأسه ‏"‏ وكأنه أراد تفسير معنى ‏"‏ يتغمدني ‏"‏ قال أبو عبيد‏:‏ المراد بالتغمد الستر، وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به‏.‏
قال الرافعي‏:‏ في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته‏.‏
قوله ‏(‏سددوا‏)‏ في رواية بشر بن سعيد عن أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ ولكن سددوا ‏"‏ ومعناه اقصدوا السداد أي الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم فينزل عليكم الرحمة‏.‏
قوله ‏(‏وقاربوا‏)‏ أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا، وقد أخرج البزار من طريق محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ولكن صوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبد الله بن عمرو موقوف ‏"‏ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ‏"‏ والمنبت بنون ثم موحدة ثم مثناة ثقيلة أي الذي عطب مركوبه من شدة السير، مأخوذ من البت وهو القطع أي صار منقطعا لم يصل إلى مقصوده وفقد مركوبه‏.‏
الذي كان يوصله لو رفق به‏.‏
وقوله ‏"‏أوغلوا ‏"‏ بكسر المعجمة من الوغول وهو الدخول في الشيء‏.‏
قوله ‏(‏واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة‏)‏ في رواية الطيالسي عن ابن أبي ذئب ‏"‏ وخطا من الدلجة ‏"‏ والمراد بالغدو السير من أول النهار، وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار، والدلجة بضم المهملة وسكون اللام ويجوز فتحها وبعد اللام جيم سير الليل يقال سار دلجة من الليل أي ساعة فلذلك قال شيئا من الدلجة لعسر سير جميع الليل، فكأن فيه إشارة إلى صيام جميع النهار وقيام بعض الليل وإلى أعم من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة وهو الموافق للترجمة، وعبر بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة، وشيئا منصوب بفعل محذوف أي افعلوا، وقد تقدم بأبسط من هذا في كتاب الإيمان في ‏"‏ باب الدين يسر‏"‏‏.‏
قوله ‏(‏والقصد القصد‏)‏ بالنصب على الإغراء أي الزموا الطريق الوسط المعتدل، ومنه قوله في حديث جابر ابن سمرة عند مسلم ‏"‏ كانت خطبته قصدا ‏"‏ أي لا طويلة ولا قصيرة، واللفظ الثاني للتأكيد، ووقفت على سبب لهذا الحديث‏:‏ فأخرج ابن ماجه من حديث جابر قال ‏"‏ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي على صخرة فأتى ناحية فمكث ثم انصرف فوجده على حاله فقام فجمع يديه ثم قال‏:‏ أيها الناس عليكم القصد، عليكم القصد‏"‏‏.‏
فتح الباري 


vendredi 27 septembre 2013

الجزء 6 شرح كتاب الموطأ كتاب الأقضية




    الجزء  6 شرح  كتاب   الموطأ    كتاب   الأقضية


( ش ) : قَوْلُهُ فِيمَنْ يَكْتَرِي الدَّابَّةَ إلَى مَكَان مُسَمًّى ثُمَّ يَتَعَدَّاهُ بِالتَّقَدُّمِ أَمَامَهُ فَإِنَّ لِرَبِّ الدَّابَّةِ أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَ دَابَّتِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَعَدَّى إلَيْهِ مَعَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ وَيَأْخُذُ دَابَّتَهُ , وَإِنْ أَحَبَّ كَانَتْ لَهُ قِيمَةُ دَابَّتِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَدَّى مِنْهُ الْمُكْتَرِي , وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى بِالدَّابَّةِ , وَزَادَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي اكْتَرَى إلَيْهِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ التَّعَدِّي , وَلَحِقَهُ الضَّمَانُ , وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرُدَّ  الدَّابَّةَ الْمُكْتَرِي عَلَى حَالِهَا وَالثَّانِي : أَنْ يَرُدَّهَا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى حَالِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَهَا فِي تَعَدِّيهِ إمْسَاكًا يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَمْسَكَهَا يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا يَسِيرَةً فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الْيَوْمُ وَشِبْهُهُ قَالَ وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الْبَرِيدِ وَالْبَرِيدَيْنِ , وَإِنْ كَانَ اكْتَرَاهَا بِالْأَيَّامِ ثُمَّ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا زَائِدَةً عَلَى أَيَّامِ الْكِرَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا لَهُ الْكِرَاءُ فِي أَيَّامِ التَّعَدِّي مَعَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا التَّعَدِّي فِي عَيْنٍ وَلَا قِيمَةٍ وَلَا فَوَاتِ أَسْوَاقٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا وَعَلَيْهِ قِيمَةُ كِرَائِهَا فِي الْأَيَّامِ الزَّائِدَةِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا .

( ش ) : الْمُسْتَكْرَهَةُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا عَلَى مَنْ اسْتَكْرَهَهَا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه  وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ : عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَ الصَّدَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ الْحَدَّ وَالصَّدَاقَ حَقَّانِ أَحَدُهُمَا لِلَّهِ وَالثَّانِي لِلْمَخْلُوقِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَرَدِّهَا قَالَ مَالِكٌ : وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ صَغِيرَةً افْتَضَّهَا .

( ش ) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ : إنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ إنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ , وَكَذَلِكَ الْعُرُوض , وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا مَعْدُودٍ وَمَعْنَى قَوْلِنَا مَعْدُودٍ أَنْ تَسْتَوِيَ آحَادُ جُمْلَتِهِ فِي الصِّفَةِ غَالِبًا كَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ كَمَا تَسْتَوِي حُبُوبُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ مِنْ الْمَكِيلِ وَآحَادِ الْعِنَبِ الْمَوْزُونِ , وَأَمَّا جُمْلَةُ الْحَيَوَانِ مِنْ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ , وَإِنْ اسْتَوَى عَدَدًا فَإِنَّ آحَادَ جُمْلَتِهِ لَا تَسْتَوِي بَلْ تَتَبَايَنُ , وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَدَدًا مِنْ جُمْلَةِ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ تَعْيِينُهَا دُونَ خِيَارٍ يَثْبُتُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَرْطٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّعْيِينِ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ , وَأَمَّا الرَّقِيقُ وَالثِّيَابُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا عَدَدًا مِنْ الْجُمْلَةِ إلَّا بِالتَّعْيِينِ أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ بِمَعْنَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَيَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ عَلَى الْقِيمَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ جِهَةِ أَعْيَانِهِ , وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ لَهُ مِنْ جِهَةِ قِيمَتِهِ وَالْمَكِيلُ وَالْمَعْدُودُ وَالْمَوْزُونُ إنَّمَا يُقْسَمُ بِمَا يُعْتَبَرُ بِهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا مَعْدُودٍ مَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْهُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ مِثْلَهُ , وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ شُيُوخِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ } وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْقِيمَةَ أَعْدَلُ ; لِأَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ , وَلَا يَكَادُ يَجِدُ مِثْلَ مَا أَتْلَفَ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ الْجُزَافُ فِي عَدَدِ مَبِيعِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِ الْمِثْلُ كَالدُّورِ , وَقَدْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ النَّظَرَ بِحَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ } وَقَدْ كَانَ احْتَجَّ بِهِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا ثُمَّ رَأَيْت غَيْرَهُ قَدْ أَدْخَلَهُ فِي تَأْلِيفِهِ فَخِفْت أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيْهِ وَجْهُ تَأْوِيلِهِ فَلِذَلِكَ أَوْرَدْتُهُ وَأَوْرَدْتُ بَعْضَ مَا كُنْتُ جَاوَبْتُ بِهِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتُهُ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِيهِ لَهُ لَا سِيَّمَا مِمَّا يُسْتَخْدَمُ وَيُسْتَعْمَلُ , وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي وَرَدَتْ مِنْهُ الْهَدِيَّةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقَصْعَتَانِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ أَرْسَلَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إلَى بَيْتِ الَّتِي أَرْسَلَتْ بِقَصْعَتِهَا صَحِيحَةً وَأَبْقَى الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا تُشَعِّبُهَا وَتَنْتَفِعُ بِهَا بَدَلًا مِنْ الصَّحْفَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهَا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَصْعَتَيْنِ لِلْمَرْأَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ إذَا اتَّفَقَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الرِّضَا بِهَا , وَإِنَّمَا يَجِبُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْقِيمَةِ إذَا أَبَيَا ذَلِكَ أَوْ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَى ذَلِكَ سَدَادًا فِي الْأَمْرِ فَرَضِيَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا , وَانْتَقَلَ إلَى الْأُخْرَى فَرَضِيَتْهُ , وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا أَبَتْ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهِ فَالْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بِوَجْهٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . ( مَسْأَلَةٌ ) : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاسْتِهْلَاكُ الْحَيَوَانِ  وَالْعُرُوضِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْجُمْلَةَ وَالثَّانِي : أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْبَعْضَ وَاسْتِهْلَاكُ الْكُلِّ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ غَصْبٌ أَوْ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ غَصْبٌ فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ غَصْبٌ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْغَصْبِ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِ ; لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ الْغَصْبُ لَضَمِنَ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَمَاتَ مِنْ وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِتَعَدِّيهِ , وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ غَصَبَ دَارًا فَلَمْ يَسْكُنْهَا حَتَّى انْهَدَمَتْ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ مَا لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ كَالْأَرْضِينَ وَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا مَعْنَى يُضْمَنُ بِهِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ فَضُمِنَ بِهِ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْإِتْلَافِ وَالِاسْتِهْلَاكِ . وَقَالَهُ أَشْهَبُ , وَإِنْ هَلَكَ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَصْبَ تَعَدٍّ يَضْمَنُ بِهِ الْغَاصِبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا غَصَبَ وَيُسَلِّمَهُ إلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَفَاتَهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ .

( ش ) : قَوْلُهُ عليه السلام { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ مَعْنَاهُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَتَابُ فِيهِ كَالزَّنَادِقَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ  صلى الله عليه وسلم { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } يَعْنِي بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الْمُظْهِرِ لِارْتِدَادِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو أَنْ يُسِرَّ كُفْرَهُ أَوْ يُظْهِرَهُ , فَإِنْ أَسَرَّهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى : مَنْ أَسَرَّ مِنْ الْكُفْرِ دِينًا خِلَافَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ مَنَانِيَّةً أَوْ غَيْرِهَا مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ أَوْ عِبَادَةِ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ نُجُومٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلْيُقْتَلْ وَلَا تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : وَمَنْ أَظْهَرَ كُفْرَهُ مِنْ زَنْدَقَةٍ أَوْ كُفْرٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ . وَرَوَى سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ وَلَا يُسْتَتَابُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ قَالَ سَحْنُونٌ إنْ تَابَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ , وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قوله تعالى { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْبَأْسُ هَاهُنَا السَّيْفُ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَاحْتَجَّ مَالِكٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ . وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَمَّا كَانَ الزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ عَلَى مَا أَسَرَّ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ ; لِأَنَّ مَا يُظْهِرُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُسِرُّ ; لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ فَلَا عَلَامَةَ لَنَا عَلَى تَوْبَتِهِ , وَالْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ عَلَى مَا أَظْهَرَ فَإِذَا أَظْهَرَ تَوْبَتَهُ أَبْطَلَ بِهَا مَا أَظْهَرَ مِنْ الْكُفْرِ . قَالَ : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاهَرَ بِالْفَسَادِ وَالسَّفَهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَصَارَ إلَى الْعَدَالَةِ وَمَنْ شَهِدَ بِالْعَدَالَةِ وَشَهِدَ بِالزُّورِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ , وَإِنْ أَظْهَرَ الرُّجُوعَ عَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الزِّنْدِيقُ بِكُفْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ فَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا قَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَسَى أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ذَلِكَ .

( ش ) : قَوْلُهُ { أَرَأَيْتَ إنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَامِ مِنْ قِبَلِهِ ; لِأَنَّ ابْنَ عُبَادَةَ كَانَ يَقُولُ إنْ وَجَدَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ  وَيَضْرِبُهُ بِسَيْفٍ غَيْرِ مُصَفَّحٍ فَأَتَى هَذَا الْقَوْلُ عَلَى سَبِيلِ الْحُجَّةِ لِيُخْبِرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ غِيرَتِهِ وَالْإِظْهَارِ لِعُذْرِهِ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ عَلَى مَعْنَى الْمَنْعِ لَهُ مِنْ قَتْلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ , وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ وَيَصْرِفَهُ عَنْ مَنْزِلِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيَتُهُ مَعَهَا , وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْعِ لَهُ مِنْ قَتْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ فِعْلِهِ . ( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ خَيْبَرَى وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرُنِي فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى كَتَبَ إلَيَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَسْأَلُك عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَبُو حَسَنٍ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ ) . ( ش ) : قَوْلُهُ : إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا ثُمَّ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ أَوْ اعْتَرَفَ بِهِ فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الْقَضَاءُ فِي ذَلِكَ , وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ وَتَوَقُّفِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ وَسُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَيَتَسَبَّبُ إلَيْهِ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ , وَإِنْ كَانَ الْمَسْئُولُ مُنَابِذًا لَهُ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَبَلَغَهُ خَبَرُهُ وَتَقَدَّمَ الِاسْتِعْدَاءُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ لَا سِيَّمَا , وَهُوَ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ حُكْمُ شَهِيرٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ أَرَادَ الْحُكْمَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مُوسَى : عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرُنِي عَلَى مَعْنَى تَبْيِينِ الْقِصَّةِ وَالْبَحْثِ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ إلَى أَنْ يُشَخِّصَ الْخُصُومَ فِي ذَلِكَ لِيُبَالِغَ فِي تَتْمِيمِ الْقَضِيَّةِ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ أَنَا أَبُو حَسَنٍ مِمَّا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ عِنْدَ إصَابَةِ ظَنِّهِ كَمَا أَصَابَ ظَنُّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِهِ وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى ثُمَّ قَالَ : إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَى بَيْنَ الْمَقْتُولَيْنِ أُعْطِيَ بِرُمَّتِهِ يُرِيدُ سُلِّمَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولَيْنِ يَقْتَصُّونَ مِنْهُ إنْ شَاءُوا . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَلَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ جَرَحَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ إنْ قَاتَلَهُ فَكَسَرَ رِجْلَهُ أَوْ جَرَحَهُ أَنَّ ذَلِكَ جُبَارٌ , وَإِنْ قَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَى بَيْنَهُمَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَهُ فِي دَارِهِ أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ وَالْأَذَى وَالْإِبْعَادِ فَإِنْ قَاتَلَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ خُرُوجِهِ كَانَ لَهُ مُدَافَعَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْجِرَاحِ وَمَا أَشْبَهِهَا وَأَمَّا الْقَتْلُ فَلَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ .

 ( ش ) : قَوْلُهُ : مَنْبُوذًا فَجِئْت بِهِ عُمَرَ , الْمَنْبُوذُ : هُوَ الْمَطْرُوحُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَجِيءُ بِهِ إلَى عُمَرَ لِيُعْلِمَهُ   وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِيءَ بِهِ لِيَسْتَفْتِيَهُ فِي أَمْرِهِ وَلِيَسْأَلَهُ الْحُكْمَ لَهُ بِوَلَائِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه مَا حَمَلَك عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : اتَّهَمَهُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ أَتَى بِهِ لِكَيْ يَفْرِضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ أَخْذِهِ لَهُ وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحِرْصُ عَلَى أَنْ يَفْرِضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيَلِي هُوَ أَمْرَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخَافَ التَّسَرُّعَ إلَى أَخْذِ الْأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْبَذُوا حِرْصًا عَلَى أَخْذِ النَّفَقَةِ لَهُمْ وَرَغْبَةً فِي مُوَالَاتِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَهُ لِئَلَّا يَلْتَقِطَهُ مِنْ عِيَالِهِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إذَا ادَّعَى اللَّقِيطُ مُلْتَقَطَهُ فَلَا قَوْلَ لَهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ . وَقَالَ أَشْهَبُ يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَاهُ مُلْتَقَطِهِ أَوْ غَيْرُهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ شُبْهَةً تُصَدِّقُ دَعْوَاهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِهِ نَسَبٌ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ لَهُ فِيهِ شُبْهَةَ الِالْتِقَاطِ  وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ ثَابِتٌ بِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ مَلَكَ أُمَّهُ .

( ش ) : قَوْلُهَا : إنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمَعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إلَيْك عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : . أَحَدُهَا : الِاسْتِبْضَاعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يُعْجِبُهُ نَجَابَةُ الرَّجُلِ وَنُبْلُهُ وَتَقَدُّمُهُ فَيَأْمُرُ مَنْ تَكُونُ لَهُ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ أَنْ تُبِيحَ نَفْسَهَا لَهُ فَإِذَا حَمَلَتْ مِنْهُ رَجَعَ هُوَ إلَى وَطْئِهَا حِرْصًا عَلَى نَجَابَةِ الْوَلَدِ . وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ لَا زَوْجَ لَهَا يَغْشَاهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ الرِّجَالِ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مُجْتَمَعِينَ فَإِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا حَمْلٌ دَعَتْهُمْ وَقَالَتْ لِأَحَدِهِمْ هَذَا مِنْك فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيَلْحَقُ بِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : الْبَغَايَا كُنَّ يَجْعَلْنَ الرَّايَاتِ عَلَى مَوَاضِعِهِنَّ فَمَنْ رَأَى تِلْكَ الرَّايَةَ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْضِعُ بَغْيٍ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا حَمْلُهَا قَالَتْ لِبَعْضِهِمْ : هُوَ مِنْك , فَيَلْحَقُ بِهِ . وَالرَّابِعُ : النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ الثَّلَاثَةَ الْأَنْوَاعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَثْبَتَ النِّكَاحَ فَلَعَلَّ مَا قَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ : ابْنُ وَلِيدَةِ زَمَعَةَ مِنِّي إنَّمَا أَرَادَ اسْتِلْحَاقَهُ مِنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ فَلَمَّا أَرَادَ عُتْبَةُ اسْتِلْحَاقَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً مِنْ إقْرَارِهَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ , وَأَمَّا مَنْ اسْتَلْحَقَ وَلَدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ لَا يَكُونَ عَرَفَ لَهُ مِلْكَ أَمَةٍ وَلَا نِكَاحَهَا أَوْ قَدْ تَقَدَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ مِلْكَ أَمَةٍ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ مَرَّةً يَلْحَقُ ذَلِكَ بِهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا لَا يَلْحَقُ بِهِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ لَهُ عَلَى أُمِّهِ نِكَاحٌ أَوْ مِلْكٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ , وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ . وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّل أَنَّ الْأَسْبَابَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الِاسْتِلْحَاقِ وَأَكْثَرُهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ الْأَبِ بِالْوَطْءِ أَوْ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَسَبٌ مَانِعٌ لَحِقَ بِمَنْ اسْتَلْحَقَهُ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِلْحَاقُ إذَا كَانَ ثَمَّ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ يُقَوِّي الدَّعْوَى وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ ; لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى لَكَثُرَ تَعَرُّضُ الدَّعَاوَى فِي ذَلِكَ وَفَسَدَتْ الْأَنْسَابُ .

ش ) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا السَّلَامُ فِي الَّذِي يُتَوَفَّى وَيَتْرُكُ وَلَدَيْنِ وَيَتْرُكُ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ , فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَاهُ أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ قِيلَ لَهُ : قَدْ أَقْرَرْت لَهُ بِمَالٍ فَيُنْظَرُ إلَى مَا فِي يَدَيْك مِمَّا كَانَ يَصِيرُ لَهُ لَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَتَدْفَعُهُ إلَيْهِ ; لِأَنَّك مُقِرٌّ لَهُ بِهِ , وَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُهُ لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةُ دِينَارٍ وَقَدْ أَخَذَهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَالْمِائَةُ الزَّائِدَةُ قَدْ أَقَرَّ بِهَا لِلْمُقَرِّ بِهِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِ أَخِيهِ وَحْدِهِ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ الْوَرَثَةِ مَنْ يَرْفَعُهُ عَنْهُ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّسَبُ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ , وَالثَّانِي إقْرَارٌ بِمَالٍ فِي يَدِهِ فَلَزِمَهُ فِيهِ كَمَا لَوْ تُوُفِّيَ رَجُلٌ وَتَرَكَ وَلَدًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَقَاسَمَهُ الْمَالَ بِاتِّفَاقٍ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ دُونَ الْمُنْكِرِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَخِيهِ , فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَسْتَحِقُّ مِثْلَ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا بِأَيْدِيهِمَا وَاَلَّذِي كَانَ يَجِبُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ السِّتِّمِائَةِ مِائَتَانِ فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ مِمَّا بِيَدِهِ بِمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ بِمِائَةٍ أُخْرَى مِمَّا بِيَدِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ آخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْ يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ غَيْرَ مِائَةٍ وَمِنْ يَدِ الْمُنْكِرِ مِائَةً أُخْرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْأَخَوَانِ لَأَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَلَا يَخْلُو هَذَا الْإِقْرَارُ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ عَيْنًا , أَوْ عَرَضًا فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ عَرَضًا مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ الْمُتَوَفَّى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَأَخَذَ الْمُقِرُّ الْعَبْدَ وَأَخَذَ أَخُوهُ الْأَمَةَ ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ بِأَخٍ قَالَ ابْنُ مُيَسَّرٍ فَهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِثُلُثِ الْعَبْدِ وَثُلُثِ الْأَمَةِ وَقَدْ كَانَ لِلْمُقِرِّ قَبْلَ الْإِقْرَارِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْإِنْكَارِ فَأَقَرَّ فِي كُلِّ نِصْفٍ وَجَبَ لَهُ بِثُلُثِ ذَلِكَ النِّصْفِ وَهُوَ سُدُسُ الْعَبْدِ فَلَمَّا بَاعَ نِصْفَهُ فِي الْأَمَةِ بِنِصْفِ أَخِيهِ فِي الْعَبْدِ ضَمِنَ لِأَخِيهِ سُدُسَ قِيمَةِ الْأَمَةِ , وَأَمَّا ثُلُثُ الْعَبْدِ فَوَاجِبٌ لَهُ ; لِأَنَّ سُدُسَهُ كَانَ بِيَدِهِ وَسُدُسَ آخِرٍ عَاوَضَ فِيهِ أَخَاهُ فَابْتَاعَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِآخَرَ فَلْيُسَلِّمْهُ إلَيْهِ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ بِكُلِّ حَالٍ , وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي سُدُسِ الْأَمَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ , أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ سُدُسَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ فَيَصِيرُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ وَلِلْمُقِرِّ نِصْفُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ مَيْسَرَةَ . وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْبَصْرِيُّ : إنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ يُعْطِيه ثُلُثَ الْعَبْدِ الَّذِي صَارَ لَهُ وَيَضْمَنُ لَهُ سُدُسَ قِيمَةِ الْأَمَةِ ; لِأَنَّهُ بَاعَ ذَلِكَ بِسُدُسٍ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لِأَخِيهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو أَيُّوبَ هُوَ الصَّوَابُ وَلَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ ; لِأَنَّ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِسُدُسِ الْأَمَةِ الَّذِي كَانَ بِيَدِ أَخِيهِ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : فَإِنْ مَاتَ الْمُقِرُّ لَمْ يَرِثْهُ , وَإِنَّمَا يَرِثُهُ أَخُوهُ الثَّابِتُ النَّسَبِ قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُورَثُ بِهِ إلَّا مَعَ عَدَمِ وَارِثٍ ثَابِتِ النَّسَبِ وَلِهَذَا الْمُقِرِّ أَخٌ ثَابِتُ النَّسَبِ فَلَا يَرِثُهُ الْمُقَرُّ لَهُ , قَالَ سَحْنُونٌ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمُقَرِّ لَهُ لَوَرِثَهُ , وَلَوْ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ يَرِثُهُ الْمُقِرُّ بِهِ وَالْمُنْكِرُ لَهُ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ الْمُقِرُّ مِنْ تَرِكَتِهِ بَدْءًا مِثْلَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ ثُمَّ يَكُونُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْمُنْكِرَ جَحَدَهُ إيَّاهُ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَكَانَ عِنْدِي يَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِمَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ مِنْ مَالِ أَبِيهِ لَوْ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ أُضِيفَتْ إلَى مَالِ الْمُقَرِّ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ أَخَذَ مِنْهَا الْمُقَرُّ لَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَبَقِيَتْ خَمْسُونَ مِنْ مَالِ الْمُقَرِّ لَهُ فَوُقِفَتْ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْمُنْكِرُ دُفِعَتْ إلَيْهِ وَكَمُلَ بِذَلِكَ وَبِالْمِائَةِ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ تَمَامُ نَصِيبِهِ مِنْ مِيرَاثِهِ , وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَإِنَّمَا الْمِائَةُ الدِّينَارِ الَّتِي بَقِيَتْ بِيَدِهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ أَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ اسْتَكْمَلَ حَقَّهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ يُرِيدُ ; لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ قَدْ شَهِدَا لَهُ بِالنَّسَبِ وَهُمَا  مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَيَجِبُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا لَهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ لَهُ بِذَلِكَ نَسَبُهُ مَعَ يَمِينِهِ ; لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ الْمَالَ ; لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّهُ الثَّابِتُ النَّسَبِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ فَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالْمَالِ لِوَجْهِ الْمِيرَاثِ ثُمَّ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِذَلِكَ نَسَبٌ , وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ النَّسَبُ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَنْسَابُ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَتَوَفَّى رَجُلٌ وَيَتْرُكَ مَالًا وَيَأْتِي مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ فَيُقِيمُ شَاهِدًا وَاحِدًا فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ يَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ دُونَ النَّسَبِ , وَعَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا , وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ الْمَالُ مِنْ النَّسَبِ , وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِوَلَدٍ وَاسْتَحَقَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبُهُ , وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ , فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ جِهَتِهِ كَسَائِرِ أَسْبَابِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَيْسَ هَاهُنَا مُقِرٌّ بِحَقٍّ يَنْفَرِدُ بِهِ فَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ , وَإِنَّمَا يَدَّعِي حَقًّا ثَابِتًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ النَّسَبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . ( ص ) : ( قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ تُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى أَبِيهَا , أَوْ عَلَى زَوْجِهَا وَيُنْكِرُ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ إلَى الَّذِي أَقَرَّتْ لَهُ بِالدَّيْنِ قَدْرَ الَّذِي يُصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً وَرِثَتْ الثَّمَنَ دَفَعَتْ إلَى الْغَرِيمِ ثَمَنَ دَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ ابْنَةً وَرِثَتْ النِّصْفَ دَفَعَتْ إلَى الْغَرِيمِ نِصْفَ دَيْنِهِ عَلَى حِسَابِ هَذَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ مِنْ النِّسَاء ) . ( ش ) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ تَجْرِي مَجْرَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ تُقِرُّ بِدَيْنٍ عَلَى مَوْرُوثِهَا وَيُنْكِرُ ذَلِكَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا تَرِثُ النِّصْفَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهَا مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَهُوَ نِصْفُهُ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً تَرِثُ الثُّمُنَ ; لِأَنَّ لِلْمَيِّتِ وَلَدًا , أَوْ وَلَدَ ابْنٍ إنَّمَا عَلَيْهِمَا مِنْ الدَّيْنِ ثَمَنُهُ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَوَرِثَ الرُّبُعَ لَكَانَ عَلَيْهَا مِنْ الدَّيْنِ رُبُعُهُ , وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ إذَا كَانَتْ أُنْثَى تَرِثُ مَعَ الْمُقَرِّ لَهُ الثُّلُثَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا صَارَ إلَيْهِ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ , وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَهَا الثُّمُنُ فَأَقَرَّتْ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا أَنْ تُعْطِيَهُ شَيْئًا ; لِأَنَّ مَوْرُوثَهَا دُونَهُ وَمَعَهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَلَا يُؤَثِّرُ إقْرَارُهَا فِيمَا بِيَدِهَا . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مَالِك وَهُمَا ; لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِوَارِثٍ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ دَيْنَهُ , وَأَمَّا الْوَارِثُ فَإِنَّهُ وَارِثٌ مَعَ الْمُقِرِّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ قَبْلَهُ فَلِذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ مَا يَنُوبُهُ , وَرَوَى هَذَا ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ , وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى ابْنِ حَبِيبٍ وَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَ ابْنُ الْمَوَّازِ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ مِنْ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ بِهِ , وَلَوْ شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَأَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ , وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرُّوا بِهِ . وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الدَّيْنُ كَالْمِيرَاثِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُقِرِّ جَمِيعُ مَا بِيَدِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِشَهَادَتِهِ لَأُخِذَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا بِيَدِهِ , وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَجِدْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَأَخَذَ مِمَّا بِيَدِ الْآخَرِ جَمِيعَ حَقِّهِ , وَإِنَّمَا اسْتَغْرَقَ مَا بِيَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ ذَلِكَ عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَنُوبُهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَخَذَ مِنْ الْمُقِرِّ جَمِيعَ حَقِّهِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْكَارَ مَعْنًى يَمْنَعُ الْمُقَرَّ لَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَأَوْجَبَ لَهُ اسْتِيفَاءَ جَمِيعِ حَقِّهِ مِمَّنْ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ مِنْهُ مَانِعُ أَصْلِ ذَلِكَ الْعَدَمِ . ( ص ) : ( قَالَ مَالِكٌ , وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى مِثْلِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى أَبِيهِ دَيْنًا أُحْلِفَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ وَأُعْطَى الْغَرِيمُ حَقَّهُ كُلَّهُ وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ أَنْ يَحْلِفَ وَيَأْخُذَ حَقَّهُ كُلَّهُ فَإِنْ لَمْ  يَحْلِفْ أُخِذَ مِنْ مِيرَاثِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ قَدْرُ مَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقِّهِ وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ وَجَازَ عَلَيْهِ إقْرَارُهُ ) . ( ش ) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّهُ إنْ شَهِدَ رَجُلٌ مِنْ الْوَرَثَةِ بِمِثْلِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ أَنَّ لِهَذَا الْغَرِيمِ عَلَى ابْنِهِ دَيْنًا وَكَانَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنَّ الْغَرِيمَ يَحْلِفُ مَعَ شَهَادَتِهِ , وَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الدَّيْنِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدُهُ , وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ إنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الشَّهَادَاتِ وَيُخَالِفُ ذَلِكَ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَتِهَا حَتَّى يَكُونَ الِاثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيَحْلِفُ مَعَ شَهَادَتِهِمَا فَإِنْ أَبَى الْغَرِيمُ أَنْ يَحْلِفَ اسْتَحَقَّ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يَحْتَجْ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ إلَى يَمِينٍ , وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُقِرُّ غَيْرَ عَدْلٍ لَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْعِلْمَ مِنْ الْوَرَثَةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ إذَا لَمْ يُرِدْ الْمُدَّعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( ش ) : قَوْلُهُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ يَعْزِلُونَهُنَّ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعَزْلُ عَنْهُنَّ وَهُوَ , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّمٍ فِي الْإِمَاءِ فَإِنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ لَا سِيَّمَا لِمَنْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ مَا أَتَتْ بِهِ مِنْ وَلَدٍ . وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ يَطَأُ جَارِيَتَهُ وَيَعْزِلُ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَلْزَمُهُ إنْ لَمْ يَدَّعِ اسْتِبْرَاءً , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ حَقِيقَةَ الْعَزْلِ وَقَدْ يَغْلِبُهُ أَوَّلُ الْمَاءِ , أَوْ الْيَسِيرُ مِنْهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ . وَقَالَ مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ , وَلَوْ قَالَ : كُنْت أَطَأُ وَلَا أُنْزِلُ , لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ الْإِنْزَالِ مُتَيَقَّنٌ وَلَا يَصِحُّ مَعَهُ وَلَدٌ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَلَوْ قَالَ كُنْت أَطَأُ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ فَأُنْزِلُ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ فِي الْأَمَةِ وَلَا يَلْتَعِنُ فِي الْحُرَّةِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ قُرْبَ الْفَخِذَيْنِ مِنْ الْفَرْجِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَصِلُ إلَيْهِ قَبْلَ التَّغَيُّرِ وَالِاسْتِحَالَةِ فَيَلْحَقُ مِنْهَا الْوَلَدُ وَهَذَا يَبْعُدُ عِنْدِي ; لِأَنَّهُ لَوْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِخَلْقِ وَلَدٍ مِنْ مَنِيٍّ لَمْ يَنْزِلْ فِي الرَّحِمِ لَمَا لَزِمَ مَنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ حَدٌّ ; لِأَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً بَيْنَ الْفَخْذَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا حَدٌّ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكْثُرُ فِيهِ الْوَهْمُ وَالْغَلَطُ وَلَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُهُ الْوَاطِئُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . ( فَصْلٌ ) : وَالْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ يَعْزِلُونَهُنَّ أَنْ يُرِيدَ بِاعْتِزَالِهِنَّ فِي الْوَطْءِ الْإِزَالَةَ لَهُنَّ عَنْ حُكْمِ التَّسَرِّي عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاءِ مِنْ وَلَدِ الْأَمَةِ دُونَ اسْتِبْرَاءٍ , وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ وُجُودِ مَعْنًى يَصْرِفُ الْحَمْلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَبِمَاذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْحَيْضِ , وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ لَا تَبْرَأُ مِنْهُ إلَى خَمْسِ سِنِينَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يُبْطِلُ حُكْمَ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ وَطْءٌ لِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا , أَوْ وَهَبَهَا لِامْرَأَةٍ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْوَطْءَ الْمُبَاحَ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ الْحَيْضُ دُونَ وَطْءٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْحَمْلُ أَصْلُ ذَلِكَ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ .