el bassaire

jeudi 19 février 2009

رسالة في دخول الجنةهل يدخل أحد الجنة بعملهأم ينقضه قوله صلى الله عليه وسلملا يدخل أحد الجنة بعمله


بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلمسئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية عن قوله تعالى ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون سورة الأعراف 43 هل يدخل أحد الجنة بعمله أم ينقضه قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل أحد الجنة بعمله قيل ولا أنت قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمتهالجوابالحمد للهالمثبت في القرآن ليس هو المنفي في السنةلا مناقضة بين ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة إذ المثبت في القرآن ليس هو المنفي في السنة والتناقض إنما يكون إذا كان المثبت هو المنفي وذلك أن الله تعالى قال تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقال كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية سورة الحاقة 24 وقال أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون سورة السجدة 19 وقال وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون سورة الواقعة 22 24العمل سبب للثوابفبين بهذه النصوص أن العمل سبب للثواب والباء للسبب كما في مثل قوله تعالى فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقوله وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة البقرة 164 ونحو ذلك مما يبين به الأسباب
ولا ريب أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة والله قدر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما ييسره له من العمل الصالح كما قدر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل قال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسره لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسره لعمل أهل الشقاوة وقال إن الله خلق للجنة أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل الجنة يعملون وخلق للنار أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل النار يعملونالسبب لا يستقل بالحكموإذا عرف أن الباء هنا للسبب فمعلوم أن السبب لا يستقل بالحكم فمجرد نزول المطر ليس موجبا للنبات بل لا بد من أن يخلق الله أمورا أخرى ويدفع عنه الآفات المانعة فيربيه بالتراب والشمس والريح ويدفع عنه ما يفسده فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضل من الله أكبر منهوأما قوله صلى الله عليه وسلم لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
فإنه ذكره في سياق أمره لهم بالإقتصاد قال سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعملهوقال إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدجلة والقصد تبلغواليس جزاء الله على سبيل المعاوضةفنفى بهذا الحديث ما قد تتوهمه النفوس من أن الجزاء من الله عز و جل على سبيل المعاوضة والمقابلة كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا
فإن الأجير يعمل لمن استأجره فيعطيه أجره بقدر عمله على طريق المعاوضة إن زاد أجرته وإن نقص نقص أجرته وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن فنفى صلى الله عليه وسلم أن يكون جزاء الله وثوابه على سبيل المعاوضة والمقابلة والمعادلةوالباء هنا كالباء الداخلة في المعاوضات كما يقال استأجرت هذا بكذا وأخذت أجرتي بعمليغلط من توهم ذلك من وجوهوكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا وهذا غلط من وجوهالأولأحدها أن الله تعالى ليس محتاجا إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره بل هو سبحانه كما قال في الحديث الصحيح إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضرونيوالعباد إنما يعملون لأنفسهم كما قال تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت سورة البقرة 286 وقال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها سورة فصلت 46 وقال إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم سورة الزمر 7 وقال تعالى ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم سورة النمل 40
وقال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين سورة آل عمران 97وأما العباد فإنهم محتاجون إلى من يستعملون لجلب منفعة أو دفع مضرة ويعطونه أجرة نفعه لهمالثانيالثاني أن الله هو الذي من على العامل بأن خلقه أولا وأحياه ورزقه ثم بأن أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب ثم بأن يسر له العمل وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيانوالمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره فكيف يتصور أن يكون للعبد على الله عوض وهو خلقه وأحدثه وأنعم على العبد به وهل تكون إحدى نعمتيه عوضا عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهماالثالثالوجه الثالث أن عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلا له ومعادلا حتى يكون عوضا بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العملالرابعالرابع أن العبد قد ينعم ويمتع في الدنيا بما أنعم الله به عليه مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة وإذا كان كذلك لم يبالغوا في الاجتهاد مبالغة من يضره الاجتهاد كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وزال عنهم العجب وشهدوا إحسان الله بالعمل
الخامسالخامس أن العباد لا بد لهم من سيئات ولا بد في حياتهم من تقصير فلولا عفو الله لهم عن السيئات وتقبله أحسن ما عملوا لما استحقوا ثوابا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم من نوقش الحساب عذب قالت عائشة يا رسول الله أليس الله يقول فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا سور الإنشقاق 7 8 قال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذبولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح إذا طلبت الشفاعة من أفضل الخلق آدم ونوح وإبراهيم وموسى واعتذر كل منهم بما فعل قال لهم عيسى اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخرولهذا قال في الحديث لما قيل له ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بعفوه فتبين بهذا الحديث أنه لا بد من عفو الله وتجاوزه عن العبد وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء قال الله تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة سورة الأحقاف 16 وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إلى قوله ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35

وإذا تبين ذلك أفاد هذا الحديث ألا يعجب العبد بعمله بل يشهد نعم الله عليه وإحسانه إليه في العمل وأنه لا يستكثر العمل فإن عمله لو بلغ ما بلغ إن لم يرحمه الله ويعف عنه ويتفضل عليه لم يستحق به شيئا وأنه لا يكلف من العمل ما لا يطيق ظانا أنه يزداد بذلك أجره كما يزداد أجر الأجير الذي يعمل فوق طاقته فإن ذلك يضره إذ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقىوأحب العمل ما داوم عليه صاحبه فإن الأعمال بالخواتيم بخلاف عمل الأجراء في الدنيا فإن الأجرة تتقسط على المنفعة فإذا عمل بعض العمل استحق من الأجرة بقدر ما عمل ولو لم يعمل إلا قليلا فمن ختم له بخير استحق الثواب وكفر الله بتوبته سيئاته ومن ختم له بكفر أحبطت ردته حسناته فلهذا كان العمل الذي داوم عليه صاحبه إلى الموت خيرا ممن أعطى قليلا ثم أكدى وكلف نفسه ما لا يطيق كما يفعله كثير من العمالفقوله صلى الله عليه وسلم سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعمله ينفي المعاوضة والمقابلة التي يولد اعتقادها هذه المفاسدوقوله بما كنتم تعملون يثبت السبب الموجب لأن يفعله العبد ولهذا قال بعضهم اعمل وقدر أنك لم تعمل وقال آخر لا بد منك وبك وحدك لا يجيء شيءلا بد من العمل ومن رجاء رحمة اللهفلا بد من العمل المأمور به ولا بد من رجاء رحمة الله وعفوه وفضله وشهود العبد لتقصيره ولفقره إلى فضل ربه وإحسان ربه إليهوقد قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون ينجون من النار بالعفو ويدخلون الجنة بالرحمة ويتقاسمون المنازل بالأعمال
فنبه على أن مقادير الدرجات في الجنه تكون بالأعمال وأن نفس الدخول هو بالرحمة فإن الله قد يدخل الجنة من ينشئه لها في الدار الآخرة بخلاف النا رفإنه أقسم أن يملأها من إبليس وأتباعهالله يدخل الجنة بالعمل وبغيره من الأسبابلكن مع هذا فالعمل الصالح في الدنيا سبب للدخول والدرجة وإن كان الله يدخل الجنة بدون هذا السبب كما يدخل الأبناء تبعا لآبائهم وليس كل ما يحصل بسبب لا يحصل بدونه كالموت الذي يكون بالقتل ويكون بدون القتل ومن فهم أن السبب لا يوجب المسبب بل لا بد أن يضم الله إليه أمورا أخرى وأن يدفع عنه آفات كثيرة وأنه قد يخلق المسبب بدون السبب انفتح له حقيقة الأمر من هذا وغيره والله تعالى أعلمآخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليم كثيرا
رسالة في الجواب عمن يقول إن صفات الرب نسب وإضافات وغير ذلك
سؤال عمن يقول إن صفات الرب نسب وإضافات وغير ذلكبسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماأما بعد فهذا فصل مختصر من سؤال سئل عنه شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالىنص السؤالما يقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن قال إن صفات الرب لا تتعدد ولا ينفصل بعضها عن بعض إلا في مراتب العبارات وموارد الإشارات فإذا أضيف علمه إلى الإطلاع على ضمير الصغير والكبير يقال بصير وإذا ابتدر منه الرزق يقال رزاق وإذا أفاض من مكنونات علمه على قلب أحد من الناس بأسرار إلاهيته ودقائق جبروت ربوبيته يقال متكلم وليس بعضه آلة السمع وبعضه آلة البصر وبعضه آلة الكلام بل كله بكلية ذاته لا يشغله شيء عن شيءفهل هذا القول صواب أم لا أفتونا مأجورينالجوابهذه مقالة المتفلسفة والقرامطة والاتحاديةالحمد لله رب العالمين ليس هذا القول صوابا وإن كان بعضه صوابا بل هذا القول قرع باب الإلحاد وتوطئه سبيل الإتحاد فإن هذا القول هو قول غلاة نفاة الصفات الجهمية من متفلسف وقرمطي واتحادي ونحوهم وليس
هو قول المعتزلة والنجارية والضرارية والشيعة ونحوهم ممن يقول القرآن مخلوق بل هو شر من قول هؤلاء فإن هؤلاء متفقون على أنه خلق في غيره كلاما وأنه متكلم بذلك الذي خلقه في غيره وأن موسى والملائكة يسمعون ذلك الكلام المخلوق الذي هو كلام الله عند هؤلاء المبتدعةقالوا إنه لا يكون متكلما إلا بكلام يقوم به وإن الكلام إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل لا لغيره كسائر الصفات من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحوه فيقال عالم وقادر وسميع وبصير ونحو ذلكرد السلف عليهمولهذا قال من قال من السلف من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا سورة طه 14 مخلوق فهو بمنزلة من صدق فرعون في قوله
أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 لأنه لو كان قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوقا لكان كلاما للمحل الذي خلق فيه إما الشجرة وإما الهواء فيكون الشجرة أو الهواء هو القائل إنني أنا الله ومن جعل هذا ربا فهو بمنزلة من جعل فرعون ربا وإن كان الله خالق ذلك الكلام في الشجرة والهواء فقد ثبت بالحجة أنه خالق أفعال العباد وأنه أنطق كل شيء فكل ناطق في الوجود هو أنطقه وخلق نطقه فيجب أن يكون كل نطق في الوجود كلامه حتى قول فرعون أنا ربكم الأعلى وحينئذ فلا فرق بين قوله إنني أنا الله وبين خلقه على لسان فرعون أنا ربكم الأعلىوهذا اللازم تفر منه المعتزلة وغيرهم إذ هم لا يقرون بأن الله خالق أفعال العباد لكن يلزمهم بالحجة ما يخلقه الله من الكلام مثل إنطاق الجلود وتسبيح الحصى وتسليم الحجر عليه السلام وشهادة الألسنة والأيدي والأرجل فإن هذا ليس من أفعال العباد بل ذلك خلق الله فيلزمهم أن يقولوا ذلك كله كلام الله وهو باطل وهم لا يلتزمونهوإنما التزم مثل هذا الإتحادية والحلولية الذين يقولون إنه وجود المخلوقات أو هو سار في جميع المخلوقات كما قال قائلهم وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
ومن هؤلاء من يفرق بين قول الحلاج وأمثاله أنا الحق وبين قول فرعون أنا ربكم الأعلى بأن الحلاج وأمثاله قالوا ذلك وهم فانون فالحق نطق على ألسنتهم لغيبتهم عن شهود أنفسهم وأما فرعون وأمثاله ممن هم في شهود أنفسهم فقالوه مع رؤيتهم أنفسهم وحاصله أن الله تعالى هو الذي نطق على لسان الحلاج وأمثالهوهذا شر من قول من يقول القرآن مخلوق خلقه الله في الهواء ونحوه لأن الجماد ليس له نطق يضاف إليه فوجود الكلام فيه شبهة توجب جعله كلاما لغيره أما الإنسان الحي إذا وجد منه مثل هذا الكلام مضافا إلى نفسه وجعل المتكلم به هو الله فهذا صريح بحلول الحق فيه واتحاده به كما تقوله النصارى في المسيحومعلوم أن النصارى أكفر من المعتزلة ومعلوم بالإضطرار من العقل والدين أن الله لم يتكلم على لسان بشر كما يتكلم الجنى على لسان المصروع ولكن يبعث الرسل فيبلغون كلامه والمرسل يقول لرسوله قل على لساني كذا ويقول كلامي على لسان رسولي فلان أي كلامي الذي بلغه عنيومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده أي هذا من الكلام الذي بلغه الرسول عن الله كما قال تعالى
فإنما يسرناه بلسانك سورة الدخان 57 كما يقول المرسل قد قلت لكم على لسان رسولي فلان كذا وكذاوهذا كما أن القول يضاف إلى الرسول لأنه بلغه وأداه فيضاف إلى جبريل تارة وإلى محمد صلى الله عليه وسلم أخرى كما قال في آية إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون سورة المائدة 40 42 فهذا محمد وقال في الآية الأخرى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين سورة التكوير 19 21 فهذا جبريلوأما جمهور العلماء من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام فطردوا الدليل وأثبتوا لله صفات فعلية تقوم بذاته وهذا هو المعلوم الذي دل عليه العقل واللغة والشرعالناس في الصفات ثلاث مراتبفالناس ثلاث مراتب منهم من نفى قيام الصفات والأفعال به كالمعتزلة ومنهم من أثبت قيام الصفات به دون الأفعال كالكلابية ومنهم من أقر بقيام الصفات والأفعال وهم جمهور الأمة كما ذكرته الحنفية في كتبهم وكما ذكره
البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وكما ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا وأبو عبد الله بن حامد والقاضي أبو يعلى في آخره قوليه وابنه أبو الحسين وغيرهم من أصحاب أحمد وذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي عن الصوفية في كتاب التعرف في مذاهب التصوف وذكره من ذكره من أئمة المالكية وذهب إليه طوائف من أهل الكلام من المرجئة
والشيعة والكرامية وذهب إليه جمهول أهل الحديثمقالة أهل السنة في كلام اللهوالمقصود هنا أن الجهمية من المعتزلة ونحوهم الذين قالوا القرآن مخلوق وقد عرف مقالات السلف في تكفيرهم وتضليلهم هم خير قولا من أصحاب هذا القول المذكور في السؤال القائلين إذا فاض من مكنونات علمه على قلب أحد من الناس بأسرار إلاهيته ودقائق جبروت ربوبيته يقال متكلم فإن هذا قول من لا يجعل لله كلاما قائما به كما يقوله الذين يقولون إنه خلق كلاما بائنا منه وقد قال الإمام أحمد كلام الله من الله ليس بائنا منه والقرآن الذي أنزله هو كلامه لا كلام غيره إذ الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغا مؤديا
ولهذا قال السلف والأئمة القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فقولهم منه بدأ نبهوا به على مخالفة الجهمية الذين قالوا إنه خلقه في غيره منفصلا عنه فقال أهل السنة منه بدأ لم يبتدىء من غيره من الموجودات كما قال تعالى وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم سورة النمل 6 وقال ولكن حق القول مني سورة السجدة 13 وقال كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير سورة هود 1 ولا نجعل لله كلاما مخلوقا في غيره منفصلا عنه كما قالته المعتزلة ونحوهم من الجهميةفإن هؤلاء وإن كان قولهم من أعظم القول فريةوظلالا فهو أقل كفرا وضلالا من قول أهل القول المسئول عنه القائلين إذا فاض من مكنون علمه على قلب أحد من الناس فإن هؤلاء لم يجعلوه متكلما إلا بما جعله في القلوب من العلممقالة الفلاسفة في كلام اللهوهذا في الأصل قول المتفلسفة والصابئة ونحوهم الذين لا يجعلون لله كلاما إلا ما أفاضه على قلوب العباد من العلوم والمعارف ويجعلون تكليمه للعباد نوع تعريف يعرفهم به الأمور ويقولون إنه تتشكل في نفس الشيء أشكال نورانية هي ملائكة الله عندهم وأصوات قائمة بنفسه هي كلام الله عندهم ويزعمون أن تكليم الله لموسى هو من هذا الباب إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال أو من غيره وقد يجعلون العقل الفعال هو جبريل وليس التكليم عندهم مختصا بأحد ولكنه يفيض بحسب استعداد النفوس
وعلى قولهم فجميع الخلق يكلمهم تكليما كما كلم موسى وكل كلام صادق تكلم به ذو نفس صافية فهو كلام الله كما أن القرآن كلام الله فيلزمه أن كل ما تكلم به الأنبياء فمن دونهم من الخبر الصادق والأمر بالخير هو كلام الله وأن ذلك كله من نوع القرآن وأن يكون القرآن كلام البشر ولا فرق عندهم بين قول البشر وقول الله بل يلزمهم أن جميع ما يتكلم به البشر كلام الله من أجل أن ذلك يفيض على قلوب البشر حتى الكذب والكفر فإن جهة الإفاضة واحدة في الجميع وكل ما يلزم القائلين بأن القرآن مخلوق يلزم هؤلاء وزيادة فإن أولئك يجعلونه مخلوقا خارجا عن نفس النبي وهؤلاء لا يجعلون له محلا إلا نفس النبيمتابعة الغزالي للفلاسفةوهذا القول هو قول المتفلسفة ووقع فيه طوائف من المنتسبين إلى الملل من اليهود والنصارى ومن المنتسبين إلى المسلمين ممن خلط الفلسفة بالتصوف مثل أهل الكلام المسئول عنه وأمثاله ومثل ما وقع لأبي حامد في كتاب المضنون به على غير أهله الأول والثاني ونحو ذلك من المصنفات مثل مشكاة الأنوار ومسائل النفخ والتسوية وكيمياء السعادة وجواهر القرآن
وما يشير إليه أحيانا في الإحياء وغيره فإنه كثيرا ما يقع في كلامه ما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة ويخلطه بكلام الصوفية أو عباراتهم فيقع فيه كثير من المتصوفة الذين لا يميزون بين حقيقة دين الإسلام وبين ما يخالفه من الفلسفة الفاسدة وغيرها لا سيما إذا بني على ذلك واتبعت لوازمه فإنه يفضي إلى قول ابن سبعين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهما ممن يقول بمثل هذا الكلام وحقيقة مذهبهم يؤول إلى التعطيل المحض وأنه ليس للعالم رب مباين له بل الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالقمقالة ابن عربي في الفصوصكما قال صاحب الفصوص ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما تم إلا هو أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هوإلى أن قال فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم يبطن عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثاتإلى أن قال ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين
إثباتها علم أن الأمر الخالق المخلوق وأن الأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهوالعيون الكثيرة فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر سورة الصافات 102 فالولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة ولد من هو عين الوالد وخلق منها زوجها سورة النساء 1 فما نكح سوى نفسهإلى أن قال فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك لأحد إلا لمسمى الله خاصةوقال ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها فكلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق
وقال أيضا ومكروا مكرا كبارا سورة نوح 22 لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه ما عدم إلى البداية فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله فهذا عين المكرإلى أن قال فقالوا في مكرهم لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا سورة نوح 23 فإنهم لو تركوهم تركوا من الحق على قدر ما تركوا من صفات هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله كما قال في المحمدين وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه سورة الإسراء 23 أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبودوقال أيضا فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمنه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عيب موسى أخاه هارون لما وقع من إنكاره
وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيءوقال أيضا ولما كان فرعون في مرتبة التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلىإلى أمثال ذلك من هذا الكلام الذي يسميه أصحاب مذهب الوحدة ويقولون إن الوجود واحدكما يقوله ابن عربي صاحب الفتوحات وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأمثالهم عليهم من الله ما يستحقونه فإنهم لا يجعلون للخالق سبحانه وجودا مباينا لوجود المخلوق وهو جامع كل شر في العالم ومبدأ ضلالهم من حيث لم يثبتوا للخالق وجودا مباينا لوجود المخلوق وهم يأخذون من كلام الفلاسفة شيئا ومن الكلام الفساد من كلام المتصوفة والمتكلمين شيئا ومن كلام القرامطة والباطنية شيئا فيطوفون على أبواب المذاهب ويفوزون بأخس المطالب ويثنون على ما يذكر من
تأثر الغزالي بإخوان الصفا وأمثالهمالتصوف المخلوط بالفسلفة كما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه مما هو مأخوذ من رسائل إخوان الصفا وأمثالهم ممن يريد أن يجمع بين ما جاءت به الكتب الإلهية والرسل المبلغون عن الله عز و جل وما تقوله الصابئة المتفلسفون في العلم الإلهي فيذكرون أحاديث موضوعة وربما حرفوا لفظها كما يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقابوهذا الحديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولفظة أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل وروى لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فمعناه أنه خاطبه في أول أوقات خلقه فغيروا لفظه وقالوا أول ما خلق الله العقل ليوافق ذلك مذهب المشائين من المتفلسفين أتباع أرسطو القائلين أول الصادرات عنه العقل
وقد بسطنا الكلام في بيان فساد ذلك شرعا وعقلا وبينا أن بين هؤلاء وبين الرسل من المباينة أعظم مما بين اليهود والنصارى وبين المسلمين وأن اليهود والنصارى إذا لم يتفلسفوا كانوا أقرب إلى الحق من هؤلاء فإن تفلسف اليهودي والنصراني كان كفره من جهتينوهذه الكتب المضافة إلى أبي حامد مثل الكتابين المضنون بهما على غير أهلهما وأمثالهما ما زال أئمة الدين ينكرون ما فيهما من الباطل المخالف للكتاب والسنة ثم من الناس من يكذب نسبة هذه الكتب إليه ومنهم من يقول وهو أشبه رجع عن ذلك كما ذكر في كتب أخرى ذم الفلاسفة وتكفيرهم وذكر عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور أنه استقر أمره على مطالعة البخاري ومسلم فكان آخر أمره الرجوع إلى الحديث والسنة والله أعلمكلام الغزالي في كتاب المضنونفهذا الكلام المذكور في السؤال يوجد نحوه في مثل هذه الكتب التي يجعلها أهلها من كتب الحقائق والأسرار كما قال صاحب كتاب المضنون فصل يتخيل بعض الناس كثرة في ذات الله تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول من قال في الصفات لا هي هو ولا غيره
وهذا التخيل يقع من توهم التغاير ولا تغاير في الصفات مثال ذلك أن إنسانا تعلم صورة الكتابة وله علم بصورة بسم الله التي تظهر تلك الصورة على القرطاس وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبعا لها فإنه إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة على القرطاس بلا حركة يد وواسطة قلم ومدادفهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال له علم ومن حيث إن الألفاظ تدل عليها يقال لها كلام فإن الكلام عبارة عن مدلول العبارات ومن حيث إن وجود المعلوم تبع لها يقال لها القدرة ولا تغاير ههنا بين العلم والقدرة والكلام فإن هذه صفة واحدة في نفسها ولا تكون هذه الإعتبارات الثلاث واحدةوكل من كان أعور لا ينظر إلا بالعين العوراء ولا يرى إلا مطلق الصفة فيقول هو هو وإذا التفت إلى الإعتبارات الثلاث يقال هي غيره ومن اعتبر مطلق الصفة مع الإعتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعتقد أنها لا هو ولا غيرهوالكلام في صفات الله تعالى وإن كان مناسبا لهذا المثال فإنه مباين له بوجه آخر وتفهيم هذه المعاني بالكتابة غير يسيرفهذا الكلام من جنس الكلام المذكور في السؤال وكلاهما يرجع إلى ما تزعمه المتفلسفة من أن الصفات ترجع إلى العلم إذا أثبتوهمقالة ابن حزموقد يقرب من هؤلاء ابن حزم حيث رد الكلام والسمع والبصر وغير
ذلك إلى العلم مع أنه لا يثبت صفة لله هي العلم ويجعل أسماءه الحسنى إنما هي أعلام محضة فالحي والعالم والقادر والسميع والبصير ونحوه كلها أسماء أعلام لا تدل على الحياة والعلم والقدرةالرد على النفاةوهذا يؤول إلى قول القرامطة الباطنية ونحوهم نفاة أسماء الله تعالى الذين يقولون لا يقال حي ولا عالم ولا قادر وهذا كله من الإلحاد في أسماء الله وآياته قال تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سورة الأعراف 180وإذا كان من الإلحاد إنكار اسمه الرحمن كما قال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن سورة الفرقان 60 وقال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى سورة الإسراء 110 وقال تعالى وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب سورة الرعد 30 إلى غير ذلك
فإذا كان اسمه الرحمن قد أنزل فيه ما انزل فكيف إنكار سائر الأسماء ومعلوم أن اللفظ إذا كان علما محضا لم ينكره أحد ولو كانت أعلاما لم يفرق بين الرحمن والعليم والقديرالرد على الغزاليوما ذكره صاحب كتاب المضنون مع المتفلسفة من أن العلم بالممكنات هو المقتضى لوجودها معلوم البطلان بأدنى تأمل فإن العلم نوعان علم نظري وعلم عملي فأما النظري وهو العلم بما لا يفعله العالم كعلم الله بنفسه وكعلمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فهذا ليس مقتضيا لوجود المعلوم بالضرورة واتفاق العقلاء وإن كان قد يكون سببا لبعض الأعمالوأما العلم العملي كعلم الله بمخلوقاته وكعلمنا بمفعولاتنا فهذا العلم وحده ليس موجبا لوجود المعلوم بلا قدرة ولا إرادة وعمل فإنا إذا تصورنا ما نريد فعله لم يكن مجرد تصورنا ما نريد ولم نقدر عليه لم يكن وإذا كنا قادرين على ما نتصوره ولا نريده لم يكن بل لا بد علمنا به وإرادتنا له وقدرتنا عليهفلو قال قائل علم الله ليس كعلمناقيل له وذات الله ليست كذاتنا ولا قدرته وإرادته كقدرتنا وإرادتناوهذا السؤال قد بسط الشيخ الكلام عليه وقد اختصر منه وقال في وسط الكلام على هذا السؤالإثبات ابن تيمية وأهل السنة الماهية لله تعالىبل لكل موجود حقيقة تخصه يتميز بها عما سواء ويباين بها غيره وهذه الحقيقة هي حقيقة الربوبية وبنفيها ضل الجهمية من المعتزلة والفلاسفة
والقرامطة والإتحادية وأمثالهم وهي الماهية التي أثبتها ضرار وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفيين وخالفهم في ذلك معتزلة البصرة وعلى إثباتها أئمة السنة والجماعة من السلف والخلف ولهذا ينفون العلم بماهيه الله وكيفيته فيقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ومن نفاها من المنتسبين إلى السنة وغيرهم قال ليس له ماهية فتجري في مقال ولا له كيفيه فتخطر ببالوالأول هو المأثور عن السلف والأئمة كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع ويدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول والله سبحانه أعلم

عن تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏


سأل رجل آخر عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}‏‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12‏]‏، فقال‏:‏ ما سمعنا بنص القرآن والحديث أن ما قبل كتابنا إلا الإنجيل، فقال الآخر‏:‏ عيسي إنما كان تبعًا لموسي، والإنجيل إنما فيه توسع في الأحكام، وتيسير مما في التوراة، فأنكر عليه رجل وقال‏:‏ كان لعيسي شرع غير شرع موسي، واحتج بقوله‏:‏ ‏{‏‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، قال‏:‏ فما الحكم في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ‏} ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ ليست هذه حُجَّة‏.‏فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏ قد أخبر الله في القرآن أن عيـسي قال لــهم‏:‏ ‏{‏‏وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏، فَعُلِمَ أنه أحل البعض دون الجميع، وأخبر عن المسيح أنه عَلَّمَه التوراة والإنجيل بقوله‏:‏ ‏{‏‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 48‏]‏‏.‏‏ ومـن المعلوم أنـه لـولا أنه مُتَّبِـعٌ لبعض ما في التوراة لم يكن تَعَلُّمُها له منة، ألا تري أنا نحـن لم نؤمـر بحفـظ التـوراة والإنجيـل، وإن كان كثيرا من شرائع الكتابين يوافق شـريعـة القـرآن، فهـذا وغيره يبين ما ذكره علماء المسلمين من أن الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلـة، وأكثر الأحكام يتَّبِـعُ فيها مـا في التوراة؛وبهذا يحصل التغاير بين الشرعتين‏.‏‏ ولهذا كان النصارى متفقين على حفظ التوراة وتلاوتها، كما يحفظون الإنجيل؛ ولهذا لما سمع النجاشي القرآن، قال‏:‏ إن هذا والذي جاء به موسي ليخرج من مشكاة واحدة، وكذلك ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه قال‏:‏ هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسي‏.‏‏ وكذلك قالت الجن‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى}‏‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {‏‏فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}‏‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ أي‏:‏ موسي ومحمد، وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏{‏‏سِحْرَانِ تَظَاهَرَا‏}‏‏ أي‏:‏ التوراة والقرآن‏.‏وكذلك قال‏:‏ ‏{‏‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91- 92‏]‏، فهذا وما أشبهه مما فيه اقتران التوراة بالقرآن وتخصيصها بالذكر يبين ما ذكروه من أن التوراة هي الأصل، والإنجيل تَبَعٌ لها في كثير من الأحكام، وإن كان مغايرًا لبعضها‏.‏‏ فلهذا يذْكَرُ الإنجيل مع التوراة والقرآن في مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 2- 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ‏} ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، فيذكر الثلاثة تارة، ويذكر القرآن مع التوراة وحدها تارة؛ لسر، وهو‏:‏ أن الإنجيل من وجه‏:‏ أصل، ومن وجه‏:‏ تبع؛ بخلاف القرآن مع التوراة؛ فإنه أصل من كل وجه، بل هو مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وإن كان موافقًا للتوراة في أصول الدين، وكتبه من الشرائع‏.‏

عن تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏


سأل رجل آخر عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}‏‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12‏]‏، فقال‏:‏ ما سمعنا بنص القرآن والحديث أن ما قبل كتابنا إلا الإنجيل، فقال الآخر‏:‏ عيسي إنما كان تبعًا لموسي، والإنجيل إنما فيه توسع في الأحكام، وتيسير مما في التوراة، فأنكر عليه رجل وقال‏:‏ كان لعيسي شرع غير شرع موسي، واحتج بقوله‏:‏ ‏{‏‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، قال‏:‏ فما الحكم في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ‏} ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ ليست هذه حُجَّة‏.‏فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏ قد أخبر الله في القرآن أن عيـسي قال لــهم‏:‏ ‏{‏‏وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏، فَعُلِمَ أنه أحل البعض دون الجميع، وأخبر عن المسيح أنه عَلَّمَه التوراة والإنجيل بقوله‏:‏ ‏{‏‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 48‏]‏‏.‏‏ ومـن المعلوم أنـه لـولا أنه مُتَّبِـعٌ لبعض ما في التوراة لم يكن تَعَلُّمُها له منة، ألا تري أنا نحـن لم نؤمـر بحفـظ التـوراة والإنجيـل، وإن كان كثيرا من شرائع الكتابين يوافق شـريعـة القـرآن، فهـذا وغيره يبين ما ذكره علماء المسلمين من أن الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلـة، وأكثر الأحكام يتَّبِـعُ فيها مـا في التوراة؛وبهذا يحصل التغاير بين الشرعتين‏.‏‏ ولهذا كان النصارى متفقين على حفظ التوراة وتلاوتها، كما يحفظون الإنجيل؛ ولهذا لما سمع النجاشي القرآن، قال‏:‏ إن هذا والذي جاء به موسي ليخرج من مشكاة واحدة، وكذلك ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه قال‏:‏ هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسي‏.‏‏ وكذلك قالت الجن‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى}‏‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {‏‏فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}‏‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ أي‏:‏ موسي ومحمد، وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏{‏‏سِحْرَانِ تَظَاهَرَا‏}‏‏ أي‏:‏ التوراة والقرآن‏.‏وكذلك قال‏:‏ ‏{‏‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91- 92‏]‏، فهذا وما أشبهه مما فيه اقتران التوراة بالقرآن وتخصيصها بالذكر يبين ما ذكروه من أن التوراة هي الأصل، والإنجيل تَبَعٌ لها في كثير من الأحكام، وإن كان مغايرًا لبعضها‏.‏‏ فلهذا يذْكَرُ الإنجيل مع التوراة والقرآن في مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 2- 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ‏} ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، فيذكر الثلاثة تارة، ويذكر القرآن مع التوراة وحدها تارة؛ لسر، وهو‏:‏ أن الإنجيل من وجه‏:‏ أصل، ومن وجه‏:‏ تبع؛ بخلاف القرآن مع التوراة؛ فإنه أصل من كل وجه، بل هو مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وإن كان موافقًا للتوراة في أصول الدين، وكتبه من الشرائع‏.‏

رسالة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم


قاعدة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلموفي إثبات عدله وإحسانهتأليف شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية مما ألفه في محبسه الأخير بالقلعة بدمشق قدس الله روحهبسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعينالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجميعن وسلم تسليمافصلاتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله تعالى عدل قائم بالقسط لا يظلم شيئا بل هو منزه عن الظلمتنازع طوائف المسلمين في معنى الظلم الذي ينزه الله عنهثم لما خاضوا في القدر تنازعوا في معنى كونه عدلا في الظلم الذي هو منزه عنهمقالة الجهمية والأشاعرةفقالت طائفة الظلم ليس بممكن الوجود بل كل ممكن إذا قدر وجوده منه فإنه عدل والظلم هو الممتنع مثل الجمع بين الضدين وكون الشيء موجودا معدوما فإن الظلم إما التصرف في ملك الغير وكل ما سواه ملكه وإما مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وليس فوق الله تعالى آمر تجب عليه طاعتهوهؤلاء يقولون مهما تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل وإذا قالوا كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهذا أمر أوهم
وهذا قول المجبرة مثل جهم ومن اتبعه وهو قول الأشعري وأمثاله من أهل الكلام وقول من وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفيةوقد روى عن بعض المتقدمين كلمات مطلقة تشبه هذا المذهب مثل قول إياس بن معاوية ما ناظرت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم ما الظلم قالوا أن تأخذ ما ليس لك قلت فلله كل شيء ومثل قول أبي الأسود لعمران بن حصين لما سأله فقال عمران أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه أشيء قضى عليهم ومضى من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون فيما أتاهم به نبيهم فاتخذت به عليهم الحجة قال قلت بل شيء قد قضى عليهم ومضى عليهم قال فهل يكون ذلك ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت له إنه ليس شيء إلا وهو خلق الله وملك يده ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال سددك الله إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلكوهذا قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى
وأتباعه وأبي المعالي الجويني وأتباعه وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهممقالة المعتزلةوالقول الثاني أنه عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته كما فعلوه عاصين لأمره وهو لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرا ولا شرا بل هم أحدثوا أفعالهم فلما أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها فعاقبهم بأفعالهم لم يظلمهمهذا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم وهؤلاء عندهم لا يتم تنزيهه عن الظلم إن لم يجعل غير خالق لشيء من أفعال العباد بل ولا قادر على ذلك وإن لم يجعل غير شاء لجميع الكائنات بل يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء إذ المشيئة عندهم بمعنى الأمروهؤلاء والذين قبلهم يتناقضون تناقضا عظيما ولكن من الطائفتين مباحث ومصنفات في الرد على الأخرى وكل من الطائفتين تسمى الأخرى القدرية وقد روى عن طائفة من التابعين موافقة هؤلاءمقالة أهل السنةوالقول الثالث أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه والعدل وضع كل شيء في موضعه وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها ولا
يضع شيئا إلا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل ولا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين مختلفين ولا يعاقب إلا من يتسحق العقوبة فيضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة والعدلوأما أهل البر والتقوى فلا يعاقبهم ألبتة قال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم 35 36 وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص 28 وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية سورة الجاثية 21قال أبو بكر بن الأنباري الظلم وضع الشيء في غير موضعه يقال ظلم الرجل سقاءه إذا سقا منه قبل أن يخرج زبده قال الشاعروصاحب صدق لم تنلني شكاته ... ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجرأراد بالصاحب وطب اللبن وظلمه إياه أن يسقيه قبل أن يخرج زبده والعرب تقول هو أظلم من حية لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ويقال قد ظلم الماء الوادي إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى ذكر ذلك أبو الفرج وكذلك قال البغوي أصل الظلم وضع
الشيء في غير موضعه وكذلك ذكر غير واحد قالوا والعرب تقول من أشبه أباه فما ظلم أي ما وضع الشبه في غير موضعهوهذا الأصل وهو عدل الرب يتعلق بجميع أنواع العلم والدين فإن جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك وكذلك أقواله وشرائعه كتبه المنزلة وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ والمعاد ومسائل النبوات وآياتهم والنواب والعقاب ومسائل التعديل والتجوير وغير ذلك وهذه الأمور مما خاض فيه جميع الأمم كما قد بسط في مواضعوأهل الملل كلهم يقرون بعدله لأن الكتب الإلهية نطقت بعدله وأنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس مثقال ذرة لكن كثير من الناس في نفسه ضغن من ذلك وقد يقوله بلسانه ويعرض به في نظمه ونثره وهؤلاء أكثر رما يكونون في المجبرة الذين لا يجعلون العدل قسيما لظلم ممكن لا يفعله بل يقولون الظلم ممتنع ويجوزون تعذيب الأطفال وغير الأطفال بلا ذنب أصلا وأن يخلق خلقا يعذبهم بالنار أبدا لا لحكمة أصلا ويرى أحدهم أنه خلق فيه الذنوب وعذب بالنار لا لحكمة ولا لرعاية عدل فتفيض نفوسهم إذا وقعت منهم الذنوب وأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونون فيها خصماء الله تعالى وقد وقع من هذا قطعة في كلام طائفة من الشيوخ وأهل الكلام ليس هذا موضع حكاية أعيانهموما ذكرناه من الأقوال الثلاثة نضبط أصول الناس فيه ونبين أن القول الثالث هو الصواب وبه يتبين أن كل ما يفعله الرب فهو عدل وأنه لا يضع
الأشياء في غير رموضعها فلا يظلم مثقال ذرة ولا يجزى أحدا إلا بذنبه ولا يخاف أحد ظلما ولا هضما لا يهضم من حسناته ولا يظلم فيزاد عليه في سيئاته لا من سيئات غيره ولا من غيرها بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أي لا يملك ذلك ولا يستحقه وإن كان قد يحصل له نفع بفضل الله ورحمته وبدعاء غيره وعمله فذاك قد عرف أن الله يرحم كثيرا من الناس من غير جهة عمله لكنه ليس له إلا ما سعى قال الله تعالى أمل لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى سورة النجم 36 41 وقوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى يقتضي أن المنبأ بذلك يجب عليه تصديق ذلك والإيمان به فكان هذا مما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لإبراهيم وموسى كما قال في آخر سبح إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى سورة الأعلى 18 19فصلومما يتبين عدل الرب وإحسانه وأن الخير بيديه والشر ليس إليه كما كان عليه السلام يثني على ربه بذلك في مناجاته له في دعاء الإستفتاح
وأنه سبحانه لا يظلم مثقال ذرة بل مع غاية عدله فهو أرحم الراحمين وهو أرحم من الوالدة بولدها كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وهو سبحانه أحكم الحاكمين كما قال نوح في مناجاته وأنت أحكم الحاكمين سورة هود 45 وأن الظلم قد ذكرنا في غير موضع أن للناس في تفسيره ثلاثة أقوال قيل هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وكلاهما منتف في حق الله تعالى وهذا تفسير المجبرة القدرية من الجهمية وغيرهم وكثير ممن ينتسب إلى السنة وهو تفسير الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهموالثاني أنه إضرار غير مستحق وهذا أيضا منتف عن الله تعالى وهذا تفسير المعتزلة وغيرهموهؤلاء يقولون لو قدر الذنوب وعذب عليها لكان إضرار غير مستحق والله منزه عنه وأولئك يقولون الظلم ممتنع لذاته غير ممكن ولا مقدور بل كل ما يمكن فهو عدل غير ظلم وإذا عذب جميع الخلق بلا
ذنب أصلا لم يكن ظلما عند هؤلاء وإذا فعل ما يشاء بمقتضى حكمته وقدرته كان ظلما عند أولئك فإنهم يجعلون ظلمه من جنس ظلم العباد وعدله من جنس عدلهم وهم مشبهة الأفعالوالسيد إذا ترك مماليكه يظلمون ويفسدون مع قدرته على منعهم كان ظالما وإذا كان قد أمرهم ونهاهم وهو يعلم أنهم يعصونه وهو قادر على منعهم كان ظالما وإذا قال مقصودي أن أعرضهم لثواب الطاعة ولذلك اقتنيتهم وقد علم أنهم لا يطيعونه كان سفيها ظالما وهم يقولون إن الرب خلق الخلق وليس مراده إلا أن ينفعهم وأمرهم وليس مراده إلا نفعهم بالثواب مع علمه أنهم يعصونه ولا ينتفعونولهذا طائفة منهم نفت علمه وآخرون قالوا ما يمكنه أن يجعلهم مطيعين وهو قول جمهورهم فنفوا قدرته وإن أثبتوه عالما قادرا ولم يفعل ما أراده من الخير جعلوه غير حكيم ولا رحيم بل ولا عادلوأما الطائفة الأخرى فهم معطلة في الأفعال كما أن أولئك مشبهة الأفعال فإنهم يعطلون فعل العبد ويقولون ليس بفاعل ولا قادر على الفعل ولا له قدرة مؤثرة في المقدور وأما الرب فيقولون خلق ما خلق لا لحكمة أصلا فعطلوا حكمته وقال إنه يجوز أن يعذب جميع الخلق بلا ذنب فعطلوا عدله والعدل هو فعله وهو سبحانه قائم بالقسط فمن نفى عدله وحكمته فإما أن ينفي فعله وإما أن يصفه بضد ذلك من الظلم والسفه كما أن الكلام على الطائفتين في غير هذا الموضع
والصواب القول الثالث وهو أن الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها وكذلك ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره من أهل اللغة وذكروا على ذلك عدة شواهد كما قد بسط في غير هذا الموضعوحينئذ فليس في الوجود ظلم من الله سبحانه بل قد وضع كل شيء موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك فهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته ويستحق الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم خلاف قول المجبرة الذين يقولون لا يقدر على الظلم وقد وافقهم بعض المعتزلة كالنظام لكن الظلم عنده غير الظلم عندهم فأولئك يقولون الظلم هو الممتنع لذاته وهذا يقول هو ممكن لكن لا يقدر عليه والقدرية النفاة يقولون ليس في الوجود ظلم من الله لأنه عندهم لم يخلق شيئا من أفعال العباد ولا يقدر على ذلك فما نزهوه عن الظلم إلا بسلبه القدرة وخلق كل شيء كما أن أولئك ما أثبتوا قدرته وخلقه كل شيء حتى قالوا إنه لا ينزه أن يفعل ما يمكن كتعذيب البراء بلا ذنب فأولئك أثبتوا له حمدا بلا ملك وهؤلاء أثبتوا له ملكا بلا حمد وأهل السنة أثبتوا ما أثبته لنفسه له الملك والحمد فهو على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو عادل في كل ما خلقه واضع للأشياء مواضعها وهو قادر على أن يظلم لكنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لأنه السلام القدوس المستحق للتنزيه عن السوء وهو سبحانه سبوح قدوس يسبح له ما في السماوات والأرض وسبحان الله كلمة كما قال ميمون بن مهران هي كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء
وكذلك قال ابن عباس وغير واحد من السلف إنها تنزيه الله من السوء وقال قتادة في اسمه المتكبر إنه الذي تكبر عن السوء وعنه أيضا إنه الذي تكبر عن السيئاتفهو سبحانه منزه عن فعل القبائح لا يفعل السوء ولا السيئات مع أنه سبحانه خالق كل شيء أفعال العباد وغيرها والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل سوءا وظلما وقبيحا وشرا والرب قد جعله فاعلا لذلك وذلك منه سبحانه عدل وحكمة صواب ووضع للأشياء مواضعها فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التي خلقه لها هو محمود عليه وهو منه عدل وحكمة وصواب وإن كان في المخلوق عيبا ومثل هذا مفعول في الفاعلين المخلوقين فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة والحجر الردى واللبنة الناقصة فوضعها في موضع يليق بها ويناسبها كان ذلك منه عدلا واستقامة وصوابا وهو محمود وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومه مذمومة ومن أخذ الخبائث فجعلها في المحل الذي يليق بها كان ذلك حكمة وعدلا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها ومن وضع العمامة على الرأس والنعلين في الرجلين فقد وضع كل شيء موضعه ولم يظلم النعلين إذ هذا محلهما المناسب لهما فهو سبحانه لا يضع شيئا إلا موضعه فلا يكون إلا عدلا ولا يفعل إلا خيرا فلا يكون إلا محسنا جوادا رحيما وهو سبحانه له الخلق والأمر فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وبتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض امران رجح أحسنهما وليس في الشريعة أمر بفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده وهو فيما يأمر به قد أراده إرادة دينية شرعية وأحبه ورضيه فلا يحب ويرضى شيئا إلا ووجوده خير من عدمه ولهذا أمر عباده أن يأخذوا
بأحسن ما أنزل إليهم من ربهم فإن الأحسن هو المأمور به وهو خير من المنهي عنهالخير بيديه سبحانه والشر ليس إليهكذلك هو سبحانه في خلقه وفعله فما أراد أن يخلقه وبفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرا من أن لا يخلقه ويفعله وما لم يرد أن يخلقه ويفعله كان أن لا يخلقه ويفعله خيرا من أن يخلقه ويفعله فهو لا يفعل إلا الخير وهو ما وجوده خير من عدمه فكل ما كان عدمه خيرا من وجوده فوجوده شر فهو لا يفعله بل هو منزه عنه والشر ليس إليه فالشر وهو ما كان وجوده شرا من عدمه ليس إليه إذ كان هذا مستحقا للعدم لا يشاؤه ولا يخلقه والمعدوم لا يضاف إلى فاعل فليس إليه ولكن الخير بيديه وهو ما كان وجوده خيرا من عدمهالتعليق على قول بعضهم: الخير كله في الوجود والشر كله في العدمومن الناس من يقول الخير كله في الوجود والشر كله في العدم والوجود خير روالشر المحض لا يكون إلا معدوما وهذا لفظ مجمل فإذا أريد بذلك أن كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير ووجوده خير من عدمه فهذا صحيح وكذلك ما لم يخلقه ولم يشأه وهو المعدوم الباقي على عدمه لا خير فيه إذ لو كان فيه خير لفعله سبحانه فإنه سبحانه بيده الخير فالشر العدمي هو عدم الخير لا أن في العدم شرا وجوديا وأما إذا أريد أن كل ما يقدر وجوده فوجوده خير وكل ما يقدر عدمه فعدمه شر فليس بصحيح بل من الأشياء ما وجوده شر من عدمه ولكن هذا لا يخلقه الرب فيبقى معدوما وعدمه خير فهذا خير من هذا العدم بمعنى أن عدمه خير رمن وجوده إذ كان وجوده فيه ضرر راجح وعدم الضرر الراجح خير فهو خير عدمي في العدم
إذ العدم لا يكون فيه وجود فالشر ليس إليه وهو ما كان وجوده شرا من عدمه فإنه لا يخلق هذا وما لم يخلقه فإنه ليس إليه وكل ما خلقه فوجوده خير من عدمه وهو سبحانه بيده الخير وذلك الذي وجوده شر من عدمه فإنه سبحانه يدفعه ويمنعه أن يكون مع القيام المقتضي له كما قال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا سورة الحج 38 والله يعصمك من الناس سورة المائدة 67 له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله سورة الرعد 11 وهو يجير ولا يجار عليه سورة المؤمنون 88فدفعه الشر الذي تريده النفوس الشريرة هو من الخير وهو بيديه ولو مكن تلك النفوس لفعلته فهو سبحانه لا يمكنها بل يمنعها إذا أرادته مع أنها لو خليت لفعلته فهو تارة بمنع الشر بإزالة سببه ومقتضيه وتارة يخلق ما يضاده وينافيه وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون سورة النحل 53وقول القائل خير وشر أي هذا خير من هذا وهذا شر من هذا ولهذا غالب استعمال هذين الإسمين كذلك كقوله آلله خير أما يشركون سورة النمل 59 أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا سورة الفرقان 24 وذروا البيع ذلكم خير لكم سورة الجمعة 9
وقالت السحرة والله خير وأبقى سورة طه 73 وقال قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل سورة المائدة 60 وقال يوسف أنتم شر مكانا سورة يوسف 77وقال حسان* فشركما لخيركما الفداء *الخير والشر درجاتفالخير ما كان خيرا من غيره والشر ما كان شرا من غيره والخير والشر درجات ولهذا قال تعالى لما ذكر أهل الجنة وأهل النار قال ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 وقال تعالى أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله سورة آل عمران 162 163 وكذلك ذكر تعالى في الأنعام والأحقاف بعد ذكر الطائفتينولهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات الجنة تذهب علوا ودرجات النار تذهب سفولا فدرجات الجنة كلها فيها النعيم وبعضها خير من بعض ودرجات النار كلها فيها العذاب وبعضها شر من بعض
وإذا قيل إن الله سبحانه هو خالق الخير والشر فالمراد ما هو شر من غيره وفيه أذى لبعض الناس ولكن خلقه لحكمة وما خلق لحكمة مطلوبة محبوبة فوجوده خير من عدمه فلم يخلق شيئا يكون شرا أي يكون وجوده شرا من عدمه لكن يخلق ما هو شر من غيره وغيره خير منه للحكمة المطلوبة وما فيه أذى لبعض الناس للحكمة المطلوبةلا يعذب الله أحدًا إلا بذنبهوهو سبحانه لا يعذب أحدا إلا بذنبه بمقتضى الحكمة والعدل وفي تعذيبه أنواع الحكمة والرحمة وهذا ظاهر فيما يبتلى به المؤمنين في الدنيا من المصائب التي هي جزاء سيئاتهم فإن في ذلك من الحكمة والرحمة والعدل ما هو بين لمن تأمله ولا يعاقب أحدا إلا بذنبهقال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير سورة الشورى 30 و ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم سورة الأنفال 53 فلا يسلبهم إلا إذا غيروا ما في أنفسهم بالمعاصي والذنوب فلا يجزى بالسيئات إلا من فعل السيئات ولا يوقع النقم ويسلب النعم إلا من أتى بالسيئات المقتضية لذلك كما فعل بمن خالف رسله من جميع الأمم كما قال في العذاب كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله
بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب سورة الأنفال 52 ثم قال ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم الآية وما بعدها إلى قوله وكل كانوا ظالمين سورة الأنفال 53 54 فذكر تمثيلا لزوال النعم عليهم لما كذبوا بآياتهولهذا قال فأهلكناهم بذنوبهم سورة الأنفال 54 وذكر الأول تمثيلا لعذابهم بعد الموت كما قال ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب سورة الأنفال 50 52 فقال هنا فأخذهم الله بذنوبهم فإن أخذه يتضمن أخذهم ليصلوا بعد الموت إلى العذاب ولفظ الهلاك يقتضي هلاكهم في الدنيا وزوال النعمة عنهم فذكر هلاكهم بزوال النعم وذكروا أخذهم بالنقم كما قال وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد سورة هود 102ولفظ المؤاخذة من الأخذ ومنه قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286 وقوله إن أخذه أليم شديد كقوله إن بطش ربك لشديد سورة البروج 12 وقال تعالى ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون الآية سورة الأنعام 42 وقال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون سورة المؤمنون 76 فهذا تعذيب لهم في الدنيا ليتضرعوا إليه وليتوبوا وذكر هنا أنه أخذهم
بالعذاب ولم يقل بالذنوب كأنه والله أعلم ضمن ذلك معنى جذبانهم إلينا لينيبوا وليتوبوا وإذا قال فأخذهم الله بذنوبهم يكون قد أهلكهم فأخذهم إليه بالهلاك وبسط هذا له موضح آخرالله يفعل الخير والأحسنوالمقصود هنا أن كل ما يفعله الرب ويخلقه فوجوده خير من عدمه وهو أيضا خير من غيره أي من موجود غيره يقدر موجودا بدله فكما أن وجوده خير من عدمه فهو أيضا خير من موجود آخر يقدر مخلوقا بدله كما ذكرنا فيما يأمر به أن فعله خير من تركه وأنه خير من أفعال غيره يشتغل بها عنه كما في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة 9وقولنا فعله خير من تركه سواء جعل الترك وجوديا أو عدميا والرب تعالى له المثل الأعلى وهو أعلى من غيره وأحق بالمدح والثناء من كل ما سواه وأولى بصفات الكمال وأبعد عن صفات النقص فمن الممتنع أن يكون المخلوق متصفا بكمال لا نقص فيه والرب لا يتصف إلا بالكمال الذي لا نقص فيه وإذا كان يأمر عبده أن يفعل الأحسن والخير فيمتنع أن لا يفعل هو إلا ما هو الأحسن والخير فإن فعل الأحسن والخير مدح وكمال لا نقص فيه فهو أحق بالمدح والكمال الذي لا نقص فيه من غيرهقال تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سورة الأعراف 145 وقال الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 واتبعوا أحسن
ا أنزل إليكم من ربكم سورة الزمر 55 وقال وافعلوا الخير لعلكم تفلحون سورة الحج 77 وقد قال تعالى في مدح نفسه قل اللهم مالك الملك إلى قوله بيدك الخير إنك على كل شيء قدير سورة آل عمران 26 وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث سورة الزمر 23 فكلامه أحسن الكلام وقال تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه الآية سورة السجدة 7 فقد أحسن كل شيء خلقه وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء سورة النمل 88 وهو سبحانه الرحمن الرحيم الغفور الودود الجواد الماجد وهو سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهو أرحم الراحمين وخير الراحمين كما قال أيوب مسني الضر وأنت أرحمن الراحمين سورة الأنبياء 83 وقال لنبيه وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين سورة المؤمنون 118 فهو أحق بالرحمة والجود والإحسان من كل أحد وقد قال سبحانه وربك يخلق ما يشاء ويختار ثم قال ما كان لهم الخيرة سورة القصص 68 فأخبر أنه يخلق ما يشاء ويختار والإختيار في لغة القرآن يراد به التفضيل والإنتقاء والإصطفاء كما قال فلما أتاها نودي يا موسى إلى قوله وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى سورة طه 11 13 وقال تعالى ولقد نجينا
بني إسرائيل من العذاب المهين سورة الدخان 30 إلى قوله ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين سورة الدخان 32 33 وقال في الآية الأخرى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة الآية سورة الجاثية 16 ومنه قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا سورة الأعراف 155 ومنه في الحديث إن الله اختار من الأيام يوم الجمعة ومن الشهور شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر واختار الساعاة فاختار ساعات الصلوات رواه ابن عساكر في كتاب تشريف يوم الجمعة وتعظيمه عن كعب الأحبارفصل مختصرقال الشيخ رحمه الله في آخر هذا الفصل من هذه القاعدةبيان حقيقة إرادة اللهإذا أراد سبحانه أن يخلق كان الخلق عقب الإرادة والمخلوق عقب التكوين والخلق كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82والجهمية والمعتزلة لا يقولون بذلك في الفعل بل يقولون يفعل مع جواز أن لا يفعل إلى أن قال
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا ذلك وبينوه للناس وعرفوا أن حدوث الحوادث اليومية المشهودة تدل على أن العالم مخلوق وأن له ربا خلقه ويحدث فيه الحوادث وقد ذكر ذلك الحسن البصري كما رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المطر ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة وذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني هارون حدثني عفان عن مبارك بن فضالة قال سمعت الحسن يقول كانوا يقولون يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه وإن الله قد حادثه بما ترون من الآيات إنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيها سكنا ونجوما وقمرا منيرا وإذا شاء بنى بناء جعل فيه
من المطر والبرق والرعد والصواعق ما شاء وإذا شاء صرف ذلك وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما يرون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة فقد ذكر الحسن عن الصحابة الإستدلال بهذه الحوادث المشهودة على وجود الرب سبحانه المحدث الفاعل بمشيئته وقدرته وبطلان أن يكون موجبا يقارنه موجبه فإن ذلك يمتنع محادثته أي إحداث الحوادث فيه وقولهم لو كان هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه يقتضي أن هذه الحوادث آيات الله وأنه رب هذا الخلق وأن هذا الخلق محدث لكون غيره يحادثه أي يحدث فيه الحوادث وما صرفه غيره وأحدث فيه الحوادث كان مقهورا مدبرا لم يكن واجبا بنفسه ممتنعا عن غيره وقوله لو كان له رب لحادثه قد يقال إنهم أنكروا هذا القول لقولهم لقال الشاك في الله وقد يقال بل هم مصدقون بهذه القضية الشرطية ولكن لو لم تكن الحوادث لكان الله يعرف دون هذه الحوادث فإن معرفته حاصلة بالفطرة والضرورة ونفس وجود الإنسان مستلزم لوجود الرب فكان الصانع يعلم من غير هذه الطريق فلهذا يعاب الشاك ويمكن أنهم لم يقصدوا عيبه على هذا التقدير بل على هذا التقدير كان الشك موجودا في الناس إذ لا دليل على وجوده فكانت هذه الآيات مزيلة للشك وموجبة لليقين
والأول أشبه بمرادهم وأولى بالحق فإنهم قالوا لقال الشاك في الله فدل على أن هناك من ليس بشاك في الله ولم يقولوا لشك الناس في الله وبسط هذا القول في إثبات الصانع له موضع غير هذا والمقصود أنه سبحانه وتعالى يخلق بمشيئته واختياره وأنه يختار الأحسن وأن إرادته ترجح الراجح الأحسن وهذا حقيقة الإرادة ولا تعقل إرادة ترجح مثلا على مثل ولو قدر وجود مثل هذه الإرادة فتلك أكمل وأفضل والخلق متصفون بها ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والمحدث الممكن أكمل من الواجب القديم فوجب أن يكون ما توصف به إرادته أكمل مما توصف به إرادة غيره فيجب أن يريد بها ما هو الأولى والأحسن والأفضل وهو سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته فالممتنع لا تتعلق به قدرة فلا يراد والممكن لذي يمكن أن يفعل ويكون مقدورا ترجح الإرادة الأفضل الأرجح منه وما يحكي عن الغزالي أنه قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم فإنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة
وقد أنرك عليه طائفة هذا الكلام وتفصيله أن الممكن يراد به القدور ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع وبين ذلك في غير موضع من القرآن وقد يراد به إنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما

رسالة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم


قاعدة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلموفي إثبات عدله وإحسانهتأليف شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية مما ألفه في محبسه الأخير بالقلعة بدمشق قدس الله روحهبسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعينالحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجميعن وسلم تسليمافصلاتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله تعالى عدل قائم بالقسط لا يظلم شيئا بل هو منزه عن الظلمتنازع طوائف المسلمين في معنى الظلم الذي ينزه الله عنهثم لما خاضوا في القدر تنازعوا في معنى كونه عدلا في الظلم الذي هو منزه عنهمقالة الجهمية والأشاعرةفقالت طائفة الظلم ليس بممكن الوجود بل كل ممكن إذا قدر وجوده منه فإنه عدل والظلم هو الممتنع مثل الجمع بين الضدين وكون الشيء موجودا معدوما فإن الظلم إما التصرف في ملك الغير وكل ما سواه ملكه وإما مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وليس فوق الله تعالى آمر تجب عليه طاعتهوهؤلاء يقولون مهما تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل وإذا قالوا كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهذا أمر أوهم
وهذا قول المجبرة مثل جهم ومن اتبعه وهو قول الأشعري وأمثاله من أهل الكلام وقول من وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفيةوقد روى عن بعض المتقدمين كلمات مطلقة تشبه هذا المذهب مثل قول إياس بن معاوية ما ناظرت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم ما الظلم قالوا أن تأخذ ما ليس لك قلت فلله كل شيء ومثل قول أبي الأسود لعمران بن حصين لما سأله فقال عمران أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه أشيء قضى عليهم ومضى من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون فيما أتاهم به نبيهم فاتخذت به عليهم الحجة قال قلت بل شيء قد قضى عليهم ومضى عليهم قال فهل يكون ذلك ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت له إنه ليس شيء إلا وهو خلق الله وملك يده ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال سددك الله إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلكوهذا قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى
وأتباعه وأبي المعالي الجويني وأتباعه وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهممقالة المعتزلةوالقول الثاني أنه عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته كما فعلوه عاصين لأمره وهو لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرا ولا شرا بل هم أحدثوا أفعالهم فلما أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها فعاقبهم بأفعالهم لم يظلمهمهذا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم وهؤلاء عندهم لا يتم تنزيهه عن الظلم إن لم يجعل غير خالق لشيء من أفعال العباد بل ولا قادر على ذلك وإن لم يجعل غير شاء لجميع الكائنات بل يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء إذ المشيئة عندهم بمعنى الأمروهؤلاء والذين قبلهم يتناقضون تناقضا عظيما ولكن من الطائفتين مباحث ومصنفات في الرد على الأخرى وكل من الطائفتين تسمى الأخرى القدرية وقد روى عن طائفة من التابعين موافقة هؤلاءمقالة أهل السنةوالقول الثالث أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه والعدل وضع كل شيء في موضعه وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها ولا
يضع شيئا إلا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل ولا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين مختلفين ولا يعاقب إلا من يتسحق العقوبة فيضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة والعدلوأما أهل البر والتقوى فلا يعاقبهم ألبتة قال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم 35 36 وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص 28 وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية سورة الجاثية 21قال أبو بكر بن الأنباري الظلم وضع الشيء في غير موضعه يقال ظلم الرجل سقاءه إذا سقا منه قبل أن يخرج زبده قال الشاعروصاحب صدق لم تنلني شكاته ... ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجرأراد بالصاحب وطب اللبن وظلمه إياه أن يسقيه قبل أن يخرج زبده والعرب تقول هو أظلم من حية لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ويقال قد ظلم الماء الوادي إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى ذكر ذلك أبو الفرج وكذلك قال البغوي أصل الظلم وضع
الشيء في غير موضعه وكذلك ذكر غير واحد قالوا والعرب تقول من أشبه أباه فما ظلم أي ما وضع الشبه في غير موضعهوهذا الأصل وهو عدل الرب يتعلق بجميع أنواع العلم والدين فإن جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك وكذلك أقواله وشرائعه كتبه المنزلة وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ والمعاد ومسائل النبوات وآياتهم والنواب والعقاب ومسائل التعديل والتجوير وغير ذلك وهذه الأمور مما خاض فيه جميع الأمم كما قد بسط في مواضعوأهل الملل كلهم يقرون بعدله لأن الكتب الإلهية نطقت بعدله وأنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس مثقال ذرة لكن كثير من الناس في نفسه ضغن من ذلك وقد يقوله بلسانه ويعرض به في نظمه ونثره وهؤلاء أكثر رما يكونون في المجبرة الذين لا يجعلون العدل قسيما لظلم ممكن لا يفعله بل يقولون الظلم ممتنع ويجوزون تعذيب الأطفال وغير الأطفال بلا ذنب أصلا وأن يخلق خلقا يعذبهم بالنار أبدا لا لحكمة أصلا ويرى أحدهم أنه خلق فيه الذنوب وعذب بالنار لا لحكمة ولا لرعاية عدل فتفيض نفوسهم إذا وقعت منهم الذنوب وأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونون فيها خصماء الله تعالى وقد وقع من هذا قطعة في كلام طائفة من الشيوخ وأهل الكلام ليس هذا موضع حكاية أعيانهموما ذكرناه من الأقوال الثلاثة نضبط أصول الناس فيه ونبين أن القول الثالث هو الصواب وبه يتبين أن كل ما يفعله الرب فهو عدل وأنه لا يضع
الأشياء في غير رموضعها فلا يظلم مثقال ذرة ولا يجزى أحدا إلا بذنبه ولا يخاف أحد ظلما ولا هضما لا يهضم من حسناته ولا يظلم فيزاد عليه في سيئاته لا من سيئات غيره ولا من غيرها بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أي لا يملك ذلك ولا يستحقه وإن كان قد يحصل له نفع بفضل الله ورحمته وبدعاء غيره وعمله فذاك قد عرف أن الله يرحم كثيرا من الناس من غير جهة عمله لكنه ليس له إلا ما سعى قال الله تعالى أمل لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى سورة النجم 36 41 وقوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى يقتضي أن المنبأ بذلك يجب عليه تصديق ذلك والإيمان به فكان هذا مما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لإبراهيم وموسى كما قال في آخر سبح إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى سورة الأعلى 18 19فصلومما يتبين عدل الرب وإحسانه وأن الخير بيديه والشر ليس إليه كما كان عليه السلام يثني على ربه بذلك في مناجاته له في دعاء الإستفتاح
وأنه سبحانه لا يظلم مثقال ذرة بل مع غاية عدله فهو أرحم الراحمين وهو أرحم من الوالدة بولدها كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وهو سبحانه أحكم الحاكمين كما قال نوح في مناجاته وأنت أحكم الحاكمين سورة هود 45 وأن الظلم قد ذكرنا في غير موضع أن للناس في تفسيره ثلاثة أقوال قيل هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وكلاهما منتف في حق الله تعالى وهذا تفسير المجبرة القدرية من الجهمية وغيرهم وكثير ممن ينتسب إلى السنة وهو تفسير الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهموالثاني أنه إضرار غير مستحق وهذا أيضا منتف عن الله تعالى وهذا تفسير المعتزلة وغيرهموهؤلاء يقولون لو قدر الذنوب وعذب عليها لكان إضرار غير مستحق والله منزه عنه وأولئك يقولون الظلم ممتنع لذاته غير ممكن ولا مقدور بل كل ما يمكن فهو عدل غير ظلم وإذا عذب جميع الخلق بلا
ذنب أصلا لم يكن ظلما عند هؤلاء وإذا فعل ما يشاء بمقتضى حكمته وقدرته كان ظلما عند أولئك فإنهم يجعلون ظلمه من جنس ظلم العباد وعدله من جنس عدلهم وهم مشبهة الأفعالوالسيد إذا ترك مماليكه يظلمون ويفسدون مع قدرته على منعهم كان ظالما وإذا كان قد أمرهم ونهاهم وهو يعلم أنهم يعصونه وهو قادر على منعهم كان ظالما وإذا قال مقصودي أن أعرضهم لثواب الطاعة ولذلك اقتنيتهم وقد علم أنهم لا يطيعونه كان سفيها ظالما وهم يقولون إن الرب خلق الخلق وليس مراده إلا أن ينفعهم وأمرهم وليس مراده إلا نفعهم بالثواب مع علمه أنهم يعصونه ولا ينتفعونولهذا طائفة منهم نفت علمه وآخرون قالوا ما يمكنه أن يجعلهم مطيعين وهو قول جمهورهم فنفوا قدرته وإن أثبتوه عالما قادرا ولم يفعل ما أراده من الخير جعلوه غير حكيم ولا رحيم بل ولا عادلوأما الطائفة الأخرى فهم معطلة في الأفعال كما أن أولئك مشبهة الأفعال فإنهم يعطلون فعل العبد ويقولون ليس بفاعل ولا قادر على الفعل ولا له قدرة مؤثرة في المقدور وأما الرب فيقولون خلق ما خلق لا لحكمة أصلا فعطلوا حكمته وقال إنه يجوز أن يعذب جميع الخلق بلا ذنب فعطلوا عدله والعدل هو فعله وهو سبحانه قائم بالقسط فمن نفى عدله وحكمته فإما أن ينفي فعله وإما أن يصفه بضد ذلك من الظلم والسفه كما أن الكلام على الطائفتين في غير هذا الموضع
والصواب القول الثالث وهو أن الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها وكذلك ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره من أهل اللغة وذكروا على ذلك عدة شواهد كما قد بسط في غير هذا الموضعوحينئذ فليس في الوجود ظلم من الله سبحانه بل قد وضع كل شيء موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك فهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته ويستحق الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم خلاف قول المجبرة الذين يقولون لا يقدر على الظلم وقد وافقهم بعض المعتزلة كالنظام لكن الظلم عنده غير الظلم عندهم فأولئك يقولون الظلم هو الممتنع لذاته وهذا يقول هو ممكن لكن لا يقدر عليه والقدرية النفاة يقولون ليس في الوجود ظلم من الله لأنه عندهم لم يخلق شيئا من أفعال العباد ولا يقدر على ذلك فما نزهوه عن الظلم إلا بسلبه القدرة وخلق كل شيء كما أن أولئك ما أثبتوا قدرته وخلقه كل شيء حتى قالوا إنه لا ينزه أن يفعل ما يمكن كتعذيب البراء بلا ذنب فأولئك أثبتوا له حمدا بلا ملك وهؤلاء أثبتوا له ملكا بلا حمد وأهل السنة أثبتوا ما أثبته لنفسه له الملك والحمد فهو على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو عادل في كل ما خلقه واضع للأشياء مواضعها وهو قادر على أن يظلم لكنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لأنه السلام القدوس المستحق للتنزيه عن السوء وهو سبحانه سبوح قدوس يسبح له ما في السماوات والأرض وسبحان الله كلمة كما قال ميمون بن مهران هي كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء
وكذلك قال ابن عباس وغير واحد من السلف إنها تنزيه الله من السوء وقال قتادة في اسمه المتكبر إنه الذي تكبر عن السوء وعنه أيضا إنه الذي تكبر عن السيئاتفهو سبحانه منزه عن فعل القبائح لا يفعل السوء ولا السيئات مع أنه سبحانه خالق كل شيء أفعال العباد وغيرها والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل سوءا وظلما وقبيحا وشرا والرب قد جعله فاعلا لذلك وذلك منه سبحانه عدل وحكمة صواب ووضع للأشياء مواضعها فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التي خلقه لها هو محمود عليه وهو منه عدل وحكمة وصواب وإن كان في المخلوق عيبا ومثل هذا مفعول في الفاعلين المخلوقين فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة والحجر الردى واللبنة الناقصة فوضعها في موضع يليق بها ويناسبها كان ذلك منه عدلا واستقامة وصوابا وهو محمود وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومه مذمومة ومن أخذ الخبائث فجعلها في المحل الذي يليق بها كان ذلك حكمة وعدلا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها ومن وضع العمامة على الرأس والنعلين في الرجلين فقد وضع كل شيء موضعه ولم يظلم النعلين إذ هذا محلهما المناسب لهما فهو سبحانه لا يضع شيئا إلا موضعه فلا يكون إلا عدلا ولا يفعل إلا خيرا فلا يكون إلا محسنا جوادا رحيما وهو سبحانه له الخلق والأمر فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وبتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض امران رجح أحسنهما وليس في الشريعة أمر بفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده وهو فيما يأمر به قد أراده إرادة دينية شرعية وأحبه ورضيه فلا يحب ويرضى شيئا إلا ووجوده خير من عدمه ولهذا أمر عباده أن يأخذوا
بأحسن ما أنزل إليهم من ربهم فإن الأحسن هو المأمور به وهو خير من المنهي عنهالخير بيديه سبحانه والشر ليس إليهكذلك هو سبحانه في خلقه وفعله فما أراد أن يخلقه وبفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرا من أن لا يخلقه ويفعله وما لم يرد أن يخلقه ويفعله كان أن لا يخلقه ويفعله خيرا من أن يخلقه ويفعله فهو لا يفعل إلا الخير وهو ما وجوده خير من عدمه فكل ما كان عدمه خيرا من وجوده فوجوده شر فهو لا يفعله بل هو منزه عنه والشر ليس إليه فالشر وهو ما كان وجوده شرا من عدمه ليس إليه إذ كان هذا مستحقا للعدم لا يشاؤه ولا يخلقه والمعدوم لا يضاف إلى فاعل فليس إليه ولكن الخير بيديه وهو ما كان وجوده خيرا من عدمهالتعليق على قول بعضهم: الخير كله في الوجود والشر كله في العدمومن الناس من يقول الخير كله في الوجود والشر كله في العدم والوجود خير روالشر المحض لا يكون إلا معدوما وهذا لفظ مجمل فإذا أريد بذلك أن كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير ووجوده خير من عدمه فهذا صحيح وكذلك ما لم يخلقه ولم يشأه وهو المعدوم الباقي على عدمه لا خير فيه إذ لو كان فيه خير لفعله سبحانه فإنه سبحانه بيده الخير فالشر العدمي هو عدم الخير لا أن في العدم شرا وجوديا وأما إذا أريد أن كل ما يقدر وجوده فوجوده خير وكل ما يقدر عدمه فعدمه شر فليس بصحيح بل من الأشياء ما وجوده شر من عدمه ولكن هذا لا يخلقه الرب فيبقى معدوما وعدمه خير فهذا خير من هذا العدم بمعنى أن عدمه خير رمن وجوده إذ كان وجوده فيه ضرر راجح وعدم الضرر الراجح خير فهو خير عدمي في العدم
إذ العدم لا يكون فيه وجود فالشر ليس إليه وهو ما كان وجوده شرا من عدمه فإنه لا يخلق هذا وما لم يخلقه فإنه ليس إليه وكل ما خلقه فوجوده خير من عدمه وهو سبحانه بيده الخير وذلك الذي وجوده شر من عدمه فإنه سبحانه يدفعه ويمنعه أن يكون مع القيام المقتضي له كما قال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا سورة الحج 38 والله يعصمك من الناس سورة المائدة 67 له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله سورة الرعد 11 وهو يجير ولا يجار عليه سورة المؤمنون 88فدفعه الشر الذي تريده النفوس الشريرة هو من الخير وهو بيديه ولو مكن تلك النفوس لفعلته فهو سبحانه لا يمكنها بل يمنعها إذا أرادته مع أنها لو خليت لفعلته فهو تارة بمنع الشر بإزالة سببه ومقتضيه وتارة يخلق ما يضاده وينافيه وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون سورة النحل 53وقول القائل خير وشر أي هذا خير من هذا وهذا شر من هذا ولهذا غالب استعمال هذين الإسمين كذلك كقوله آلله خير أما يشركون سورة النمل 59 أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا سورة الفرقان 24 وذروا البيع ذلكم خير لكم سورة الجمعة 9
وقالت السحرة والله خير وأبقى سورة طه 73 وقال قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل سورة المائدة 60 وقال يوسف أنتم شر مكانا سورة يوسف 77وقال حسان* فشركما لخيركما الفداء *الخير والشر درجاتفالخير ما كان خيرا من غيره والشر ما كان شرا من غيره والخير والشر درجات ولهذا قال تعالى لما ذكر أهل الجنة وأهل النار قال ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 وقال تعالى أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله سورة آل عمران 162 163 وكذلك ذكر تعالى في الأنعام والأحقاف بعد ذكر الطائفتينولهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات الجنة تذهب علوا ودرجات النار تذهب سفولا فدرجات الجنة كلها فيها النعيم وبعضها خير من بعض ودرجات النار كلها فيها العذاب وبعضها شر من بعض
وإذا قيل إن الله سبحانه هو خالق الخير والشر فالمراد ما هو شر من غيره وفيه أذى لبعض الناس ولكن خلقه لحكمة وما خلق لحكمة مطلوبة محبوبة فوجوده خير من عدمه فلم يخلق شيئا يكون شرا أي يكون وجوده شرا من عدمه لكن يخلق ما هو شر من غيره وغيره خير منه للحكمة المطلوبة وما فيه أذى لبعض الناس للحكمة المطلوبةلا يعذب الله أحدًا إلا بذنبهوهو سبحانه لا يعذب أحدا إلا بذنبه بمقتضى الحكمة والعدل وفي تعذيبه أنواع الحكمة والرحمة وهذا ظاهر فيما يبتلى به المؤمنين في الدنيا من المصائب التي هي جزاء سيئاتهم فإن في ذلك من الحكمة والرحمة والعدل ما هو بين لمن تأمله ولا يعاقب أحدا إلا بذنبهقال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير سورة الشورى 30 و ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم سورة الأنفال 53 فلا يسلبهم إلا إذا غيروا ما في أنفسهم بالمعاصي والذنوب فلا يجزى بالسيئات إلا من فعل السيئات ولا يوقع النقم ويسلب النعم إلا من أتى بالسيئات المقتضية لذلك كما فعل بمن خالف رسله من جميع الأمم كما قال في العذاب كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله
بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب سورة الأنفال 52 ثم قال ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم الآية وما بعدها إلى قوله وكل كانوا ظالمين سورة الأنفال 53 54 فذكر تمثيلا لزوال النعم عليهم لما كذبوا بآياتهولهذا قال فأهلكناهم بذنوبهم سورة الأنفال 54 وذكر الأول تمثيلا لعذابهم بعد الموت كما قال ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب سورة الأنفال 50 52 فقال هنا فأخذهم الله بذنوبهم فإن أخذه يتضمن أخذهم ليصلوا بعد الموت إلى العذاب ولفظ الهلاك يقتضي هلاكهم في الدنيا وزوال النعمة عنهم فذكر هلاكهم بزوال النعم وذكروا أخذهم بالنقم كما قال وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد سورة هود 102ولفظ المؤاخذة من الأخذ ومنه قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286 وقوله إن أخذه أليم شديد كقوله إن بطش ربك لشديد سورة البروج 12 وقال تعالى ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون الآية سورة الأنعام 42 وقال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون سورة المؤمنون 76 فهذا تعذيب لهم في الدنيا ليتضرعوا إليه وليتوبوا وذكر هنا أنه أخذهم
بالعذاب ولم يقل بالذنوب كأنه والله أعلم ضمن ذلك معنى جذبانهم إلينا لينيبوا وليتوبوا وإذا قال فأخذهم الله بذنوبهم يكون قد أهلكهم فأخذهم إليه بالهلاك وبسط هذا له موضح آخرالله يفعل الخير والأحسنوالمقصود هنا أن كل ما يفعله الرب ويخلقه فوجوده خير من عدمه وهو أيضا خير من غيره أي من موجود غيره يقدر موجودا بدله فكما أن وجوده خير من عدمه فهو أيضا خير من موجود آخر يقدر مخلوقا بدله كما ذكرنا فيما يأمر به أن فعله خير من تركه وأنه خير من أفعال غيره يشتغل بها عنه كما في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة 9وقولنا فعله خير من تركه سواء جعل الترك وجوديا أو عدميا والرب تعالى له المثل الأعلى وهو أعلى من غيره وأحق بالمدح والثناء من كل ما سواه وأولى بصفات الكمال وأبعد عن صفات النقص فمن الممتنع أن يكون المخلوق متصفا بكمال لا نقص فيه والرب لا يتصف إلا بالكمال الذي لا نقص فيه وإذا كان يأمر عبده أن يفعل الأحسن والخير فيمتنع أن لا يفعل هو إلا ما هو الأحسن والخير فإن فعل الأحسن والخير مدح وكمال لا نقص فيه فهو أحق بالمدح والكمال الذي لا نقص فيه من غيرهقال تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سورة الأعراف 145 وقال الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 واتبعوا أحسن
ا أنزل إليكم من ربكم سورة الزمر 55 وقال وافعلوا الخير لعلكم تفلحون سورة الحج 77 وقد قال تعالى في مدح نفسه قل اللهم مالك الملك إلى قوله بيدك الخير إنك على كل شيء قدير سورة آل عمران 26 وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث سورة الزمر 23 فكلامه أحسن الكلام وقال تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه الآية سورة السجدة 7 فقد أحسن كل شيء خلقه وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء سورة النمل 88 وهو سبحانه الرحمن الرحيم الغفور الودود الجواد الماجد وهو سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهو أرحم الراحمين وخير الراحمين كما قال أيوب مسني الضر وأنت أرحمن الراحمين سورة الأنبياء 83 وقال لنبيه وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين سورة المؤمنون 118 فهو أحق بالرحمة والجود والإحسان من كل أحد وقد قال سبحانه وربك يخلق ما يشاء ويختار ثم قال ما كان لهم الخيرة سورة القصص 68 فأخبر أنه يخلق ما يشاء ويختار والإختيار في لغة القرآن يراد به التفضيل والإنتقاء والإصطفاء كما قال فلما أتاها نودي يا موسى إلى قوله وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى سورة طه 11 13 وقال تعالى ولقد نجينا
بني إسرائيل من العذاب المهين سورة الدخان 30 إلى قوله ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين سورة الدخان 32 33 وقال في الآية الأخرى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة الآية سورة الجاثية 16 ومنه قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا سورة الأعراف 155 ومنه في الحديث إن الله اختار من الأيام يوم الجمعة ومن الشهور شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر واختار الساعاة فاختار ساعات الصلوات رواه ابن عساكر في كتاب تشريف يوم الجمعة وتعظيمه عن كعب الأحبارفصل مختصرقال الشيخ رحمه الله في آخر هذا الفصل من هذه القاعدةبيان حقيقة إرادة اللهإذا أراد سبحانه أن يخلق كان الخلق عقب الإرادة والمخلوق عقب التكوين والخلق كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82والجهمية والمعتزلة لا يقولون بذلك في الفعل بل يقولون يفعل مع جواز أن لا يفعل إلى أن قال
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا ذلك وبينوه للناس وعرفوا أن حدوث الحوادث اليومية المشهودة تدل على أن العالم مخلوق وأن له ربا خلقه ويحدث فيه الحوادث وقد ذكر ذلك الحسن البصري كما رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المطر ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة وذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني هارون حدثني عفان عن مبارك بن فضالة قال سمعت الحسن يقول كانوا يقولون يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه وإن الله قد حادثه بما ترون من الآيات إنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيها سكنا ونجوما وقمرا منيرا وإذا شاء بنى بناء جعل فيه
من المطر والبرق والرعد والصواعق ما شاء وإذا شاء صرف ذلك وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما يرون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة فقد ذكر الحسن عن الصحابة الإستدلال بهذه الحوادث المشهودة على وجود الرب سبحانه المحدث الفاعل بمشيئته وقدرته وبطلان أن يكون موجبا يقارنه موجبه فإن ذلك يمتنع محادثته أي إحداث الحوادث فيه وقولهم لو كان هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه يقتضي أن هذه الحوادث آيات الله وأنه رب هذا الخلق وأن هذا الخلق محدث لكون غيره يحادثه أي يحدث فيه الحوادث وما صرفه غيره وأحدث فيه الحوادث كان مقهورا مدبرا لم يكن واجبا بنفسه ممتنعا عن غيره وقوله لو كان له رب لحادثه قد يقال إنهم أنكروا هذا القول لقولهم لقال الشاك في الله وقد يقال بل هم مصدقون بهذه القضية الشرطية ولكن لو لم تكن الحوادث لكان الله يعرف دون هذه الحوادث فإن معرفته حاصلة بالفطرة والضرورة ونفس وجود الإنسان مستلزم لوجود الرب فكان الصانع يعلم من غير هذه الطريق فلهذا يعاب الشاك ويمكن أنهم لم يقصدوا عيبه على هذا التقدير بل على هذا التقدير كان الشك موجودا في الناس إذ لا دليل على وجوده فكانت هذه الآيات مزيلة للشك وموجبة لليقين
والأول أشبه بمرادهم وأولى بالحق فإنهم قالوا لقال الشاك في الله فدل على أن هناك من ليس بشاك في الله ولم يقولوا لشك الناس في الله وبسط هذا القول في إثبات الصانع له موضع غير هذا والمقصود أنه سبحانه وتعالى يخلق بمشيئته واختياره وأنه يختار الأحسن وأن إرادته ترجح الراجح الأحسن وهذا حقيقة الإرادة ولا تعقل إرادة ترجح مثلا على مثل ولو قدر وجود مثل هذه الإرادة فتلك أكمل وأفضل والخلق متصفون بها ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والمحدث الممكن أكمل من الواجب القديم فوجب أن يكون ما توصف به إرادته أكمل مما توصف به إرادة غيره فيجب أن يريد بها ما هو الأولى والأحسن والأفضل وهو سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته فالممتنع لا تتعلق به قدرة فلا يراد والممكن لذي يمكن أن يفعل ويكون مقدورا ترجح الإرادة الأفضل الأرجح منه وما يحكي عن الغزالي أنه قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم فإنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة
وقد أنرك عليه طائفة هذا الكلام وتفصيله أن الممكن يراد به القدور ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع وبين ذلك في غير موضع من القرآن وقد يراد به إنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما

رسالة في تحقيق الشكر


فصل يتعلق بالشكرالمجبرة والقدرية والملاحدة لا يحمدون الله ولا يشكرونهاعلم أن أهل البدع القدرية من الجهمية المجبرة والقدرية النافية لا يحمدون الله ولا يشكرونه كما أنهم لا يعبدونه وأما أهل الإلحاد من المتفلسفة والباطنية فهم أبعد عن حمده وشكرهمقالة المجبرةوذلك أن المجبرة حقيقة قولهم أنه ليس برحيم ولا منعم بل ولا إله يستحق أن يعبد ويحب بل صدور الإحسان عنه كصدور الإساءة وإنما هو يفعل بمحض مشيئة ترجح الشيء على مثله لا لمرجح وكل الممكنات عندهم متماثلة فلا فرق بين أن يريد رحمة الخلق ونفعهم والإحسان إليهم أو يريد فسادهم وهلاكهم وضرارهم يقولون هذا كله عنده سواءومعلوم أن الإنعام إنما يكون إنعاما إذا قصد به المنعم نفع المنعم عليه دون إضراره وأما إذا قصد الأمرين فهذا ليس جعله منمعما مصلحا بأولى من جعله معتديا مفسدا كمن بيده سيف يضرب به صديق الإنسان تارة وعدوه أخرى أو معه دراهم يقوى بها تارة ويقويه بها تارة فهذا ليس كونه محسنا إليه بأولى من كونه ضارا له ومحسنا إلى عدوهمقالة القدرية النافيةوأما النافية فعندهم أن هذا كله واجب عليه البيان وخلق القدرة وإزاحة العلل والجزاء ومن فعل الواجب الذي يستحقه غيره عليه لم يستحق الشكر المطلق
وأيضا إنعامه بالهدى على المؤمنين والكفار سواء فشكر المؤمنين له على الهدى كشكر الكفار عليه إذ لم ينعم على المؤمنين بنفس الهدى بل هم اهتدوا بقدرتهم ومشيئتهم وإذن كان إنعامه على النوعين سواء ولكن هؤلاء هم الذين فعلوا ما يسعدون بهمقالة المتفلسفةوالمتفلسفة أرسطو وأتباعه عندهم أنه لا يفعل شيئا ولا يريد شيئا ولا يعلم شيئا ولا يخلق شيئا فعلى أي شيء يشكر أم على أي شيء يحمد ويعبدمقالة باطنية الشيعة والمتصوفةوالباطنية باطنية الشيعة والمتصوفة كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك بل يقولون الوجود واحد وجود المخلوق هو وجود الخالق فيجب عندهم أن يكون كل موجود عابدا لنفسه شاكرا لنفسه حامدا لنفسهمقالة ابن عربيوابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم وقد صرح بأن الله لم يعط أحدا شيئا وأن جميع ما للعباد فهو منهم لا منه وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعيانهم وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده فالرب إن ظهر
فهو العبد والعبد إن بطن فهو الرب ولهذا قال لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء ولهذا قال إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين فالداعي هو المدعو فكيف يدعو نفسه وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية فما بعد هذا شيء وقال فلا تطمع أن ترقى في أعلى من هذه الدرج فما ثم شيء أصلا وإن هذا إنما يعرفه خلاصة خلاصة الخاصة من أهل اللهفصرح بأنه ليس بعد وجود المخلوقات وجود يخلق ويرزق ويعبد ولهذا كان صاحبه القاضي يقولما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذموإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكموقد قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر
فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم الآية سورة النحل 53 54 إلى قوله سبحانه ولهم ما يشتهون الآية 57كفر باطنية المتصوفة أعظم من كفر الفلاسفةوهذه الآيات كما تناولت ذم الذين جعلوا له شريكا وولدا فتناولها لذم هؤلاء الملاحدة أعظم فإن القائلين بقدم العالم وأنه معلول جعلوه كله والدلالة قديما أزليا معه وهذا أعظم من قول أولئك والذين لم يجعلوه معلولا له قالوا إنه قديم معه واجب الوجود مماثل له بل وجعلوا الفلك هو الذي تحدث عنه الحوادث لكن حركته للشبه به وهذا أعظم من كل شرك في العالم ومن شرك المجوس والحرنانيين فإن أولئك وإن جعلوا معه قديما إما الظلمة وهي إبليس عند المجوس وإما النفس والهيولي عند الحرنانيين فهم يقولون إنه أحدث العالم وأنه ركبه من النفس والهيولي القدمين ورحبه من أجزاء النور والظلمةولهذا ذكر محمد بن كعب وغيره عن المجوس والصابئة أنهم قالوا عن الله لولا أولياؤه لذل فأنزل الله تعالى ولم يكن له ولي من الذل سورة الإسراء 111 فإنهم يجعلونه محتاجا إلى من يعاونه إذ كان
مغلوبا من وجه مع القدماء معه كما هو غالب من وجهوكفر أولئك أعظم فإنهم لم يجعلوا له تأثيرا في الفلك ولا تصرفا بوجه من الوجوه فهؤلاء تنقصوه وسلبوه الربوبية والإلهية أعظم من أولئك وجعلوه مع الفلك مغلوبا من كل وجه لا بقدر أن يفعل فيه شيئا وكقول عبدة الأوثان هو أجل من أن نعبده بل نعبد الوسائط وهو أجل من أن يبعث بشرا رسولا فجحدوا توحيده ورسالته على وجه التعظيم له وكذلك المجوس الثنوية أثبتوا الظلمة تنزيها له عن فعل الشر والحرنانيون أثبتوا معه النفس والهبلوي قديمين تنزيها له عن إحداث العالم بلا سبب فالأمم كلهم يعظمونه لكن تعظيما يستلزم شبهة وسبةكل ما بالخلق من نعمة فمن اللهوالمقصود هنا قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله سورة النحل 53 وقوله عز و جل وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه سورة الجاثية 13 فالأمر ضد ما قاله هؤلاء الملاحدة ابن عربي ونحوه حيث قالوا ما في أحد من الله شيء فيقال لهم بل كل ما بالخلق من نعمة فمن الله وحدهقال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قال إذا أمسى اللهم ما أمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر تلك الليلة رواه أبو داود وغيره
فكل ما بالخلق من النعم فمنه وحده لا شريك له ولهذا هو سبحانه يجمع بين الشكر والتوحيد ففي الصلاة أول الفاتحة الحمد لله رب العالمين وأوسطها إياك نعبد وإياك نستعين والخطب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وعن ابن عباس إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله فإن الله يقول فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين سورة غافر 65وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يصبح الحمد لله ربي لا أشرك به شيئا أشهد أن لا إله إلا الله ظل تغفر له ذنوبه حتى يمسي ومن قالها حين يمسي غفرت له ذنوبه حتى يصبح رواه أبان المحاربي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن عبد البر وغيرهفالحمد أول الأمر كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم والتوحيد نهايته ولهذا كان النصف من الفاتحة الذي هو لله أوله حمد وآخره توحيد إياك نعبدوالحمد رأس الشكر فالحامد يشكره أولا على نعمه ثم يعبده وحده فإن العبد أول ما يعرف ما يحصل له من النعمة مثل خلقه حيا وخلق طرق العلم السمع والبصر والعقل
وقد تنازع الناس في أول ما أنعم الله على العبد فقيل هو خلقه حيا أو خلق الحياة كما قال ذلك من قاله من المعتزلة وقيل بل إدراك اللذات ونيل الشهوات كما يقوله الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره كالقاضي أبي يعلى في أحد قوليه ومن أصحاب أحمد وغيرهم من قال بل أولها هو الإيمان ولم يجعل ما قبل الإيمان نعمة بناء على أن تلك لا تصير نعما إلا بالإيمان وأن الكافر ليس عليه نعمة وهذا أحد قولي الأشعري وأحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الفرجنعمة الله على الكفار وغيرهم ولكن نعمته المطلقة على المؤمنينوالصحيح أن نعمة الله على كل أحد على الكفار وغيرهم لكن النعمة المطلقة التامة هي على الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أمرنا أن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإن جعلت غير صفة لا استثناء فيها لم يدخل المغضوب عليهم ولا الضالون في المنعم عليهم وإن جعلت استثناء فقد دخلوا في المنعم عليهم لكن رجحوا الأول فقالوا واللفظ للبغوي غير ههنا بمعنى لا ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف عليها كما يقال فلان يغر محسن ولا مجمل فإذا كان غير بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد وقد روى عن عمر أنه قرأ صراط من أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم وغير الضالينوهذا قد ذكره غير واحد من أهل العربية ومثلوه بقول القائل إنى لأقر بالصادق غير الكاذب قالوا وغير هنا صفة ليست للإستثناء وأصل غير أن تكون صفة وهي في الآية صفة ولهذا خفضت كأنه قيل صراط المنعم عليهم المغايرين لهؤلاء وهؤلاءهذه هي النعمة المطلقة التامة والقرآن مملوء من ذكر نعمه على الكفار وقد قال تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم سورة البقرة 28 فالحياة نعمة وإدراك اللذات نعمة وأما الإيمان فهو أعظم النعم وبه تتم النعمفالإنسان بجبلته يطلب ما يوافقه ويتنعم به من الغذاء وغيره على هذا فطر فيعرف النعمة فيعرف المنعم فيشكره فلهذا كان الحمد هو الإبتداء فإن شعوره بنفسه وبما يحتاج إليه ويتنعم به قبل شعوره بكل شيء وهو من حين خرج من بطن أمه شعر باللبن الذي يحتاج إليه ويتنعم به وبما يخرج منه وهو الثدي فلهذا تعرف الله إليه بالنعم ليشكره وشكره ابتداء معرفته بالله فإذا عرف الله أحبه فعبده وتنعم بعبادته وحده لا شريك له وعرف ما في التأله له من اللذة العظيمة التي لا يعد لها لذة فلهذا كان التوحيد نهايته أوله الحمد وآخره إياك نعبدوكذلك في الجنة كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزياده فالنظر إليه أكمل اللذات وآخرها كما قال فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولهذا قيل أطيب ما في الدنيا معرفته وأطيب ما في الآخرة مشاهدتهوعبادته وحده بمحبته وقصد رؤيته هو لأهل السنة الذين يقرون بإلاهيته وحكمته وأنه يستحق المحبة وأن يكون هو أحب إلى العبد من كل شيءالجهمية والمعتزلة ينكرون محبته تعالى ويقرون بوجوب الشكروأما الجهمية والمعتزلة فينكرون محبته وحقيقة إلاهيته وعلى قولهم تمتنع عبادته لكن المعتزلة تقر بالنعمة ووجوب الشكر وعلى هذا بنوا دينهم وغاية الواجبات هي الشكر ولهذا قالوا الشكر يجب عقلا وأما العبادة والمحبة فلم يعرفوها ولم يصلوا إليها بل أنكروهاوأما الجهمية المجبرة لا هذا ولا هذا لكن يعترفون بقدرته وأنه يفعل ما يشاء ولهذا كانوا في الواجبات وترك المحرمات أبعد من المعتزلة فإنهم مرجئة مجبرة فلا يجزمون بالوعيد وهذا نصف الحرف الباعث على العمل ويقلون بالجبر وهذا نصف الإعتراف بحق الله على العبد ووجوب شكره فتضعف دواعيهم من جهة الخوف ومن جهة الشكر لا يشكرون نعمه الماضية
الجهمية المجبرة يضعف شكرهم وخوفهم ويقوى رجاؤهمولا يخافون عقوبته المستقبلة ولكن لما آمن من آمن منهم بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء وصاروا يوجبون الشكر شرعا وعندهم داعي الرجاء فالرجاء عندهم أغلب من الخوف وهو أحد المعنيين في تسميتهم مرجئة قيل إنه من الرجاء أي يجعلون الناس راجين فهم مرجية لا مخيفة لكن الصحيح أنهم مرجئة بالهمز من الإرجاء لكن يشارك الرجاء في الإشتقاق الأكبرالمؤمن يخاف الله ويرجوه ويحبهولهذا قيل من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو مؤمن موحدالقائلون بوحدة الوجود يحبون بدون خوف أو رجاءوذلك أن الحب الذي ليس معه رجاء ولا خوف يبعث النفس على اتباع هواها وصاحبه إنما يحب في الحقيقة نفسه وقد اتخذ إلاهه هواه فلهذا كان زنديقا ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية كالقائلين بوحدة الوجود فإن هؤلاء سلوكهم عن هوى ومحبة فقط ليس معه رجاء ولا خوف ولهذا يتنوعون
فهم من الذين قال الله فيهم أفرأيت من اتخذ إلهه هواه سورة الجاثية 23 ولهذا يجوزون الشرك كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية وما بعدها إلى قوله كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 32وهم في الحقيقة ينكرون محبة الله ولكن يقولون الحكمة هي التشبه به ولهذا كان ابن عربي يجعل الولي هو المتشبه به في التخلق بأسمائه وينكر اللذة بالمشاهدة والخطاب ويقول ما التذ عارف قط بالمشاهدة لأنها على أصله مشاهدة وجود مطلق ولا لذة فيهاووقع بينه وبين شهاب الدين السهروردي منازعة هل حين يتجلى لهم يخاطبهم فأثبت شهاب الدين ذلك كما جائت به الآثار وأنكر ذلك ابن عربي وقال مسكين هذا السهروردي نحن نقول له عن تجلي الذات وهو يقول عن تجلي الصفات
وهذا بناء على أصله الفاسد وهو أن الذات وجود مطلق لا تقوم به صفات لا كلام ولا غيره فيستحيل عند تجليها خطابوشهاب الدين كان أتبع للسنة والشرع منه ولهذا كان صاحبهما ابن حمويه يقول ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء ولكن نور المتابعة المحمدية على وجه الشيخ شهاب الدين شيء آخر لكنه كان ضعيف الإثبات للصفات والعلو لما فيه من التجهم الأشعري وكان يقول عن الرب لا إشارة ولا تعيينوهؤلاء مخانيث الجهمية وابن عربي من ذكورهم فهم يستطيلون على من دخل معهم في التجهم وإنما يقهرهم أهل السنة المثبتون العارفون بما جاء به الرسول وبمخالفتهم له وببطلان ما يناقصن السنة من المعقولات الفاسدة ولم يكن السهروردي من هؤلاء وكذلك الحريري قال كنت أثبت المحبة أولا ثم رأيت أن المحبة ما تكون إلا من غير لغير وما ثم غير
فهؤلاء منتهاهم إنكار المحبة التي يستحقها الرب ولهذا لا يتابعون رسوله ولا يجاهدون في سبيله والله وصف المؤمنين بهذا وبهذا فمحبة هؤلاء تجر إلى الزندقةوأيضا فقد يقولون إن المحب لا تضره الذنوب وصنف ابن حمويه في ذلك مصنفا بناه على ما يقال إذا أحب الله عبدا لا تضره الذنوب وهذا إذا قاله المحق فقصده أنه لا يتركه مصرا عليها بل يتوب عليه منها فلا تضره فأخذه هؤلاء وقالوا إن الذنوب لا تضر المحبوبين وأحدهم يقول عن نفسه إنه محجوب فلا تضره الذنوب فصاروا مثل اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه سورة المائدة 18 فصار فيهم زندقة من هذا الوجه ومن غيرهبيان مقالة أهل السنةوقد قال تعالى عن يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به سورة النساء 123 وسيد المحبين المحبوبين خاتم الرسل وقد قال إني أعلمكم بالله واشدكم خشية لهوهو سبحانه لا يحب إلا الحسنات ولا يحب السيئات وهو يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين ولا يحب كل مختال فخور ولا يحب
الفساد ولا يرضى لعباده الكفر فإذا أحب عبدا وأذنب كان من التوابين المتطهرين وبعض الناس يقول الشاب التائب حبيب الله والشيخ التائب عتيقه وليس كذلك بل كل من تاب فهو حبيب الله سواء كان شيخا أو شابا وقد روى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أويسهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وهذا فعله مع عباده إذا أذنبوا إما أن يتوب عليهم وإما أن يبتليهم بما يطهرهم إذا لم يجعل السيئات تخفص درجتهم وإن لم يكن هذا ولا هذا انخفضت درجتهم بحسب سيئاتهم عن درجات من ساواهم في الحسنات وسلم من تلك السيئات كما قال سبحانه ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 لأهل الجنة ولأهل النار درجات من أعمالهم بحسبها كما قد بسط في غير هذا الموضع والعبد هو فقير دائما إلى الله من كل وجه من جهة أنه معبوده وأنه مستعانه فلا يأتي بالنعم إلا هو ولا يصلح حال العبد إلا بعبادته وهو مذنب أيضا لا بد له من الذنوب فهو دائما فقير مذنب فيحتاج دائما وإلى الغفور الرحيم الغفور الذي يغفر ذنوبه والرحيم الذي يرحمه فينعم عليه ويحسن إليه فهو دائما بين إنعام الرب وذنوب نفسه كما قال أبو إسماعيل الأنصاري إنه يسير بين مطالعة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وكما قال ذلك العارف للحسن البصري إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث للنعمة شكرا وللذنب استغفارا
وفي سيد الإستغفار أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي وفي الحديث الإلهي فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وكان يقول في خطبته الحمد لله نستعينه ونستغفره وفي القنوت اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك إلى آخره وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يحمد الله ثم يستغفره فيقول ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي ما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
والإستغفار مقرون بالحمد كما قرن بالتوحيد وكما قرن الحمد بالتحميد وقد جمعت الثلاثة في مثل كفارة المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وكان المقصود أن الجهمية المجبرة لما آمن منهم من آمن بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء ما وصاروا يوجبون الشكر شرعا فالداعي عندهم جزء من الشرع وأما داعي المعتزلة فهو أقوى من داعيهم فهم أحسن أعمالا وأعبد وأطوع وأورع كأهل السنة والمعرفة فهم يعبدونه مع الخوف والرجاء والشكر بداعي المحبة ومعرفة الحكمة والإلهية وهذه ملة إبراهيم الخليل فهم فوق هؤلاء كلهم والله تعالى أعلم آخره والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم

رسالة في تحقيق الشكر


فصل يتعلق بالشكرالمجبرة والقدرية والملاحدة لا يحمدون الله ولا يشكرونهاعلم أن أهل البدع القدرية من الجهمية المجبرة والقدرية النافية لا يحمدون الله ولا يشكرونه كما أنهم لا يعبدونه وأما أهل الإلحاد من المتفلسفة والباطنية فهم أبعد عن حمده وشكرهمقالة المجبرةوذلك أن المجبرة حقيقة قولهم أنه ليس برحيم ولا منعم بل ولا إله يستحق أن يعبد ويحب بل صدور الإحسان عنه كصدور الإساءة وإنما هو يفعل بمحض مشيئة ترجح الشيء على مثله لا لمرجح وكل الممكنات عندهم متماثلة فلا فرق بين أن يريد رحمة الخلق ونفعهم والإحسان إليهم أو يريد فسادهم وهلاكهم وضرارهم يقولون هذا كله عنده سواءومعلوم أن الإنعام إنما يكون إنعاما إذا قصد به المنعم نفع المنعم عليه دون إضراره وأما إذا قصد الأمرين فهذا ليس جعله منمعما مصلحا بأولى من جعله معتديا مفسدا كمن بيده سيف يضرب به صديق الإنسان تارة وعدوه أخرى أو معه دراهم يقوى بها تارة ويقويه بها تارة فهذا ليس كونه محسنا إليه بأولى من كونه ضارا له ومحسنا إلى عدوهمقالة القدرية النافيةوأما النافية فعندهم أن هذا كله واجب عليه البيان وخلق القدرة وإزاحة العلل والجزاء ومن فعل الواجب الذي يستحقه غيره عليه لم يستحق الشكر المطلق
وأيضا إنعامه بالهدى على المؤمنين والكفار سواء فشكر المؤمنين له على الهدى كشكر الكفار عليه إذ لم ينعم على المؤمنين بنفس الهدى بل هم اهتدوا بقدرتهم ومشيئتهم وإذن كان إنعامه على النوعين سواء ولكن هؤلاء هم الذين فعلوا ما يسعدون بهمقالة المتفلسفةوالمتفلسفة أرسطو وأتباعه عندهم أنه لا يفعل شيئا ولا يريد شيئا ولا يعلم شيئا ولا يخلق شيئا فعلى أي شيء يشكر أم على أي شيء يحمد ويعبدمقالة باطنية الشيعة والمتصوفةوالباطنية باطنية الشيعة والمتصوفة كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك بل يقولون الوجود واحد وجود المخلوق هو وجود الخالق فيجب عندهم أن يكون كل موجود عابدا لنفسه شاكرا لنفسه حامدا لنفسهمقالة ابن عربيوابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم وقد صرح بأن الله لم يعط أحدا شيئا وأن جميع ما للعباد فهو منهم لا منه وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعيانهم وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده فالرب إن ظهر
فهو العبد والعبد إن بطن فهو الرب ولهذا قال لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء ولهذا قال إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين فالداعي هو المدعو فكيف يدعو نفسه وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية فما بعد هذا شيء وقال فلا تطمع أن ترقى في أعلى من هذه الدرج فما ثم شيء أصلا وإن هذا إنما يعرفه خلاصة خلاصة الخاصة من أهل اللهفصرح بأنه ليس بعد وجود المخلوقات وجود يخلق ويرزق ويعبد ولهذا كان صاحبه القاضي يقولما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذموإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكموقد قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر
فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم الآية سورة النحل 53 54 إلى قوله سبحانه ولهم ما يشتهون الآية 57كفر باطنية المتصوفة أعظم من كفر الفلاسفةوهذه الآيات كما تناولت ذم الذين جعلوا له شريكا وولدا فتناولها لذم هؤلاء الملاحدة أعظم فإن القائلين بقدم العالم وأنه معلول جعلوه كله والدلالة قديما أزليا معه وهذا أعظم من قول أولئك والذين لم يجعلوه معلولا له قالوا إنه قديم معه واجب الوجود مماثل له بل وجعلوا الفلك هو الذي تحدث عنه الحوادث لكن حركته للشبه به وهذا أعظم من كل شرك في العالم ومن شرك المجوس والحرنانيين فإن أولئك وإن جعلوا معه قديما إما الظلمة وهي إبليس عند المجوس وإما النفس والهيولي عند الحرنانيين فهم يقولون إنه أحدث العالم وأنه ركبه من النفس والهيولي القدمين ورحبه من أجزاء النور والظلمةولهذا ذكر محمد بن كعب وغيره عن المجوس والصابئة أنهم قالوا عن الله لولا أولياؤه لذل فأنزل الله تعالى ولم يكن له ولي من الذل سورة الإسراء 111 فإنهم يجعلونه محتاجا إلى من يعاونه إذ كان
مغلوبا من وجه مع القدماء معه كما هو غالب من وجهوكفر أولئك أعظم فإنهم لم يجعلوا له تأثيرا في الفلك ولا تصرفا بوجه من الوجوه فهؤلاء تنقصوه وسلبوه الربوبية والإلهية أعظم من أولئك وجعلوه مع الفلك مغلوبا من كل وجه لا بقدر أن يفعل فيه شيئا وكقول عبدة الأوثان هو أجل من أن نعبده بل نعبد الوسائط وهو أجل من أن يبعث بشرا رسولا فجحدوا توحيده ورسالته على وجه التعظيم له وكذلك المجوس الثنوية أثبتوا الظلمة تنزيها له عن فعل الشر والحرنانيون أثبتوا معه النفس والهبلوي قديمين تنزيها له عن إحداث العالم بلا سبب فالأمم كلهم يعظمونه لكن تعظيما يستلزم شبهة وسبةكل ما بالخلق من نعمة فمن اللهوالمقصود هنا قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله سورة النحل 53 وقوله عز و جل وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه سورة الجاثية 13 فالأمر ضد ما قاله هؤلاء الملاحدة ابن عربي ونحوه حيث قالوا ما في أحد من الله شيء فيقال لهم بل كل ما بالخلق من نعمة فمن الله وحدهقال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إذا أصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قال إذا أمسى اللهم ما أمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر تلك الليلة رواه أبو داود وغيره
فكل ما بالخلق من النعم فمنه وحده لا شريك له ولهذا هو سبحانه يجمع بين الشكر والتوحيد ففي الصلاة أول الفاتحة الحمد لله رب العالمين وأوسطها إياك نعبد وإياك نستعين والخطب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وعن ابن عباس إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله فإن الله يقول فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين سورة غافر 65وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يصبح الحمد لله ربي لا أشرك به شيئا أشهد أن لا إله إلا الله ظل تغفر له ذنوبه حتى يمسي ومن قالها حين يمسي غفرت له ذنوبه حتى يصبح رواه أبان المحاربي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن عبد البر وغيرهفالحمد أول الأمر كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم والتوحيد نهايته ولهذا كان النصف من الفاتحة الذي هو لله أوله حمد وآخره توحيد إياك نعبدوالحمد رأس الشكر فالحامد يشكره أولا على نعمه ثم يعبده وحده فإن العبد أول ما يعرف ما يحصل له من النعمة مثل خلقه حيا وخلق طرق العلم السمع والبصر والعقل
وقد تنازع الناس في أول ما أنعم الله على العبد فقيل هو خلقه حيا أو خلق الحياة كما قال ذلك من قاله من المعتزلة وقيل بل إدراك اللذات ونيل الشهوات كما يقوله الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره كالقاضي أبي يعلى في أحد قوليه ومن أصحاب أحمد وغيرهم من قال بل أولها هو الإيمان ولم يجعل ما قبل الإيمان نعمة بناء على أن تلك لا تصير نعما إلا بالإيمان وأن الكافر ليس عليه نعمة وهذا أحد قولي الأشعري وأحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الفرجنعمة الله على الكفار وغيرهم ولكن نعمته المطلقة على المؤمنينوالصحيح أن نعمة الله على كل أحد على الكفار وغيرهم لكن النعمة المطلقة التامة هي على الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أمرنا أن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإن جعلت غير صفة لا استثناء فيها لم يدخل المغضوب عليهم ولا الضالون في المنعم عليهم وإن جعلت استثناء فقد دخلوا في المنعم عليهم لكن رجحوا الأول فقالوا واللفظ للبغوي غير ههنا بمعنى لا ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف عليها كما يقال فلان يغر محسن ولا مجمل فإذا كان غير بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد وقد روى عن عمر أنه قرأ صراط من أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم وغير الضالينوهذا قد ذكره غير واحد من أهل العربية ومثلوه بقول القائل إنى لأقر بالصادق غير الكاذب قالوا وغير هنا صفة ليست للإستثناء وأصل غير أن تكون صفة وهي في الآية صفة ولهذا خفضت كأنه قيل صراط المنعم عليهم المغايرين لهؤلاء وهؤلاءهذه هي النعمة المطلقة التامة والقرآن مملوء من ذكر نعمه على الكفار وقد قال تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم سورة البقرة 28 فالحياة نعمة وإدراك اللذات نعمة وأما الإيمان فهو أعظم النعم وبه تتم النعمفالإنسان بجبلته يطلب ما يوافقه ويتنعم به من الغذاء وغيره على هذا فطر فيعرف النعمة فيعرف المنعم فيشكره فلهذا كان الحمد هو الإبتداء فإن شعوره بنفسه وبما يحتاج إليه ويتنعم به قبل شعوره بكل شيء وهو من حين خرج من بطن أمه شعر باللبن الذي يحتاج إليه ويتنعم به وبما يخرج منه وهو الثدي فلهذا تعرف الله إليه بالنعم ليشكره وشكره ابتداء معرفته بالله فإذا عرف الله أحبه فعبده وتنعم بعبادته وحده لا شريك له وعرف ما في التأله له من اللذة العظيمة التي لا يعد لها لذة فلهذا كان التوحيد نهايته أوله الحمد وآخره إياك نعبدوكذلك في الجنة كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزياده فالنظر إليه أكمل اللذات وآخرها كما قال فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولهذا قيل أطيب ما في الدنيا معرفته وأطيب ما في الآخرة مشاهدتهوعبادته وحده بمحبته وقصد رؤيته هو لأهل السنة الذين يقرون بإلاهيته وحكمته وأنه يستحق المحبة وأن يكون هو أحب إلى العبد من كل شيءالجهمية والمعتزلة ينكرون محبته تعالى ويقرون بوجوب الشكروأما الجهمية والمعتزلة فينكرون محبته وحقيقة إلاهيته وعلى قولهم تمتنع عبادته لكن المعتزلة تقر بالنعمة ووجوب الشكر وعلى هذا بنوا دينهم وغاية الواجبات هي الشكر ولهذا قالوا الشكر يجب عقلا وأما العبادة والمحبة فلم يعرفوها ولم يصلوا إليها بل أنكروهاوأما الجهمية المجبرة لا هذا ولا هذا لكن يعترفون بقدرته وأنه يفعل ما يشاء ولهذا كانوا في الواجبات وترك المحرمات أبعد من المعتزلة فإنهم مرجئة مجبرة فلا يجزمون بالوعيد وهذا نصف الحرف الباعث على العمل ويقلون بالجبر وهذا نصف الإعتراف بحق الله على العبد ووجوب شكره فتضعف دواعيهم من جهة الخوف ومن جهة الشكر لا يشكرون نعمه الماضية
الجهمية المجبرة يضعف شكرهم وخوفهم ويقوى رجاؤهمولا يخافون عقوبته المستقبلة ولكن لما آمن من آمن منهم بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء وصاروا يوجبون الشكر شرعا وعندهم داعي الرجاء فالرجاء عندهم أغلب من الخوف وهو أحد المعنيين في تسميتهم مرجئة قيل إنه من الرجاء أي يجعلون الناس راجين فهم مرجية لا مخيفة لكن الصحيح أنهم مرجئة بالهمز من الإرجاء لكن يشارك الرجاء في الإشتقاق الأكبرالمؤمن يخاف الله ويرجوه ويحبهولهذا قيل من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو مؤمن موحدالقائلون بوحدة الوجود يحبون بدون خوف أو رجاءوذلك أن الحب الذي ليس معه رجاء ولا خوف يبعث النفس على اتباع هواها وصاحبه إنما يحب في الحقيقة نفسه وقد اتخذ إلاهه هواه فلهذا كان زنديقا ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية كالقائلين بوحدة الوجود فإن هؤلاء سلوكهم عن هوى ومحبة فقط ليس معه رجاء ولا خوف ولهذا يتنوعون
فهم من الذين قال الله فيهم أفرأيت من اتخذ إلهه هواه سورة الجاثية 23 ولهذا يجوزون الشرك كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية وما بعدها إلى قوله كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 32وهم في الحقيقة ينكرون محبة الله ولكن يقولون الحكمة هي التشبه به ولهذا كان ابن عربي يجعل الولي هو المتشبه به في التخلق بأسمائه وينكر اللذة بالمشاهدة والخطاب ويقول ما التذ عارف قط بالمشاهدة لأنها على أصله مشاهدة وجود مطلق ولا لذة فيهاووقع بينه وبين شهاب الدين السهروردي منازعة هل حين يتجلى لهم يخاطبهم فأثبت شهاب الدين ذلك كما جائت به الآثار وأنكر ذلك ابن عربي وقال مسكين هذا السهروردي نحن نقول له عن تجلي الذات وهو يقول عن تجلي الصفات
وهذا بناء على أصله الفاسد وهو أن الذات وجود مطلق لا تقوم به صفات لا كلام ولا غيره فيستحيل عند تجليها خطابوشهاب الدين كان أتبع للسنة والشرع منه ولهذا كان صاحبهما ابن حمويه يقول ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء ولكن نور المتابعة المحمدية على وجه الشيخ شهاب الدين شيء آخر لكنه كان ضعيف الإثبات للصفات والعلو لما فيه من التجهم الأشعري وكان يقول عن الرب لا إشارة ولا تعيينوهؤلاء مخانيث الجهمية وابن عربي من ذكورهم فهم يستطيلون على من دخل معهم في التجهم وإنما يقهرهم أهل السنة المثبتون العارفون بما جاء به الرسول وبمخالفتهم له وببطلان ما يناقصن السنة من المعقولات الفاسدة ولم يكن السهروردي من هؤلاء وكذلك الحريري قال كنت أثبت المحبة أولا ثم رأيت أن المحبة ما تكون إلا من غير لغير وما ثم غير
فهؤلاء منتهاهم إنكار المحبة التي يستحقها الرب ولهذا لا يتابعون رسوله ولا يجاهدون في سبيله والله وصف المؤمنين بهذا وبهذا فمحبة هؤلاء تجر إلى الزندقةوأيضا فقد يقولون إن المحب لا تضره الذنوب وصنف ابن حمويه في ذلك مصنفا بناه على ما يقال إذا أحب الله عبدا لا تضره الذنوب وهذا إذا قاله المحق فقصده أنه لا يتركه مصرا عليها بل يتوب عليه منها فلا تضره فأخذه هؤلاء وقالوا إن الذنوب لا تضر المحبوبين وأحدهم يقول عن نفسه إنه محجوب فلا تضره الذنوب فصاروا مثل اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه سورة المائدة 18 فصار فيهم زندقة من هذا الوجه ومن غيرهبيان مقالة أهل السنةوقد قال تعالى عن يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به سورة النساء 123 وسيد المحبين المحبوبين خاتم الرسل وقد قال إني أعلمكم بالله واشدكم خشية لهوهو سبحانه لا يحب إلا الحسنات ولا يحب السيئات وهو يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين ولا يحب كل مختال فخور ولا يحب
الفساد ولا يرضى لعباده الكفر فإذا أحب عبدا وأذنب كان من التوابين المتطهرين وبعض الناس يقول الشاب التائب حبيب الله والشيخ التائب عتيقه وليس كذلك بل كل من تاب فهو حبيب الله سواء كان شيخا أو شابا وقد روى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أويسهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وهذا فعله مع عباده إذا أذنبوا إما أن يتوب عليهم وإما أن يبتليهم بما يطهرهم إذا لم يجعل السيئات تخفص درجتهم وإن لم يكن هذا ولا هذا انخفضت درجتهم بحسب سيئاتهم عن درجات من ساواهم في الحسنات وسلم من تلك السيئات كما قال سبحانه ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 لأهل الجنة ولأهل النار درجات من أعمالهم بحسبها كما قد بسط في غير هذا الموضع والعبد هو فقير دائما إلى الله من كل وجه من جهة أنه معبوده وأنه مستعانه فلا يأتي بالنعم إلا هو ولا يصلح حال العبد إلا بعبادته وهو مذنب أيضا لا بد له من الذنوب فهو دائما فقير مذنب فيحتاج دائما وإلى الغفور الرحيم الغفور الذي يغفر ذنوبه والرحيم الذي يرحمه فينعم عليه ويحسن إليه فهو دائما بين إنعام الرب وذنوب نفسه كما قال أبو إسماعيل الأنصاري إنه يسير بين مطالعة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وكما قال ذلك العارف للحسن البصري إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث للنعمة شكرا وللذنب استغفارا
وفي سيد الإستغفار أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي وفي الحديث الإلهي فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وكان يقول في خطبته الحمد لله نستعينه ونستغفره وفي القنوت اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك إلى آخره وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يحمد الله ثم يستغفره فيقول ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي ما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
والإستغفار مقرون بالحمد كما قرن بالتوحيد وكما قرن الحمد بالتحميد وقد جمعت الثلاثة في مثل كفارة المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وكان المقصود أن الجهمية المجبرة لما آمن منهم من آمن بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء ما وصاروا يوجبون الشكر شرعا فالداعي عندهم جزء من الشرع وأما داعي المعتزلة فهو أقوى من داعيهم فهم أحسن أعمالا وأعبد وأطوع وأورع كأهل السنة والمعرفة فهم يعبدونه مع الخوف والرجاء والشكر بداعي المحبة ومعرفة الحكمة والإلهية وهذه ملة إبراهيم الخليل فهم فوق هؤلاء كلهم والله تعالى أعلم آخره والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم